نزار قباني في مئوية ولادته (1923) شاعر الحداثة الكبير ولو كره أشباه «المحدّثين»!

نزار قباني في مئوية ولادته (1923) شاعر الحداثة الكبير  ولو كره أشباه «المحدّثين»!

ينبغي أن أبدأ الكلام من هذه النقطة تحديداً، لا وجود لشاعر عربي ولد منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم ليس في دماغه مكان اسمه نزار قباني، ورغم انطلاق مجلات تجديد الشعر العربي والذهاب به إلى قصيدة النثر في الخمسينيات، مع الضجة المصاحبة، ورغم أن قباني كان بالنسبة إلى روادها عدوًا واضحًا فاخترعوا جدالات ما أنزل الله بها من سلطان، كان أغلبها موجهًا ضده، فقد صمد قباني صمودًا بطوليًا من دون أن يضع المرحلة التجديدية ولا روادها هدفًا له، فكانوا وكان (ومعه موضوعيًا الشاعر سعيد عقل على تمايز لغتيهما الشعرية) على ضفتين متقابلتين واستمر الشعر العربي نشطًا وغزيرًا ما بينهما: مياه كثيرة في مجرى الحداثة، لكن هناك اختلافاً بين أصحابها على تحديد من الذي طور وحدث وجدد أكثر من الآخر، ومن خلق الحيوية في مساحة شِعر عربي.

 

لا شك أنه كان في أمس الحاجة إلى النهوض الجذري بعد بروز أصوات تقليدية (كلاسيكية) متنورة وإبداعية في مطالع القرن العشرين أمنت الجسر المناسب للعبور إلى ما سمي بمرحلة الحداثة في شعر العرب في الحياة المعاصرة. 
أسارع إلى الاستدراك بأن عددًا من الشعراء العرب، الذين تأثروا بخط نزار قباني الشعري وفلسفته في اللغة السلسة وحتى مواضيعه عن المرأة والسياسة والوطن استطاعوا بجهدٍ إرادي مركز «التملص» أي التخلص من ذاك التأثر، من دون نسيان أن عددًا من «الشعراء» ما زال يحافظ على ذاك التأثر ويعتبره إيجابيًا حتى اليوم، وهذا شأنهم، ذلك أن شأن الشعر الحقيقي أن ينتفض على نفسه باستمرار. ولادة قباني في بيت «مع الثورة» ضد الفرنسيين وقبلهم الاحتلال العثماني، هو مؤشر إلى الصور الوطنية الأولى التي رسخت في ذهن الطفل... أما أن يكون جده أبو خليل القباني أبوالمسرح بين سورية ومصر، فذلك عنصر فني استثنائي في تفتح إدراك الطفل وربما توجيهه المستقبلي. بين هذين النموذجين عاش الشاعر مرحلة أولى من التماس مع الشعر العربي القديم الذي كانت كتبه حاضرة في البيت، وفي قلب هذا المعترك انتحرت شقيقة نزار الصبية لأن أهلها رفضوا تزويجها لمن تحب وحاولوا فرض آخر عليها، فأُصيب نزار الشقيق بالصدمة الكبرى في حياته الشخصية. 
وفي مذكراته الشخصية يقول قباني إنه بقي حتى سن السابعة يرضع من ثدي أمه (والتأثيرات على فلسفته في النساء ستبدأ حكمًا من هنا)... كما أنه بقي حتى سن الثالثة عشرة يأكل من يد أمه (وتأثيرات ذلك أيضًا!) فكانت الأم المرضعة حتى السابعة، والمطعمة بيدها حتى الثالثة عشرة، هي الأنثى الوحيدة التي تعاطى معها نزار قباني الطفل والفتى. فهل النهم إلى الأثداء في حياته وقصائده هو حنين إلى الثدي الأول الذي عرفه «طويلًا»؟ وهل الدلال الأمومي في التعامل معه كفتى، بات مطلوبًا فيما بعد من النساء اللواتي عاشرهن وكتب عنهنّ؟ وهل هذه «القيم المضافة» في البيت الوالدي دعته إلى الافتتان بنفسه وتجسيد ذلك الافتتان في شعره غالبًا أمام المرأة، أو حين يتقمص دورها تتحدث عنه.
