شعرية محمد الماغوط وهج الإدهاش العفوي ولعبة الحكي الشعري

شعرية محمد الماغوط  وهج الإدهاش العفوي ولعبة الحكي الشعري

يُشكّل محمد الماغوط حالة شعرية نادرة في مسيرة الشعر العربي الحداثي، ذلك أنه وهو يكتب، كان يكتب ببراءة الطفل وحكمة الشيخ في ذات الآن، حتى وهو في مقتبل عمره الشعري. وظل على هذه الحال الشعرية المتميزة حتى وفاته. لم يكن شعر محمد الماغوط يتبع قوالب شعرية دقيقة يسير عليها، وإنما كان وهذا هو الجميل في الأمر، كان يخلقها بشكل تلقائي ينم عن ذائقة شعرية هائلة. ذائقة شعرية تنتمي للمستقبل، وليس للماضي أو حتى للحاضر الذي كان يكتب فيه، وانطلاقًا منه.

 إنه كما قالت عنه الشاعرة سنية صالح رفيقة دربه في الحياة وفي الشعر، وهي تقدم لمجموعة أعماله الصادرة عن «دار العودة»: هو «جزء من المستقبل، لذا كان لا بد من حمايته من غباء الحاضر». وهو أمر يدعو إلى التساؤل والإعجاب في ذات الوقت. التساؤل يتمثل في محاورة شعره على الدوام وطرح الأسئلة عليه، والإعجاب يتمثل بالخصوص في الحرص على مصاحبته في شعره وجعل هذا الشعر يمتد في تراب الشعر العربي الحداثي باستمرار. وهما معًا ما يدفعنا الآن لمقاربة هذا الشعر في هذه الدراسة التي سنتوقف فيها بالتحديد عند ديوانه الأول «حزن في ضوء القمر». هذا الديوان الذي شكّل صحبة دواوين شعرية أخرى لشعراء آخرين منهم أنسي الحاج تحديدًا، محطة أساسية من محطات الشعر العربي الحداثي، وهو يسعى جاهدًا لتحقيق فرادته، أو على الأقل بعضا منها. 
1- شعرية الإدهاش العفوي
نقصد بشعرية الإدهاش العفوي، ذلك الانزياح الشعري الذي يتحقق على مستوى البنية التركيبية للقصيدة من جهة، كما يتحقق في نفس الوقت على مستوى البنية الدلالية لها، عن طريق لعبة التشبيهات غير العادية، والاستعارات العميقة التي تتوفر في القصيدة بشكل عفوي، أو على الأقل، هذا ما يتراءى للوهلة الأولى للمتلقي، وهو يقوم بعملية قراءتها، على اعتبار طبعًا أن الشعر الحداثي المُتحدث عنه في هذه التجربة هو شعر قراءة لا شعر سماع. هذا الإدهاش العفوي، الذي يكون - طبعًا - وليد تجربة عميقة في الحياة من جهة ووليد ثقافة لا تقل عمقا عنها في التراث الثقافي العربي منه والغربي على حد سواء، حتى وإن لم يتم التصريح به، بغية تحقيق فعل الإدهاش وجعله يبلغ مداه الأقصى،من جهة أخرى. 
إنّ هذا الإدهاش الشعري العفوي يتجلى في بداية الأمر، انطلاقًا من عنوان الديوان الشعري نفسه، وعنوان القصيدة الأولى فيه «حزن في ضوء القمر» في نفس الوقت، على اعتبار أن الحزن يرتبط بالانطواء وبرغبة الذات في الانغلاق على نفسها، والانزواء بعيدًا عن الآخرين. لكنه هنا، أي الحزن، يُعلن عن وجوده تحت ضوء القمر. هذا الضوء الذي كثيرًا ما تغنى به الشعراء قديمًا، وجعلوه منبع حبهم، واستحضار قوي لطيف الحبيبات الغائبات. ضوء ينير لهم سبل الحياة، لا ضوء يأتي لهم بالحزن، كما هو عند الشاعر محمد الماغوط، حتى و إن لم يتخلص العنوان بشكل كلي من النفحة الرومانسية التي تظل مصاحبة له، شاء صاحبه ذلك أم أبى. لكن كل ذلك يختفي أو على الأقل يُصيبه التشويش، ونحن نلج عالم القصيدة الحاملة لهذا العنوان، أي قصيدة «حزن في ضوء القمر».
