نقد النقد الأدبي الهوية النوعية

نقد النقد الأدبي  الهوية النوعية

تقترن بعض كتب نقد النقد الأدبي بـ«وصف» الكتب النقدية، دون تحليل منهجي أو مناقشة معرفية، ويرتبط البعض الآخر بـ«محاكمة» نقاد الأدب، عَبْر الإشارة إلى ما أغفلوه في دراستهم وليس ما حللوه عليه ودرسوه، ويتّصل بعضها الآخر بدراسة علمية منتجة لمنجزات النقد الأدبي. من هنا، يكشف الإنتاج في كتابة نقد النقد الأدبي، أثناء تحقُّقه في مرحلةَ إنجاز، عن مسار ممتدّ أسُّه الفكر والفعل. بهذا المعنى، فإنّ إنتاجَ نقد النقد الأدبي، بوصفه نموذجًا خاصًا في كتابة محكومة بضوابطَ مميزة، يستدعي الفكر دائمًا، ليحقق الإنسان الباحث بلغة، وناقد النقد بلغة أخرى، كينونته الكاشفة ارتقاءً نوعيًا، ويبلورَ منجزًا معرفيًا يؤمّنُ له الانتسابَ، بفعلِهِ الدّال، لعالمِ نقد النقد الأدبي وخطابه المعرفي. 

 

من هنا، فإنّ إنجاز نقد نقد أدبي، يكونُ جديرًا بهذه الصّفة، يعني تخليصَ الممارسة النقدية من صفتي الأهواء والعشوائية؛ فتتراءى كتابة منفصلة عن تلقائية حدسيّة، ومتصلة بالإتقان المضبوط بالتنظيم والمعرفة. 
تقوم صياغة منجز نقد النقد، إذًا، على عناصر تستقي أساسَها من الفكر البنّاء والفعل الخلاّق. لهذا، فإنّ إنتاج نقد النقد الأدبي يتبدَّى مقترنًا بمسار وجودي معرفي توجّهُه معطيات إبستيمولوجية تكشفُ تراكمًا قرائيًا وكتابيًا، واحتمالات حوارية مع الآخر بما يفيدُ تواصلًا معرفيًا معه، ورؤية ذاتية تبيّن نسبية المعرفة النقدية، فيظهر نقد النقد الأدبي موجّهًا بأفكار الذات الكاشفة رؤية لا حقيقة؛ على اعتبار أنّ حضور ذاتية الباحث قد يقوّي الشّعور بـ«عذوبة» تعبيرها (الأنا) أثناء الدراسة والتحليل، وإنّ كان موضوعُه علمًا يقينيًا، كما يتجلّى في قول عالمة الرياضيات الروسيّة صوفيا كوفاليفسكي (1850-1891) الآتي: «لا وجود لكلام يُعبّر عن عذوبة الإحساس بوجود عالَمٍ كامل تغيبُ عنه الأنا غيابًا تامًّا». (أورده: سيوران، تمارين في الإعجاب، ترجمة: آدم فتحي، منشورات الجمل، بيروت - بغداد، ط1، 2021، ص 100).
يتبيّن أنّ نقد النقد الأدبي ليس «نميمة» في النّص النقدي وحوله، وليس كذبًا عليه وافتراء. نقد النقد الأدبي معرفة وتحليل ودراسة وبحث في عوالم القضايا النظرية المختلفة، وفي عوالم النصوص النقدية المتنوعة؛ أهداف، ودلالات، وبنية، وثقافة، ومفاهيم، ومنهج... إلخ. لذلك، فإنّ ذاتية النقد تصيِّرُ ناقد النقد «مبدعًا» بطريقته، وتحرّره من أيّ فعل غايته ذمّ الآخرين، كما يدلّ عل ذلك دالُّ الانتقاد، لا النقد، أحيانًا. من هنا، فإنّ ممارسة نقد النقد الأدبي يجب، ضرورة، أن تَصيرَ مرادفة لإنتاج المعرفة بالقضايا والظواهر والنصوص النقدية، ومن الأفضل أن تكون «معرفة مركّبة» بها، ومُجمل القيّم والأبعاد والعوالم المختلفة التي تحيل عليها محتوياتها ومنهجها وجهازها المفاهيمي، خاصة الأبعاد المحتجبة عن الظهور. بهذا المعنى، فإنّ نقد النقد الأدبي، بوصفه مجموعة من المراحل والأفكار والمعارف والقدرات والمهارات...، ليس مجرَّد فعل متاحٍ لأيّ كان. 

