أفريقيا في الرحلات الاستكشافية الأمريكية «القرن 19» أوسا جونسون «تزوجتُ مغامرة» نموذجًا

أفريقيا في الرحلات الاستكشافية  الأمريكية «القرن 19»   أوسا جونسون «تزوجتُ مغامرة» نموذجًا

   شهد الأدب الأمريكي في القرن التاسع عشر تزايدًا في عدد الرحلات الاستكشافية الجغرافية، والأثرية، والسياحية، وغيرها من الأنواع، التي قصدت أفريقيا، وإن كان أكثر من قام بها وألفها من الرجال، فإننا لا نعدم تسجيل إسهام عدد من النساء في هذا الفن ممن كن مغامرات، وسائحات في البلدان، أو شخصيات أكاديمية متخصصة في البحث والاستكشاف، أو مرافقات لأزواجهن في مهامهم الاستكشافية، أو الدبلوماسية.

 

مثلت الكتابة النسوية للرحلات عند الرحالات الأمريكيات الكثير من الخصوصيات في اللغة، والسرد، وفي القيم والإيديولوجيا المبثوثة في نصوصهن، وكثيرًا ما لامسن قضايا المرأة، ودافعن عنها، كما أظهرن تميزًا في سرعة تأقلمهن مع السكان، وتعاطفهن معهم في حالات، لكنهن لم يستطعن في حالات أخرى التخلص من الصور والكليشيهات الخاطئة والسيئة اللصيقة بالآخر، وبالشعوب المختلفة عنهن في الثقافة،  وظلت كتاباتهن السردية لصيقة بالخطابات الاستعمارية في عصرهن، ومن  أشهر الرحالات اللواتي قصدن القارة الأفريقية نذكر: الرحالة نيللي بلاي 
(1864 - 1904) مؤلفة رحلة «حول العالم في اثنين وسبعين يومًا» (1890) متأثرة بكتاب جول فيرن «حول العالم في ثمانين يومًا» الصادر عام 1873، وماي فرانش شالدن (1847-1936)  برحلتها إلى مومباسا وكليمنجارو بأفريقيا عام 1891، ورحلتها «من سلطان إلى سلطان مغامرات بين قبائل الماساي والقبائل الأخرى في شرق أفريقيا»، كذلك نجد في الفترة ذاتها فاني بولوك، كانت عالمة جغرافيا وخرائط، ومتسلقة للجبال، حصلت في ذلك على عدة أرقام قياسية نسوية في تسلق جبال الهملايا، وهي كاتبة لرحلات كثيرة منها رحلتها في شمال أفريقيا وتحديدًا في الجزائر تحت عنوان: «ذكريات عن الجزائر، جولة بالدراجة من الأطلس إلى الصحراء»  (1896)، أما رحالتنا أوسا جونسون  فقد تميزت عن السابقات بانخراطها في الصناعة السنيماتوغرافية برفقة زوجها أثناء سفراتها في أدغال أفريقيا، ومغامراتها فيها. 