ما زلتِ في فنّ المحبة طفلةً
 بيني وبينك أبحُرٌ وجبَالُ
 حتى كانت صدمة انتحار شقيقته. التي قادته، في ما بعد، إلى «قيادة» شعر عربي يناصر المرأة ويدعو إلى تحررها في وقت كانت أصوات المنادين بهذا التحرر قليلة ومضروبة باتهامات «التغريب» والاعتداء على الثقافة الاجتماعية العربية والعادات والتقاليد التي تحولت أعرافًا صنَمية. يقول: 
قُلْ لي ولو كذبًا كلامًا ناعمًا
قد كاد يقتلُني بك التمثالُ
ما زلتِ في فنّ المحبة طفلةً
بيني وبينكِ أبحُر وجَبالُ
الحبّ ليس روايةً شرقيةً
بخِتامها يتزوّجُ الأبطالُ
لكنه الإبحار دون سفينةٍ
وشعورنا أنّ الوصولَ محالُ»

من البدايات كان يبدو في قصائد نزار نكهة مختلفة وجديدة على الكتابة الشعرية، صحيح أنه تقاطع بتلك النكهة مع شعراء آخَرين ذوي أهمية، إلا أنه وبترتيب لا يعرف أحد منشأه، لاحت تباشير لغة شعرية خاصة به تعتمد: السلاسة والعمق في آن واحد، وكانت موضوعات العاطفة وأحوال العاشقين مسيطِرة في قالب من الجمالية الأسلوبية على أغلب القصائد بل على روح كل ما يكتب قباني، وكانت شقيقته المنتحرة لأجل حبها وقلبها تطل من وقت إلى آخر في القصائد بفكرة هنا، وجُملة هناك، وقضية هنالك، وخلال سنوات، أصبح قباني بين لبنان وسورية ومصر أبًا أو صديقًا أو حبيب النساء العربيات اللواتي كن يبحثن عن حبيب بعيدًا عن عيون الرقيب، ويفكرن بالحرية كعمود فقري في الحياة، ولا يجدن متاحًا أمامهن إلّا قراءة شعر نزار قباني الذي تفرغ لقضاياهن وكثف حضوره في هذا الباب إلى أن تحول رمزًا طبيعيًا للكلام باسم المرأة في عدد من كتبه الشعرية، ما أفسح لبعض المتصيدين من الشعراء من الباحثين والنقاد إلى اتهامه بأنه يستغل انتحار شقيقته ليبني مجدًا شعريًا على اسمها وفوق قبرها، واعتبر هؤلاء أن الدفاع عن مشاعر المرأة العربية لا يكون بإهانتها أو بجعلها من «رعايا» الشاعر وسباياه مستندين إلى قصيدة أو أكثر تضمنت حسًا ذكوريًا فوقيًا خصوصًا ديوان «الرسم بالكلمات». من هنا تولد منطقان أحدهما يدافع عن قباني على أنه رجل ومن حقه التعبير عن أنواع كامنة من الرجال في شخصيته، كما يدافع عن المرأة «بأنواعها» واختلاف طِباعها وتركيبات عقلها كافة، في حين كان المنطق الثاني شكاكًا في أهداف قباني ويراه يتوسل المواضيع النسائية ويظهرها بطريقة انفعالية مضخمة لكي يُعمي العيون عمّا يكسبه مِن العطف النسائي العربي عليه في الترويج لدواوينه، ومن هنا لقبه بشاعر المرأة. 
غير أن قباني كان يسمع هذا الجدل في الصحافة وفي الصالونات الأدبية فلا يرُد عليه، ولعل هذا من ضروب الذكاء الواسع الذي تحلى به، لأنه لو هاجم منتقديه (خصوصًا النساء) فسيضطر الى استخدام لغة تؤذيهن قد يتخذها بعضهن ذريعة أكبر للولوج إلى عمق جماهيريته بادعاء مهاجمته النساء، فآثر غض النظر واستيعاب الموجة، بينما كانت موجة «الغرام» بنزار قباني تسيطر على مساحة الاهتمام بالشعر لدى أغلب الناس، المحبين والكارهين، وندخل في أواسط السبعينيات ونزار من أبرز رموز الشعر في العالم العربي، وجمهوره من النساء هو السواد الأعظم من كل جمهور مهتم بالشعر والأدب!. 