قدرات الناقد
لا يتحقّق نقد النقد الأدبي إنتاجًا بكَمِّ المعرفة المطَّلع عليها، بل يتولّد من قُدرات الناقد في تدبيرها، وِفْق سياقات تشكّل نقد النّقد وتولّده. بهذا المعنى، فإنّ ممارسة نقد النقد لا تقوم على إغلاق حقل المعرفة، وتسييج عالمها، بل، فقط، بوضع إطار للحركة والتوظيف والاستثمار. ذلك يفسحُ المجال لـ«ذاتية» ناقد النقد في تدبير معرفته، وبناء إنجازه النقدي باقتدار ومسؤولية. إنها معرفة موجّهة، في سياق نقد النقد الأدبي، بالجِدَّة والإنتاجيَّة والملاءمة؛ حيث الجِدَّة تبرهن على المواكبة الدائمة، والإنتاجية تُعبّر عن توليد أفكار جديدة من أفكار محقّقة، والملاءمة تكشفُ الوعي بحدود النقد الأدبي الإبستيمولوجية، وما يوافق إنتاجه، الخلاّق والفعّال، من أفكار تقوّي الاقتناع به، لا رفضه المُعبِّر عن ضعفه المعرفي.
يوجدُ نقد النقد الأدبي، إذًا، لحظة التَّحقُّق، لأنّ كينونته مرهونة بالإنجاز. لذلك، فإنّ التخطيط والبرمجة والتفكير... مُجرَّد آليات إجرائية ومحطات معرفية لتحقيق الفعل النقدي، وليست الفعل ذاته. بهذا المعنى، فإنّ التفكير في «لوازم» نقد النقد وشروطه يجبُ أن يكون موجّهًا بإحساسٍ ذاتيّ، ووعي فردي، يسهمُ في قياس، بدقّة، المسافة الفاصلة بينّ التّصوّر والإنجاز. من هنا، فإنّ نقد النّقد الأدبي الحقّ يبتعد عن الارتجالية ويُعادي العشوائية، ولا يتحقق بالصدفة والحظ. إنّ نقد النقد الأدبي، إذًا، تنظيمٌ منهجي وانضباط معرفي، ما يجعلهُ «علامةً» على التوظيف العقلاني، الصحيّ، لأفكار ومعارف الذات والآخرين. لهذا، فأنْ يُمارسَ الباحث نقد النقد الأدبي معناه امتلاكه لإرادة تفعيل «المعرفة المركّبة»، لأنها أساسُ تحقيق نقد فعّال وخلاّق ومؤثر. هكذا، يصيرُ نقد النقد الأدبي، في تحققه، مقرونًا بالجديد المعرفي؛ جديد يُعبِّر عن جهد مبذول، وليس دالًا على فكر مرذول قوامه النّسخ واللصق.

الفكر والعقل
يحدّدُ الفكر المتنوّع نقد النقد الأدبي، ويُسعف التراكم القرائي الكبير في تحقيقه. كأنّ قوّة نقد النقد الأدبي تُقاسُ بالفكر والفعل، وبهما معًا تتحدّدُ «بصمة» ناقد النقد الخاصة. من هنا، فإنّ ناقد النقد النوعيّ يمتلك أسلوبه الخاص، والدّال عليه، ومن يريدُ أنْ يُقلِّدُ أسلوب ناقد معيّن، دون العمل على بلورة ذاتيته النقدية، فإنه يبقى في حدود التقليد والتكرار، ولن يَصلَ إلى آفاق التجديد والتميّز.  
يظهر أنّ إنتاج نقد النقد الأدبي يمرُّ عَبْرَ ذاتِ الناقد؛ بوصفها ذاتًا تفكّر، وتخطّط، وتنجز، وتراجع، وتتجاوز ذاتها في كلّ إنجاز جديد. إنها ذاتٌ تؤمّنُ الانتقال من مجهول النقد أو الفكر إلى مَعْلُومه، ومن احتجاب أهدافه وخفاء غاياته وتنوع مفاهيمه، بفعل مضمرات طرق بناء عوالمه الدلالية والتنظيمية، إلى انكشافه وظهوره. كأنّ خطاب نقد النقد، بوصفه تحليلًا ودراسة، قائمٌ على مرتكزٍ معرفي هدفهُ تنوير الإنجاز النقدي، بفعل مساءلة بنياته وأنساقه وأفكاره وأهدافه، وكشف عوالمه وأبعاده وانتظامه المنهجي والتقني. من هنا، فإنّ نقد النقد الأدبي، في جوهره المعرفي، يفيد النقد الأدبي أثناء دراسته. لهذا، ليس هناك نقد للنقد مهتمّ بالعاطفة والأهواء، بل ثمة نقد نوعي مشتغل عبر إطار معرفي وخلفية منهجية، على إنتاج «الأفكار» المتنوعة أثناء تحليل نصوص نقدية، ودراسة مختلف عناصر تكونها. 