تبتدئ القصيدة بشكل انسيابي مذهل، فالشاعر يعلن منذ البداية شغفه الرائع بالربيع. لكنه ليس الربيع العادي الذي تعرفه الأرض، و إنما  ذلك الربيع العاطفي المتوهج الذي يأتي، وعلى حين بغتة، من عيني الحبيبة. هذه الحبيبة غير المصرح بها لحد الآن. إنه ينادي الربيع وينادي طائر الكناري المصاحب له والمعلن عن وجوده بأن يأخذه إلى مكان هذه الحبيبة. وليكن ذلك، حتى تكتمل هذه اللوحة الشعرية الرومانسية على مستوى الدلالة والحداثية على مستوى التركيب الشعري، في ضوء القمر.
إن الشاعر هنا، وهو يُعلن عن هذه الرغبة الإنسانية القوية التي اعترته فجأة في الذهاب عند الحبيبة ورؤيتها، يجعل من ذاته، كما الشعراء في الغالب، بكونه يعاني من التشرد وأن قلبه جريح من جراء هذا البعد. لكن سرعان، ما يتحقق فعل الإدهاش العفوي عن طريق الانتقال من هذه الصورة العاطفية ذات البعد الرومانسي الواضح إلى صورة رمزية موغلة في الميتولوجيا. ذلك أنه وهو المتشرد الجريح يغوص في ثنايا المطر، ويفكر بامرأة شهية رآها ذات مرة. إنها عودة إلى لغة الطفولة والحلم، والقيام بعملية مزجها بواقعه المعيش، حين يربطها تحديدًا بمعاقرة النبيذ وقرض الشعر.
هكذا يُصالح الشاعر هنا في هذه الصور الشعرية المتتالية بشكل عفوي عن طريق لعبة التداعي الحر بين ثلاث صور مختلفة المصادر: صورة أولى رومانسية تستحضر الأجواء العاطفية في بعدها المازوشي وصورة ميتولوجية  تذهب بالصورة الأولى لتحولها من إطارها العادي إلى إطار رمزي، وصورة  ثالثة واقعية تجعل من الصورتين الأوليين ظلين لها. وهو ما يحقق في النهاية ذلك الإدهاش الشعري العفوي الذي لا يوجد الشعر إلا من خلاله. وحين يتم الإعلان عن الحبيبة عن طريق تقديم صورة جمالية لها، تكون هذه الصورة على الشكل التالي: «قل لحبيبتي ليلى/ ذات الفم السكران والقدمين الحريريتين/ أنني مريض ومشتاق إليها / إنني ألمح آثار أقدام على قلبي». وإذا كان الشاعر هنا يعلن عن هذه الحبيبة بشكل شاعري غاية في الإبداع، خصوصًا وهو يستعمل تشابيه، لم تكن سائدة في ذلك الوقت في الشعر العربي الحداثي، حتى وإن وجدنا لها صدى عند كل من الشاعرين الفرنسيين الكبيرين شارل بودلير وأرتير رامبو على وجه الخصوص، فإنه  سرعان ما يعود ليربط هذه الصورة الشعرية الأنثوية الباذخة بصورة المدينة التي كان يعيش فيها، أي مدينة دمشق، وهو ما يفتت تركيز المتلقي ويخلق لديه بؤرة توتر هو غاية الشعر ووسيلة تحققه في ذات الآن. يقول الشاعر في هذا الصدد ما يلي: «دمشق يا عربة السبايا الوردية / وأنا راقد في غرفتي/ أكتب وأحلم وأرنو إلى المارة / من قلب السماء العالية/ أسمع وجيب لحمك العاري». 