قبل الوصول إلى هنا، كانت حرب 1967 التي كسرت فيها إسرائيل ثلاثة جيوش عربية في ثلاث دوَل عربية دفعة واحدة هي مصر وسورية والأردن، فاحتلت سيناء والجولان والضفة الغربية وفيها مدينة القدس المقدّسة لجميع الأديان، انهار العرب شعوبًا وأنظمة وجيوشًا ومنطقًا يدعو إلى مواجهة إسرائيل، ودخلت إسرائيل مرحلة الاستكبار على العالم العربي الذي كان يريد تحرير فلسطين من اليهود فإذا به مقعد عن الدفاع عن نفسه في بلده. وانهارت فورًا الثقافة العربية التي كانت تحاول استجماع قدراتها خلف فكرة «الوحدة» العربية لتأكيد ذاتها وبناء المجتمع الجديد الذي سيتجاوز ضعف الماضي، وكان نزار قباني من بين الشعراء الذين غادروا لغتهم العاطفية وتركوا (لمرحلة!) مواضيع المرأة مستقلة عن مواضيع المجتمع، وغرقوا في ردات الفعل الوطنية على ما جرى، مؤنبين الذات العربية المتهالكة، والأنظمة التي أكلت وشربت وباضت شعارات طنانة رنانة ألهت المجتمعات والدول عن استشراف مستقبل مخطَط له بالوعي والاستعداد والتنمية، وكان نزار قاسيًا وعنيفًا وثائرًا لكرامته العربية، وذهبت لغته الشعرية إلى عالم جديد هو الثورة على خيبة يونيو (حزيران) 1967، مع هجاء قاطع في قصائده لمن يتولى المسؤوليات الوطنية في عالم العرب، فمنعت دواوينه من دخول بعض الدول العربية، وحورب في أكثر من دولة، وكالعادة صدرت أصوات تحمله جزءًا من «مسؤولية» الهزيمة العربية النكراء بسبب انحياز شعره الى المرأة ونسيان الأوطان، وقد حاولت هذه الأصوات أن تكذب توجهه الشعري الجديد إلى السياسة والوطنية، بالقول إنه يستغل أوجاع الأمة ليروج لدواوينه: هذه النغمة التي كان يألف مثيلاتها قباني ولا يهتم بها، وأكمل في شعره للوطن والمرأة متناغمًا مع رفض حالة التردي الاجتماعي التي أعقبت نكسة (حزيران). 
أما المرارات الشخصية الطاحنة التي تعرض لها نزار قباني فكانت بمثابة الندوب الغائرة في أعماق شخصيته، فبعد انتحار الشقيقة، جاءت وفاة ابنه الشاب توفيق في حادث مأساوي، أرخى بظلال وأسئلة دحرجت في دواخله كرة نار عابرة للزمن، لتحدث المأساة صاعقة هذه المرة بمقتل زوجته بلقيس في تدمير السفارة العراقية في بيروت بسيارة مفخخة... وتبدأ رحلة نزار مع تداعيات مزلزلة في كيانه خلال سنوات قليلة، وحتى عندما كتب قصيدة رثائية في الزوجة المقتولة هناك مَن لم يرحمه وهو في فوهة بركان المعاناة فاتهمه ببيع مشاعره، حين شاع أنه تلقى مبلغًا كبيرًا من المال جراء نشر القصيدة، وحين نقل إليه الاتهام ردّ: «أنا روحي تنزف وهم ينظرون إلى جيبي». 
وفي المرحلة التي كان الجدل قائمًا ومدويًا في الجمع بين المرأة والثورة، بين المرأة والوطن وأين يلتقيان وأين يبتعدان، كتب قباني قصيدته الشهيرة التي قال فيها رأيه في الموضوع شعرًا: 
فَرَشتُ فوق ثراكِ الطاهر الهُدُبا
فيا دمشقُ لماذا نبدأ العتَبا؟
حبيبتي أنتِ فاستلقي كأغنيةٍ
على ذِراعي ولا تَسْتوضحي السبَبا 
 
وبالرغم من مواظبة بعض ردود الأفعال على هذه القصيدة، على تقريع قباني في الجمع بين المرأة والوطن في وقت ينبغي أن يكون للوطن وحده قلبًا وقالبًا، واظب قباني على الجمع بينهما معتبرًا المرأة أمًا من أُمهات الوطن والأرض.
فما تلك اللغة السحرية التي قبض فيها نزار قباني خلال أربعين عامًا وأكثر على أذواق أجيال شعرية وجماهيرية عربية متنوعة الميول والقراءات والثقافات؟
أولًا: ألغى المسافة التي كانت موجودة بين كلمة يقال عنها شعرية وأخرى يقال عنها غير شعرية، خلط المفردات العربية الفصيحة بمفردات عامية بمفردات أجنبية وسخرها لتقديم فكرته في قصيدة أو قطعة نثرية. 
