مفهومُ الفنّ الحديث عندَ العالم العربي (نظرة مغايرة)

مفهومُ الفنّ الحديث عندَ العالم العربي (نظرة مغايرة)

هل تنطبق مقولة «عقدة الأجنبي» حتى في مجال الفن التشكيلي؟! هذا ما يمكننا الاقتراب منه في هذا المقال بناءً على مرتكزاتٍ وأسسٍ مدروسة، ومسلّماتٍ عائمةٍ يعرفُها المهتمّ المتابع. فقد روّجَ الغربُ، وبخاصّة دول أوربا، للفنّ الحديث من خلال المدارس الفنية الحديثة التي ظهرت أوائل القرن العشرين، وكان الفنُّ قبل ذلك دعاية كبرى للمدارس الفنية التي روّجت لها الصحافة والإعلام في العالمين العربي والغربي؛ كالمدارس التأثيرية والتعبيرية والتجريدية والتكعيبية وما إلى ذلك.

 

في الحقيقة إن جذور الفن في العالم العربي والإسلامي، يجب ألا تتأثر بالنظرة الغربية للفن؛ فالفنّ الغربي يعتمد على قوانين صارمة، واكتشافات فيزيائية، وسباقات صحفية وأمور ترويجية، سنأتي على ذكرها لاحقًا.
فمثلًا: تنسيبُ المدرسة (التأثيرية) جاء بعد أن كتب أحد النقاد عن لوحة كلود مونيه (1840-1926) بعنوان (تأثير) 1872، فتسارع الصحفيون إلى ابتكار كلمة التأثيرية، ثم نضرب لذلك مثلًا على المدرسة الوحشية كذلك، فعندما عرض بعض الفنانين ذوي الجرأة في استعمال الألوان بطريقة جديدة غير مألوفة، وكان معرضهم في قاعةٍ فيها تمثالٌ للمثّال الإيطالي الشهير: «دوناتلو» (1386-1466)، حيث صاح أحد الصحفيين: «دوناتلو بين الوحوش»... وبعدها مال الإعلاميون من نقاد الفن إلى تسمية رسومات تلك الفئة والوحوش أو المدرسة الوحشية... وقس على ذلك المدرسة التكعيبية والسريالية والمستقبلية والدادائية، وكلها أسماء من صُنعِ الصحافة المتخصصة بالنقد الفني عمومًا.
أما الفنون العربية الأصيلة فلها تاريخ عريق، وفلسفة روحانية تتماشى مع المعتقدات الشرقية ذات الخيال الواسع والقصص المغرقة في الغرابة، وهنا يكون دور الإنسان في اللوحة العربية كجزء من كل، فالجوّ المحيط هو، أهم من الإنسان البسيط، ونرى ذلك في رسومات الواسطي وبهرزاد، وكذلك في التراث الفني للمنمنمات التي سادت في العصور الوسطى في البلاد الإسلامية، وبلاد فارس والعراق ومصر الفرعونية. 
أما جذور الفن الغربي، فهي تمتد إلى عصور الإغريق والرومان وإلى قوانين الفن التي ابتدعها (بولكليتو) و(فيداس) وأصحاب القامات الكبرى، في النحت الإغريقي والروماني وصولًا إلى عصر النهضة واكتشاف المنظور الهندسي، وتسابق الفنانين في التدقيق في الملامح، والحركات كما هي محاكاة للطبيعة، ولكن بأسلوب بانورامي يُبهرُ الأبصار ويضخّم دورَ الإنسان كمحور أساس للعمل الفني. كما هو في تمثال داود وتمثال موسى لمايكل أنجلو، وكذلك رسم المجموعات ضمن منظور هندسي رائع كرسمة روفائيل أنجلو (1475-1564) فنان الكنائس، وأعظم نحّاتي التاريخ، ترك 900 أثر فني (صاحب مدرسة البندقية) وهذا يقودنا إلى عصور تلت مثل عصر الرومانتيكية، وكان قبل ذلك عصر «الباروك» الذي ترك آثارًا قوية على تدفق الفن التعبيري بطريقة ديناميكية فيها مبالغات بجسم الإنسان، وعضلاته وانفعالاته بطرق دراماتيكيةٍ تثيرُ الإعجابَ، وهذا يقودنا إلى عصر «الرومانتيكية» التي برعت في تصوير الكوارث الإنسانية، مثل: الحروب ومأساة سفينة (الميدوزا) التي خلدها الفنان الفرنسي (جيريكو) (1791-1824) والحروب مع الأتراك كالانقضاض على السبايا، وتصوير الأعداء كأنهم وحوش كاسرة وخاصة بعد معركة (نافارين 1827م) التي شكلت فاصلًا ما بين هيمنة (نافارين) العثمانيين وانتفاضة شعوب البلقان، ضد المد الإسلامي في أوربا.