إن هذا الانتقال المفاجئ من تصوير الحبيبة إلى تصوير المدينة، والرغبة في جعلهما معًا يأخذان وجهًا شعريًا واحدًا، هو ما يسعى الشاعر إليه. لكنه يفعل ذلك بطريقة إيحائية تمنح للفعل الشعري أن يأخذ مداه الرمزي دون ضوضاء أو جلبة. وهو ما ميز شعر محمد الماغوط، وجعل منه رائدًا في هذا الباب، على عكس كل من الشاعرين بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي اللذين كان يحضر الرمز عندهما بشكل مصرح به وقل نفس الأمر عن كثير من معاصريهم.  
إن هذا التحول الشعري العميق من اللحظة الرومانسية إلى اللحظة الميتولوجية إلى اللحظة الواقعية في نفس القصيدة الواحدة هو ما شكل تميز محمد الماغوط في تلك الفترة الزمنية من عمر الشعر الحداثي، حتى لا نقول الشعر الحديث.     
إن الشاعر يعلن مرة أخرى متوجهًا بحديثه إلى تلك الحبيبة ما يلي: «أيتها العشيقة المتغضنة / ذات الجسد المغطى بالسعال والجواهر/ أنت لي/ هذا الحنين لك يا حقودة!». 
 هذا هو شعر محمد الماغوط، انسياب نثري هائل، وصور شعرية تبدو للوهلة الأولى، وكأنها تأتي بشكل عفوي من خلال التداعيات الحرة، لكن بعد التمعن فيها تبدو متجهة، بتعبير موريس بلانشو، نحو مركز معين، هو مركز الذات بكل تشظياتها. الذات التي لا تنكمش على نفسها، كما هي الحال عند الشعراء الرومانسيين، بل تلك التي تُقسم نفسها في ذوات متعددة وتصبح بالتالي معبرة عن هذه الذوات كلها. 
2- لعبة الحكي الشعري 
جاءت قصيدة النثر، كما يُعلن عن ذلك اسمها لتُفتت مفهوم الجنس الأدبي الخالص، ذلك الجنس الأدبي غير المتحقق فعلاً على صعيد الكتابة الفعلية إلا في أحاديث النقاد عن الأدب وتنظيراتهم له. ذلك أن هذه القصيدة تحتوي داخلها على الشعر باعتباره انزياحًا دلاليًا وتركيبيًا وإيقاعيًا عن النثر، بتعبير جان كوهن في كتابه الشهير « بنية اللغة الشعرية». كما تحتوي على النثر باعتباره حكيًا للتفاصيل وتسجيل لها. من هنا، فكثيرًا ما حملت هذه القصيدة، أي قصيدة النثر، سواء عند محمد الماغوط، أو عند الذين جاؤوا من بعده حكيًا شعريًا إما عن سيرة صاحبها في الحياة أو عن الذين يرغب في الحديث عنهم.  وتبعًا لذلك نرى أن كل قصائد محمد الماغوط في ديوانه «حزن في ضوء القمر» مليئة بهذا الحكي الشعري عن الذات. لكأن الشاعر يحكي للمتلقي سيرته الذاتية عبر قصائده. ففي قصيدة «جنازة النسر» يعلن الشاعر عن ضياعه البوهيمي حيث لا امرأة له، ولا عقيدة، وحيث يتحول السير ليلاً بالنسبة إليه إلى هواية مفضلة في غياب ما يحب. كما يُتابع حكي هذه السيرة الذاتية أو على الأقل صُورًا منها، في قصيدته «أغنية لباب توما» مُعلنًا فيها بقوة بكونه ما يزال وحيدًا وقاسيًا، وما يزال كما كان غريبًا. كما أنه في قصيدة «في المبغى» يصف ذاته، بكونه يرضع التبغ، ليتواصل هذا الحكي الشعري في امتداده في بقية قصائد الديوان بشفافية كبرى وعبر كلمات تنزاح في تراكيبها عن الكلمات العادية، لتُؤسس عالمًا شعريًا لا يمت بأي صلة إلا لصاحبه. يقول محمد الماغوط في قصيدة «المسافر» ما يلي: «بلا أمل/ وبقلبي الذي يخفق كوردة حمراء صغيرة/ سأودع أشيائي الحزينة في ليلة ما.../ بقع الحبر/  وصمت الشهور الطويلة/ والناموس الذي يمص دمي/ هي أشيائي الحزينة/ سأرحل عنها بعيدًا... بعيدًا». إن الشاعر هنا، وهو يطلق العنان لنفسه، كما يقال عادة، لا يجد إلا ذاته ليُعبر عنها. ذلك التعبير المدهش الذي يتخذ من سرد التفاصيل الصغيرة بكل العمق الوجداني الذي تحمله في طيها سبيلا لقول الشعر وكتابته.  