سطور عن الكاتبة
تعرف أوسا ليثي جونسون بكونها من طائفة الرحالات اللواتي أنجزن رحلاتهن برفقة أزواجهن، حيث انطلقت مع زوجها مارتن جونسون لاستكشاف العالم والقارة الأفريقية خصوصًا، بحثًا عن المناطق الأكثر غرابة لتصويرها، وعرضها أفلامًا وثائقية، أو للتعريف بها لقراء كتبها المصورة، التي نالت شهرة مثلها مثل أفلامها الوثائقية، وقد أصبحت كتبها مراجع مهمة لكل رحال مغامر، ولذلك يحتفظ متحف كانساس بالولايات المتحدة الامريكية بأفلامها، ومؤلفاتها.
ولدت أوسا ليثي هيلين جونسون في مدينة تشانوت بولاية تكساس، الولايات المتحدة الأمريكية عام 1894، قضت طفولة عادية، تدرجت أثناءها في الدراسة، وكانت تحلم أن تصبح ربة بيت وأمًا لأطفال، لكن القدر ساقها إلى طريق مختلف؛ إذ تزوجت من مارتن جونسون الذي كان مصورًا ومنتجًا للأفلام، يهوى السفر والمغامرة، فوجدت نفسها في حياة جديدة مليئة بالحركة، والتنقل، والمخاطرة، كادت تؤكل من آكلي البشر في أفريقيا، وهوجمت من قبل وحيد قرن تسبب لها بجرح خطير في اليد.     
درست أوسا الحياة البرية، وتعرفت على شعوب شرق ووسط أفريقيا، وجزر جنوب المحيط الهادئ، وشمال بورنيو البريطانية، واكتشفت برفقة زوجها أماكن كانت مجهولة أواسط القرن التاسع عشر، وهو ما جعلهما ينشران لقطات أفلام وصور فوتوغرافية، قدمت لمواطنيهم مادة معرفية خصبة عن تلك الأراضي البعيدة. اشتهرت بمؤلفاتها عن رحلاتها، منها: «أكلة لحوم البشر في البحار الجنوبية» (1912) الذي يحكي تفاصيل رحلة الزوجيـــن إلــى جنوب المحيط الهادئ، وجزر سليمان، وكتاب 
«ستانلي وليفينغستون» (1939) وكتابها - موضوع مقالنا هذا - «تزوجت مغامرة: حياة مارتن وأوسا جونسون»
(1940) ورواية «أربع سنوات في الجنة» (1941) التي استثمرت فيها أوسا مغامراتها ومشاهداتها في رحلتها وإقامتها برفقة زوجها في بحيرة براديس الواقعة في الحدود الشمالية لكينيا الأفريقية، بإعتبراها جنة عدن على الأرض، رجع الثنائيان عام 1936 إلى الوطن، وفي 1937 توفي مارتن في حادث تحطم طائرة تجارية كانت تقله هو وزوجته إلى كاليفورنيا، ونجت أوسا من الموت، على الرغم من إصابتها بجروح بليغة تعافت منها، لكنها ظلت تعاني من الوحدة والحزن على فراق زوجها، فلم تسافر بعد هذا الحادث، وأقامت بنيويورك، وحاولت التأسي بالانشغال بالتأليف، وبسرد مغامراتها، وإلقاء محاضرات في مؤتمرات، وتجمعات ثقافية، وعروض سينمائية، لكنها لم تستطع تجاوز حزنها، فانعزلت عن العالم الخارجي إلى أن توفيت بنوبة قلبية في مدينة نيويورك سنة 1953. 

كتاب «تزوجتُ مغامرة»
يعد كتاب أوسا «تزوجت مغامرة» سيرة ذاتية لها ولزوجها مارتن، ضمنتها مراحل طفولتهما، وتفاصيل عن سيرتيهما العائلية والمهنية المتعلقة بمشاريع تصوير أفلامهما الوثائقية مثل سمبا، وأفلام الطبيعة، كما سردت الكثير من الأحداث المثيرة، والمغامرات أثناء رحلاتها في جنوب المحيط الهادئ، وشمال بورنيو البريطانية، وشرق ووسط أفريقيا في بلدان: الكونغو، وتنزانيا، وكينيا، كل تلك المراحل جاءت مدعّمة بصور متنوعة لها ولعائلتها، ولعائلة مارتن، وما يثير الإعجاب أكثر هو تلك الصور النادرة لحيوانات الغابة المتوحشة من أسود، ونمور، وضباع، وفيلة، وقردة، وأحمرة مخططة، وغزالات، وزرافات، وظباء الأيلند، وحيوان النو، وحيوانات أخرى منها ما بدا للرحالة منحدرًا من فصائل عهود ما قبل التاريخ المنقرضة، مثل حيوان آكل النمل، وكذلك نجد صورًا لقبائل من أكلة لحوم البشر بالمحيط الهادئ، وذكريات مصورة لها ولمارتن مع رفقائهما داخل البلاد الأفريقية، وخرجات الصيد، والتصوير،  وصور السكان الأصليين، وعاداتهم ولبسهم، كما تضمن الكتاب حوارات وأقوال على لسان مارتن وعلى لسانها، وقد حاولت بذلك إحياء ذكراه، وجعله مشاركًا في السرد وفي تأليف سيرتيهما الذاتية.
وقد تحصل مارتن على فرصة ذهبية، وهي العمل لدى جاك لندن الرحالة والكاتب الأمريكي (1876 - 1916) الذي صحبه مارتن في رحلة حول العالم، بصفته طباخًا في مركب سماه Snark، وكانت الرحلة نهاية عام 1906 في جزر هاواي، وتاهيتي، وجزر سليمان، وأستراليا، وتوقفت الرحلة لصعوبة الإبحار، وسوء بناء المركب، ثم تحول إلى مساعد ومصور لسفراته، وهي الخبرة التي استغلها مارتن بعد انفصاله عن جاك لندن، وقيامه برحلاته رفقة أوسا.   
وعرّفت أوسا بأولى رحلاتها الاستكشافية إلى جنوب المحيط الهادئ عام 1912، صورت فيها مناظر الطبيعة، وأحداث الصيد البحري، وتذكارات مثيرة لهما مع السكان المتوحشين والخطرين من أكلة البشر، كما عرضت بلغة سردية أنيقة منتقاة أخبار رحلاتها إلى سيدني، وماليزيا، وسنغافورة، وبورنيو ودعمت كل تلك السفرات بصور للسكان الأصليين، ولحيوانات تلك المناطق الآسيوية، حتى أنها اقتنت هي ومارتن حيوانات صغيرة من تلك المنطقة، منها: قرد جيبون فضي صغير، وآخر من نوع أورانجوتان (إنسان الغاب كما يسمى)، وطيور، وببغوات، وبعد فترة عادا بحرًا إلى نيويورك عبر سنغافورة ولندن، انطلاقًا من خليج سانداكان بماليزيا.