إذن نحن لا يهمنا ما يعتقده الغربُ ويعتبرهُ من أساليب فنية ولكن الصحف والإعلام، وإغراق العالم الإسلامي بالكتب الفنية الغربية المصورة تصويرًا جيدًا باهرًا، جعلتنا نهتم كثيرًا بما أنتجه الغرب من فنون... ونحن كذلك نقدسُ أسماءَ فنانيهم اللامعين، كرينوار (1841-1919) وبول جوجان (1841-1903) وغوغان (1841-1930) وفان جوخ (1853-1890) وبول سيزان (1839-1906) وغيرهم كثير.
لقد آن الأوانُ للوقوف أمامَ هذا المدّ الجارف، وبخاصة أنّ هذا الأمر استفحلَ وغدا كأنه غزو فكري وثقافي، بعد تبنيه من الجامعات وكليات الفنون في عالمنا العربي، حيث أصبح كل من دخل عالم الفن التشكيلي، يتكلم عن المدارس الفنية، وهي عندي استخفاف بالقيم العريقة للفن العربي والإسلامي، هُراءٌ دخلَ عالمَ الفن التشكيلي، في الوقت الذي يحسُدنا الغربُ على أننا وصَلنا إلى روحِ الفنّ التشكيلي وحقيقته بل سرّه، وذلك مشهور عند فناني الغرب الذين نهلوا من معين ثقافتنا: كالفنان ماتيس (1869-1954) وفنانو فرنسا الذين تأثروا بالمغرب العربي، وكانت أفضلُ لوحاتهم هي في الفترة التي عاشوها في المغرب، جنبًا إلى جنب، حتى أن «بيكاسو» عندما أراد أن يعطي روحًا لفنه، ذهبَ إلى الأقنعة الإفريقية، كما في لوحته (آنسات الأفنيون) وهي أول أعماله التكعيبية، وأما غوغان فقد نبذ الحضارة الغربية وذهب إلى جزر هايتي «لكي يستفيد منها روحانية الإبداع لفنّه المتميز، والذي نضجَ وترعرع في تلكم الجزر البعيدة النائية عن موطنه الأصلي. وبالعودة إلى جذورنا في الفن العربي الحديث نجد ما يلي:
أولًا: نحن نستقي فننا مما دونته المخطوطات من فنون؛ المنمنمات وتزيينِ الكتبِ والخطوطِ العربيةِ المتنوعة، وكذلك تحويل المادة قليلة القيمة إلى مادة ثمينة (تحويل الخسيس إلى نفيس) وهذا أساسُ في فننا العربي الإسلامي، الذي اشتمل على؛ تزيينِ الكتبِ والمخطوطات وتصوير الأحداث كما في ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة ورباعيّات الخيام، وحياة القصور وتصوير الجاريات، كما فعل البحتري في صوره الشعرية وكذلك أبي تمام وابن الرومي.
ثانيًا: وكذلك فن الخط العربي، هذا المعين الذي لا ينضب، والنهر الممتد ليغذي الفن التشكيلي العربي، ومن هنا برزت الحروفية كظاهرة فنية راقية عند فناني العالم العربي، وأصبحنا نتكلم عن الحروفية وفنانينا الحروفيين، وهم في الأصل فنانون تشكيليون اكتشفوا القيمة الجمالية للخط العربي كرافد مهم للفن التشكيلي التطبيقي، فعلى سبيل المثال، وثقت مبادرة مصرية هولندية لـ: اثني عشرة حِرفة يدوية مرتبطة بالخط العربي؛ كالرسم على الجلد، ونقش النحاس، وفن الخيامية ككسوة الكعبة المشرفة، وكذلك «حرفة الإيما» (الحفر على الخشب) المكملة لحرفة صناعة الأثاث والحفر على الرخام وصناعة الحصير التي كانت كبديل لسجاد المساجد، وحرفة الصدَف، وحرفةُ فن الإيبرو (الرسم على الماء) وتجليد الكتب التراثية وحرفة السيرما (فن للتطريز بخيوط الذهب والفضة)، كما عرفت بحرفة القصبجي التي قامت عليها صناعة كسوة الكعبة المشرفة وغيرها من البراويز وبعض الملابس والأزياء.