الهوية النوعية
يتأسس خطاب نقد النقد، إذًا، على مفاهيم متصلة بالدينامية والإنتاجية والفاعلية. لهذا، نرى ضرورة الإشارة إلى أفكار تهمُّ الهوية النوعية لنقد النقد الأدبي، انطلاقًا من تجربة عملية شملت نقد عدّة كتب نقدية، يبقى من بينها الأفكار الآتية:
- إنّ الدراسة والتحليل هي ما يجب أن يؤسس أيّ نقد للنقد؛ سواء أكان متّجهًا لدراسة النقد الأدبي، أم مُوجَّها لدراسة غيره من الممارسات النقدية المعرفية. لذلك، فإنّ التحليل النقدي يرتبط بكلّ ممارسة نقدية ذات صِلَة بنقد النقد الأدبي. لكن، هل الكلّ قادر على تحليل النقد الأدبي؟ الجواب، تأكيدًا، هو: لا. ليس الجميع بإمكانه تشغيل «التحليل» أثناء ممارسة نقد النقد الأدبي، بل قِلّة قليلة مَنْ تقوم بذلك، إذ الأغلبية تميل لـ«وصف» الأعمال النقدية، مكتفية بظاهر محتوياتها. 
- يتراءى نقد النقد الأدبي، في الإنجاز القائم على التحليل، متّصلًا بالتفكير النقدي الحواري؛ لأنه يخلق حوارًا معرفيًا، عَبْر آليات التحليل والتقييم والبرهنة والوصف والاستنباط والمقارنة... إلخ. لهذا، يتأكد أن إنتاجية نقد النقد الأدبي المعرفية رهينة بالعقلانية والاستقلالية والعمق في التفكير النقدي التحليلي. من هنا، فإنّ نقد النقد الأدبي، في تحققه النّصيّ، يجبُ أن يتجاوز «مهارة» الوصف، نحو سياق نقدي أسّه طرح أسئلة تُعدُّ مدخلًا منهجيًا للدراسة، تبحث في معنى المنهجية والتنظيم والأهداف والمحتويات والمفاهيم والآليات النقدية والمتن المدروس.
- إنّ نقد النقد الأدبي يشير إلى «لحظة» و«مرحلة» نقدية متقدّمة على النقد الأدبي؛ حيث يصير نقد النقد مقرونًا بدراسة النقد الأدبي، وتحليل مكوناته وعوالم نصوصه. لهذا، فإنّ إنتاجية نقد النقد الأدبي ظلّت مرتبطة بالبحث في النقد الأدبي، تحليلًا ودراسة، لأجل تيسير فهمه من لَدُن «الأخر». لذا، ينطوي التمييز بين النقد الأدبي ونقد النقد الأدبي على رغبة «علمية» في وضع الحدود الضابطة لكلّ نوع نقدي؛ بوصف الحدود، هنا، دالة على التّميّز، وليس على التفاضل.
- يسعف نقد النقد الأدبي، القارئ أساسًا، في تجاوز «الحيرة» والارتباك والقلق المعرفي الذي يصاحبه أثناء «قراءة» عمل نقدي، ثم يجد صعوبة في فهم الكثير من محمولات مباحثه وفصوله. بهذا المعنى، فإنّ نقد النقد الأدبي يُعدُّ «وسيطًا» هامًا لتفسير وتقييم النقد الأدبي، وكشف فاعليته وإنتاجيته وديناميته.  
- إنّ نقد النقد الأدبي، بصفته مجالًا معرفيًا مستقلًا بذاته، وبوصفه إطارًا منهجيًا ومعرفيًا يهتمُّ بالنقد الأدبي، يظلُّ «نوعًا» نقديًا خاصًا، بالنّظر للعلاقات، المؤسَّسة على التحليل والتعليل، التي يقيمها مع خطاب النقد الأدبي ونصوصه. لهذا، ينتهي نقد النقد الأدبي إلى مجال إبستيمولوجي شديد الصّلة بخطاب النقد الأدبي، ويُعدُّ مجالًا قابلًا، بدوره، للفحص المعرفي والدراسة النقدية، ومفتوحًا على التّجدّد الدائم، لكن بمنطلقات عقلانية منهجية مبرّرة ومحدّدة.
- يرتبط نقد النقد الأدبي، في كلّيته، بكلّ ما له صلة بالنقد الأدبي، من زاوية تحليلية أسُّها العقل، وغايتها إدراك النقد الأدبي في ماهيته ومحمولاته ومنهجيته وأهدافه المعرفية. من هنا، فإنّ العلاقة التي تجمع نقد النقد الأدبي بالنقد الأدبي لا تقوم على منطلقات ذوقية، بل على محدّدات إبستيمولوجية. إنّ ذلك لا يحكم على ذات ناقد النقد بالغياب المطلق، بل يجعلها ذاتًا موجهة بالأحكام والمواقف الموضوعية، وبـ«الروح» العلمية، وبالوعي النقدي المنطقي المدعوم بالمعرفة. إنه «إطار» نقدي يبلور معرفة نقدية تسمح، للذات والآخرين، بإدراك الفرق النوعي بين النقد الأدبي ونقد النقد الأدبي ■