ثانيًا: لم يخش قباني اعتماد البساطة في القول، وحمل تلك البساطة الأسلوبية معاني وصورًا وأفكارًا صادمة أحيانًا في جدتها وجمالها. وحين كان الغموض هدفًا ثابتًا عند جماعة القصيدة الحديثة كان الغموض عنده شفافًا وحمال أوجُه بحيث يعطيك المعنى مرققًا ومرفقًا بليونة غامرة في التعبير، فتدركه مباشرة رغم علو لغته الشعرية، ومن النادر وجود «لوحة» في شعره مطلسمة أو تجريدية. 
ثالثًا: أحضر نزار قباني المرأة إلى شِعره بكامل أنوثتها وكامل جسدها، فلا شيء عند المرأة يمكن أن تخجل به القصيدة، المانع بين رجل وامرأة في السرير، أو في المقهى أو حتى في غرف الضجر!
وبعد جسد المرأة كاملًا يأتي مظهرها مكملًا، فمن الفستان وفُتحته إلى الجينز، إلى الشال، إلى السكربينة، إلى الحقيبة، إلى العطر، إلى العقد، إلى الأساور، إلى الساعة، إلى الأقراط، إلى الكحل، إلى أحمر الشفاه، إلى طلاء الأظافر، إلى القميص، إلى المعطف إلى ... ما هنالك. 
ومع الجسد واناقة الملبس، هناك مشاعر المرأة فمن الرضا إلى الغضب إلى تكسير الأواني إلى الهجوم على الرجل... كل المواقف التي تشعر بها المرأة مِن أعلى تعليمها ومستواها إلى أدنى ترتيبها الاجتماعي والثقافي... مشاعر معقدة... مشاعر تافهة... مشاعر راقية... ولا حدود للمشاعر. 
رابعًا: كان نزار قباني صاحب نظرية «الشعر للجميع» وهذه النظرية لطالما انتقدت كونها لا تميز بين قارئ متطلب وقارئ آخر «فقير المعرفة»... أما نزار فكان يرى أن جلوس الشاعر في برج غموضه وأسراره اللغوية وتراكيب شعره تقلل من فرص معرفة القراء بما يريد من شِعره، وتمنع عنهم متعة الاستمتاع بفن كان متقدمًا على غيره من كل الفنون عند العرب، قبل أن يحل الغناء فيأخذ الناس ومتذوقي الفنون إليه، رغم ركاكة أكثره وهبوط مستواه إلى حيث لا يتمنى أحد! وفلسفة «الشعر للجميع» لا يستطيع أيًا كان خوضها، فهي تستدعي ذكاءً فائقًا في تطويع الأفكار الكبيرة وبلورتها وحسن صياغتها وتقريبها... وهذه العناصر إذا لم تكن فنية جدًا تسقط في المباشرة الخطابية التي يرفضها الشعراء ومنهم نزار لقصائدهم. وسر قباني هو هنا: مخاطبة نفسه أولًا بلا رتوش، ومخاطبة القارئ بلا قفازات، ومخاطبة الإبداع الشعري بلا تصنع وافتعال، وامتلاك نزار هذه الملكات معًا مكنه من الريادة المحاطة بما قيل قديمًا «السهل الممتنع» ونزار لم يغادر هذه المسافة من السهل الممتنع في كل مراحل حياته الشعرية إلا في سنوات أخيرة من نتاجه الشعري، حيث باتت واضحة استعادة أفكار ومعان وصور وعوالم من شِعره السابق، صاحب الفضل عليه في المكانة الرفيعة التي تبوأ. 
خامسًا: منذ بداياته آمن نزار قبّاني بأن الغناء يضيف إلى شِعره باب الانتشار الأوسع. 