ثالثًا: رسم قوة التجسيد في الملاحم الشعرية عندما تصدى لها الفنانون العرب، وصور الملاحم مثل عنترة العبسي وأبوزيد الهلالي، وذو الهمّة والفنون الشعبية وما يتعلق بالروايات الخيالية كسيف بني ذي يزن وتغريبة بني هلال. وكانوا قبل ذلك معجبين بقصص ألف ليلة وليلة وحياة الترف. ولا ننسى كذلك أخبار البطولات والحروب والانتصار على الأعداء في تصورات الشعراء والفنانين الذين يحولون الشعر إلى رسومات معبرة عن المواقع التي يفتخر بها المحاربون الأشاوس.
ومهما تقدمت الحضارة الغربية اليوم، ومهما انعكس هذا التقدم علميًا وفنيًا، إلا أن هذا التقدم لم يستطع أن يلغي روعةَ وأسبقيةَ التقدم العلمي والفني الشرقي المتجلي في حضارة دامت ما يقارب خمسة عشر قرنًا! وهنا يحضرني المثلُ الشعبي التونسي: «الفضل للمبتدئ وإن أجادَ المبدع».
وذلك باعترافِ المنصفينَ من أعلام الغرب، أمثال تويبني ونولدكه... ودينيه وغيرهم.
ومن الفنانين كذلك ممن وجدوا في لحظة الاستشراق إلهامًا ملفتًا أمثال: ديلاكروا (1798-1863) أول أوربي تذوق فن شرقنا العربي الإسلامي، ورنوار جيومية وفرومنتان جاك (1886-1962) (فنان مراكش الفرنسي) تاركًا ألفيّ أثر فنّي، بل ومنهم من اعتنق الإسلام لينخرط في حياة البلاد التي نزلوا بين أهلها كدينيه المعروف بالحاج نصر الدين، واليوتار المعروف بالرسام التركي (1702-1789).
وكذلك طغى الشغف بالشرق خلال القرن التاسع عشر حدَّ الجنون وقد ساهمت جميع المدارس الغربية في الرسم بإنعاشهم بهذا الشغف المجنون وفي مقدمتها المدارس الفرنسية والبريطانية، ولم يكن هذا الولَهُ مقصورًا على الفنانين وحدهم بل تعداهم للنحاتين والمهندسين المعماريين والموسيقيين حيث وقعوا تحت تأثير الشغف والسّحر والانبهار.
لقد آن (لكبلنج) الشاعر الإنجليزي وأمثاله أن يلغي استعلاءهم عندما لا يتمترسوا وراء «الشرق شرق والغربُ غرب».
وشعاراتهم الصادرة عن عدم وضوح في الرؤية بل والتذوق الصادرين عن الحسد وجهل الحقائق المشرقة! ولكن هل تغطى الشمس بالغربال؟! فإنك لا تستطيع أن تخدع الآخرين طوال الوقت! والفضلُ ما شهدت به الأعداءُ!
بقي أن نعرف بفن الاستشراق أو الاستعراب؛ فهو كما عرّفهُ الفنانُ المصري جمال قطب ذلك العمل من الفنانين الأوربيين الذين تتجسّد روحُ المشرق في إبداعهم».
وأيًا ما كان تعريف الفن بأشكاله وصوره، فلا بد أن يكون عند الناقد الفني أرنست فيشر، صادرًا عن واقع أو خيال على السواء، متصلًا بالسحر اتصالًا ما... فالفن للإنسان، حتى يفهم العالم المحيط ببيئاته المختلفة، فيفهم سرّه كنهه! ويتصالح معه محققًا توازنه النفسي والمادي، فالفن بذلك يكون لازمًا مشكلًا ضرورة، يسبب هذا السحر الكامن فيه، فلا نملك إلا أن نقول معترفين: عيونُ الفنانِ في أصبعه! ■