انطباعات الرحالة أوسا عن أفريقيا
شرعت أوسا جونسون في سرد مجريات رحلتها الأولى من الولايات المتحدة الأمريكية إلى شرق أفريقيا التي كانت عام 1921، برفقة زوجها ووالده جونسون، الذي أراد أن يتعافى من الحزن على زوجته المتوفية، وأن يحظى بمشاهدات مسلية ومبهرة للطبيعة والحيوانات المتوحشة هناك، وتكررت رحلاتها إلى أفريقيا في الفترة ما بين 1924-1927 تركزت على شمال كينيا، والإقامة في بحيرة الفردوس أو برادايس، ألفت برفقة زوجها عن هذه الرحلة أفلامًا وثائقية، ورواية «أربع سنوات في برادايس» خلالها وفي عام 1925 تحديدًا قابلت فيها أوسا ومارتن الملك جورج السادس والملكة إليزابيث، وكانت رحلة سفاري أخرى إلى شرق إفريقيا بين عامي 1927 - 1928 اختصت بالتجول عبر منطقة النيل بدعم من شركة تصوير أمريكية لصديقهم إيستمان كوداك، تكللت الجهود بإصدار فلم وثائقي ناطق للسيد والسيدة جونسون عام 1930، وكانت لهما رحلة ذهاب وعودة بين نيروبي وجنوب أفريقيا عام 1933، وهي رحلة جوية طويلة لم تجدها أوسا ممتعة لأن البلاد كانت جبلية وعرة، والضباب مخيم على المرتفعات، وحتى إمكانيات الطيران كانت متواضعة: إضاءة ضعيفة، وخرائط غير دقيقة، ووقود قليل، وتباعد المدن الأفريقية، وصغر الطائرة مع أحمال ثقيلة.
  
في نيروبي:
توجهت أوسا مع زوجها ووالده إلى نيروبي (عاصمة كينيا)، أولى المحطات في شرق أفريقيا الواقعة تحت الاحتلال البريطاني آنذاك، والتي كانت مقر الزوجين، ومنطلقهم إلى وجهات أفريقية أخرى، وكان عزمهما شديدًا على الاتصال بالطبيعة وبالحيوانات الأفريقية، قصد تصويرها على حقيقتها دون تزوير أو تزييف، وهي مهمة صعبة، محفوفة بالمخاطر، وللوصول إلى المدينة، كان الإبحار نحو الميناء البحري لمومباسا، التي لمست فيها الحرارة مع الرطوبة، وبعد استلام المعدات والحقائب، استقلوا قطاراً بخارياً متجهاً نحو مدينة نيروبي عبر طريق أوغندا الغني بتضاريسه، من أدغال جمعت ما لا يحصى من أنواع الحيوانات، وكأنها كما علّق جونسون سفينة نوح أفرغت حملها في تلك الأدغال، وسهول وبسائط واسعة حسنة الهواء والمناخ، وكان المرور والوقوف في قرى صغيرة حيوية أولاها قرية فاو، وهي التي كان بها مطعم أثار إعجاب أوسا، وذكّرها بمطعم هارفي بـ (سانتا في)  نيو مكسيكو الأمريكية، ومن فاو توجه القطار عبر سهول يطل عليها جبل كليمانجارو، الذي كانت لا تزال قمته مغطاة بالثلوج، ليكون الوصول سريعًا إلى قرية كيو الشبيهة بجارتها فاو، ومنها إلى المدينة نيروبي، التي أبهرت أوسا، ونالت إعجابها بعدما تجولت في شوارعها، وشاهدت محلاتها، ومطاعمها، وتعجبت لمظاهر الحضارة الكثيرة، منها سيارات أمريكية الصنع، والسكان البيض من الأوربيين ومرافق كثيرة أساسية، كما لفت انتباهها ساحة المدينة الكبرى التي ذكرتها بساحة بيكاديلي في لندن، بسبب محل الجرائد، وسيارات الأجرة، وشرطي المرور الإنجليزي المحنك واليقظ الذي وجدته لا يقل قيمة ومقدرة عن شرطة لندن.  
    