وحكاية قصيدة «أيظن» مثال، فقد أرسلها بالبريد إلى نجاة الصغيرة فخشيت أن تغنيها لما فيها من صوَر حسية غرامية جديدة على الشعر الغنائي، كما اعتذر محمد الموجي عن تلحينها... فنشرت نجاة الصغيرة القصيدة في جريدة مصرية تكريمًا لنزار الذي أرسلها إليها ولم تقتنع بأدائها لجرأة مضمونها، فإذا بعبدالوهاب يقرأها ويعجب بها ويلحنها ويدعو نجاة بعد أسبوعين لتسمع اللحن الذي أذهلها وشجعها على تسجيلها ونالت جائزة «أجمل أغنية عربية» مطلع الستينيات من القرن الماضي في حفل أقيم في «كازينو لبنان». هذه الحكاية القصيرة تدل على أن قباني كان يكتب قصائده بذهنية أنها ستذهب للغناء، وقصة «قارئة الفنجان» مع عبدالحليم حافظ مثل ثانٍ. وهكذا بات نزار قباني مطلوبًا لدى نجوم غناء وتلحين تلك الأيام الذين تعاملوا معه بصفة «شاعر العصر» كما قال أكثرهم. 
سادسًا: كلام الوجدان، سَواء في شعر المرأة عنده أو في الشعر الوطني كان نزار يتكلم من وجدانه، وإذا كان تعريف الوجدان بأنه خليط بين الضمير والرغبات العليا والأفكار النبيلة ورؤية الإنسان بعدسة الصدق والسلام والمحبة فإن وجدان نزار قباني جمع كل ذلك إلى أسلوبه الشعري الملون بنفحات الخيال ولفحاته، حيث يمتزج الشيء بالإنسان بالطبيعة بالتعبير اللمّاح الذي يلتقط المعنى الطائر ويجذبه إلى القصيدة فيكون بناؤها خارجًا من حرارة داخلًا في حرارة، وتكون معانيها غالبًا جارحة لفرط عذوبتها، ويصبح المضمون الذي قد يكون عاديًا، كتلة من الدهشة. وأعتقد أن مئات الأمسيات الشعرية التي أحياها قباني كانت تلامس الجمهور بذلك العادي الذي ينقلب مدهشًا حين تخرجه من إطاره وتجعل له إطارًا آخر لم يتوقعه السامع أو القارئ بمعنى ما، هي المفاجأة التي يعرف نزار كيف يرسمها وأين وبأي كلمات وأيّ محتوى. 
إحدى «العجائب» التي حدثت بين نزار قباني وجمهوره أنه في إحدى الأمسيات والتواقيع في مدينة طرابلس اللبنانية، مطلع السبعينيات، كان نزار مشغولًا بالتوقيع لجمهوره على ديوان جديد في ذلك اليوم، عندما تقدمت امرأة فائقة الجمال والطول والكاريزما منه، فأفسحوا لها للوصول إليه، وحين سألها عن الديوان ليوقعه جلست بقربه ورفعت تنورتها وقالت له: «وقع هنا»...  فضحك نزار وسط استغراب الجميع ووقع بقلمه على ساقها كاتبًا: نزار قبّاني!
حادثة أُخرى: اتصلَت بمكتبه الذي كان في بيروت سيدة قالت إنها صحافية وتريد إجراء حوار معه، أعطوها موعدًا، وجاءت إلى الموعد فإذا هي خارقة الجمال ترتدي «ميني جيب» كان في بداية ظهوره كموضة في بيروت، فدخلت مكتبه وأقفلت الباب بيدها، استغرب قباني إقفالها الباب فقال لها بلهجته الشامية: «شو هاد؟» فجلست وقالت: «لست صحافية، أنا أريد اغتصاب نزار قباني». ولأنه كان يخشى هذا النوع من النساء الفائقات الجمال ويشعر بإمكان «ارتباطهن» بجهاتٍ استخبارية قد تريد توريطه في «شيء»، فقد وقف وطردها فورًا من المكتب من دون أن يقترب منها!
المهم في المسألة أن نزار قباني كان يعرف قوة محبة الجمهور له، وكان منفتحًا على اللقاءات في بيروت بلا كثير من التدقيق، أما في بقية الدول العربية فقد كان حذرًا جدًا ومنتبهًا جدًا نظرًا لوجود أنظمة أو جهات قد تسعى إلى تركيب ملف فضائحي له للاقتصاص من قصائده الهجومية بحقها، وهو كان يعتبر سمعته الطيبة وذكاءه في الميزان دائمًا كي لا يتعرض إلى ما يعكر نظرة المجتمع العربي إليه ويؤلب عليه محبيه، ويمكن القول حسَب عارفيه أنه كان «دون جوانًا» معتزًا بذاته ووسامته وشهرته.