إن الشعر هنا يتحول إلى سجل صغير لحياة صاحبه بكل عنفوانها وبوهيميتها الجميلة. تلك البوهيمية التي لا يمكن أن يعيشها ويعبر عنها بهذا العمق إلا كبار الشعراء، ومحمد الماغوط واحد منهم بامتياز. إن الشاعر هنا، وهو يقدم ليس في هذه القصيدة الرائعة فحسب بل في كل قصائد هذا الديوان الشعري صورًا مجزّأة من حياته أو متخيلة لها، لا فرق، يعطينا صورة مكتملة عن الشاعر، كما يحب أن يكونه محمد الماغوط.  
هكذا نجده في بعض قصائد الديوان، كما هي الحال، في قصيدة «الشتاء الضائع»، يعود إلى بيتهم القديم ليصف انطلاقًا من هذه العودة النوستالجية سيرة طفولته الذاهبة إلى ما لانهاية. يقول الشاعر ما يلي: «بيتنا الذي كان يقطن على صفحة النهر/ ومن سقفه المتداعي/ يخطر الأصيل والزنبق الأحمر/ هجرته يا ليلى/ وتركت طفولتي القصيرة/ تذبل في الطرقات الخاوية/ كسحابة من الورد والغبار/ غدا يتساقط الشتاء في قلبي/ وتقفز المتنزهات من الأسمال والضفائر الذهبية/ وأجهش ببكاء حزين على وسادتي/ وأنا أرقب البهجة الحبيبة/ تغادر أشعاري إلى الأبد».
هكذا نلاحظ أن قصائد هذا الديوان الشعري تستمد مضامينها العميقة من سيرة الشاعر نفسه. تلك السيرة الذاتية المتوهجة بالشعر باعتباره رفيق دربها، والشاهد على امتداداتها في الحياة.
إن هذا الديوان «حزن في ضوء القمر» بالرغم من كونه هو الديوان الأول للشاعر، وربما بسبب ذلك، قد حمل النواة المتوهجة للذات الشاعرة وهي تخترق بنية الكلمات معبرة بها عن كل ما تراه في العالم المحيط بها. وهي أي هذه الذات الشاعرة تكشف بشفافية كبيرة عن معاناتها وعن آلامها، كما تكشف في ذات الوقت عن طموحاتها وآمالها. وهي طموحات وآمال بسيطة، بساطة الحياة. هذه الحياة التي تتمثل في نظر الشاعر في العيش بحرية والتطلع إلى الوجود بكل معاني الكرامة الإنسانية. كما أن تشكيلة هذا الديوان من خلال اللغة المستعملة في قصائده قد انحاز شأن كل كتابات الشاعر محمد الماغوط الشعرية بعد ذلك إلى قصيدة النثر، بكل انزياحاتها التعبيرية القوية، وبكل معالمها التصويرية الهائلة التي لا يمكن أن تترك المتلقي محايدًا. بل إنها تجرّه جرًا إليها لينغمس في كونها المشع بالدهشة والمسحور بفعل السحر الكوني، سحر الكلمات ■