مدن أفريقية أخرى
جرى ذكر العديد من المدن الكبرى، والمحطات الأفريقية الأخرى غير نيروبي في كتاب أوسا «تزوجت مغامرة»،  وهي الأماكن التي وصلوها إما برًا أو بحرًا أو عن طريق الجو في حالات وجود الأماكن المرتفعة والوعرة، وقد علقت أوسا عن إحدى جولاتها الجوية بطائرة محلقة صغيرة قائلة: «.. لقد كان من المثير أن ندرك أننا أول من يرى جبل كينيا من السماء، وقد حصل مارتن على بعض الصور الرائعة، وبالتالي كان إرضاء واحدة من طموحاته العزيزة، وعرض تفاصيل تلك القمم المهيبة ذات الجمال المرعب للجمهور عن قرب».
وكذلك فصلت أوسا في رحلاتها مع مارتن ومرافقين من السكان الأصليين، أو من مواطنيهما الأمريكيين، نحو الغابون، والكونغو البلجيكية، وجنوب أفريقيا، ومصر، التي لم يفوت فيها الزوجان جونسون فرصة زيارة  القاهرة، ومعابد مصر القديمة، ووادي الملوك في الأقصر، والإبحار عبر النيل، نحو الخرطوم بالسودان، كما مرت في رحلة سريعة بحرية عبر سواحل البحر الأبيض المتوسط، وعلى مدن بنغازي وطرابلس وتونس، التي أطلقت عليها أوسا اسم «مستعمرات إيطاليا وفرنسا» وهناك تعرضوا للتفتيش، وأجبروا كما أخبرت أوسا «على السير في مسار غريب ومعقد لتجنب رؤية تحصيناتهم» ولم يكتف الرحالان بالشرق الإفريقي، بل توغلا في الداخل وصولًا إلى كيب تاون عاصمة جنوب أفريقيا.
في الأخير، إن ما يلفت نظر الدارس في كتاب أوسا «تزوجت مغامرة» ذلك الحس التسجيلي الدقيق الذي تمتعت به كاتبته، فهي لم تتوان عن ذكر التفاصيل الصغيرة والدقيقة لحواراتها مع مارتن أثناء السفر، حول آرائهما، وانطباعاتهما، وكذلك أثناء تناول الوجبات، والجلوس في المطاعم والفنادق، والمحلات، ... ما يثير دهشة القارئ في قدرتها الفائقة التعبيرية، خاصة أنها استخدمت في كثير من المواضع لغة مجازية، موحية نابعة إما من طبيعة البيئة والمكان الذي جاءت منه إلى أفريقيا، أو بسبب المشاعر والأحاسيس المتدفقة المصاحبة للمواقف الصعبة، وللأحداث المؤثرة المفرحة منها والمحزنة، كما استخدمت أسلوب التشبيه في الكثير من المواقف والمراحل الرحلية، إما بتشبيه المرئي بما سبق في المكان ذاته، أو القفز بالذاكرة بعيدًا إلى موطنها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يدخل في نشاط المقارنة والربط بين الأنا والآخر، وبين الحاضر والماضي.
وعلى الرغم من تأففها لبعض المشاهد للسكان الأصليين في لبسهم غير المنظم، وغير النظيف، نلمس روحًا طيبة، متواضعة، عاشقة للأطفال، والحيوانات، والطبيعة، والحياة البدائية الخالية من تزييف الحضارة، وقد ألمعت إلى ما يعانيه الإنسان الغربي من تبعات الحياة المادية المتحضرة، من هوس بالمال، وقلق واضطراب دائم، وعدم الإحساس بقيمة الذات الحقيقية.   
واستطاعت الكاتبة احترام تقاليد الكتابة الرحلية المضمنة في السيرة الذاتية، حيث تقابلنا مقاطع من وصف المكان والإنسان، تناولت فيها نواحي كثيرة: جغرافية، وتاريخية، وإثنولوجية شعبية، كما وضحت أهم مسارات التنقل المتبعة، وإن تخلت في كثير من الأحيان عن وصف الطريق من المنطلق إلى المقصد، لطوله أحياناً، ولكون السفر كان إما بحريًا، بينما تتبعت مسار الرحلة من مومباسا إلى نيروبي بدقة؛ عندما تعلق الأمر بالسفر البري على متن القطار ■