ومارس قباني العمل الدبلوماسي سفيرًا لبلده سورية في عدد من دول العالم، ما مكنه من إقامة علاقات ثقافية وسياسة مع كثير من رؤساء الدول ومع هيئات ثقافية وإعلامية وأدبية، وبما أنه في الأصل شاعر فقد تُرجمَت دواوينه إلى عدد من لغات العالم بترتيب من مسؤولي ثقافة وإعلام بعض تلك الدول التي مثل فيها بلده، وأقام جسور صداقة خاصة وعميقة مع عدد كبير من شعراء وأدباء العالم، الذين كان يعتبر قباني جذبَهم إلى الثقافة العربية جزءًا من مهمته الدبلوماسية وشخصيته الإبداعية، كما أنه عرف الكثير منهم على أكبر شعراء العرب القدامى وكتابهم وفلاسفتهم، وكان متبحرًا ومفاخرًا بذلك، ويردد أننا كأمة عربية لم نستطع تقديم أنفسنا وتاريخنا الى شعوب العالم كما ينبغي، وكان يقدم نفسه، في الشعر والنثر معًا على أنه ابن القوم الذين فتحوا أصقاع الأرض ونشروا حضارتهم فيها: 
غرناطة؟ وصحت قرون سبعة
في تَينـِك العينين... بعد رقادِ
وأمَـيّة راياتـها ِ مرفوعةٌ
وجيـادها موصـولة بجيـادِ
ما أغرب التاريخ كيف أعادني
لحفيـدة سـمراء من أحفادي
وجه دمشـقي رأيت خـلاله
أجفان بلقيس وجيـد سعادِ
ودمشق، أين تكون؟ قلت تَريْنها
في شعـرك المنساب... نهرَ سَوادِ
في وجهك العربي، في الثغر الذي
ما زال مختـزنًا شمـوس بلادي
ولم يعش شاعر أو أديب أو روائي أو كاتب عربي في القرن العشرين، غير نزار قباني، من المردود المادي لكتبه. كان صاحب «منشورات نزار قباني» وأغلب الطبعات الأولى من الكتب كانت تنفد فيما الطبعات التالية على الطريق، بمعنى أن محبي شعر قباني كانوا يترقبون توقيت الإصدار وبعضهم يتسابق مع بعض للحصول على نسخ، وروى لي أحد أصحاب المكتبات القديمة أنه في السبعينيات انتبه أن عددًا من الشباب كان يشتري نسختين، فتحرك فضوله ليسأل فأجابه أغلبهم، «نسخة لي ونسخة لحبيبي» ويستنتج صاحب المكتبة أن قباني كان «معبود الشباب والصبايا» في شعره العاطفي الذي تأمل في مشاعر الجيل الجديد وعكسها وانحاز إليها. 
حين أخبرته عام 1978 مبتهجًا، وكانت معرفتي به جديدة، أنني سأبدأ كتابة النقد الثقافي في جريدة «الأنوار» اللبنانية امتعض وقال لي: «لا تطمئن كثيرًا، لأن الصحافة يمكن أن تقتل الشاعر فيك... فانتبه».
وبالفعل لم أنشر ديوانًا شعريا قبل 1995. خبرته كانت تقول له ذلك مع أن كتابه النثري الذي هو مقالات كان قد نشرها في مجلة عربية «الكتابة عمل إنقلابي» من أجمل ما كتب نثرًا وتعليقًا على أحداث ومواقف ثقافية في ذلك الوقت. 
لكنها نصيحة عكست ما كان يتمنى لي شعريًا، وأنا كنت أحبه وما زلت. 
وبقي نزار قباني على نضرته وريعان شبابه الشعري المدوي حتى وصل إلى ما أسميه أنا «الثلث المعطل» أي الثلث الثالث من العمر، الثلث الأخير، حيث يبدأ الشاعر بالبحث في دفاتره ودواوينه القديمة إجباريًا، يجبره حب البقاء على البقاء فيكتب من ماضيه، يكرر، يتواطأ مع نفسه على أشياء كثيرة قالها من قبل، وعلى نصوص أزهرَت من قبل، وعلى عوالم شعرية لم يترك فيها قُرنةً من قبل، ويطرحها على أنها من صنيع الحاضر، في وقتٍ أصبح الحاضر الناحل ماضيًا بفارق البهاء الذي كان، والفضاء الذي ضاق، والسماء التي أعلنت اعتزالها! ■