التلوث الكهرمغناطيسي أنظف الملوثات!

التلوث الكهرمغناطيسي أنظف الملوثات!

 التطور المطرد للصناعة والتكنولوجيا في العالم، يُطلق المزيد من الأجهزة الكهربائية والإلكترونية كمًا ونوعًا، يومًا بعد يوم، ليتم استخدامها في الحياة اليومية، ويتزايد بالتالي إنتاج الموجات الكهرمغناطيسية التي تطلقها تلك الأجهزة بحسب نوعها ووظيفتها وقوة إرسالها ومقدار التيار الذي يشغّلها. 

 

يحدث التلوث الكهرمغناطيسي (EMP) نتيجة للأعداد الهائلة من الموجــات الكهــرمغناطيسية المنبعثة من كل من المصادر الطبيعية والاصطناعية الموجودة حولنا، من الكابلات التي تنقل التيار الكهربائي، إلى أجهزة إرسال واستقبال الراديو والتلفزيون، إلى الهواتف المحمولة، ومحطات الإرسال الأساسية، وخطوط التوتر العالي، والمحولات وجميع الأجهزة التي تعمل بالكهرباء، والريح الشمسية التي تأتي بمقذوفات الكتل التاجية الشمسية... حتى إن غذاءنا يحتوي دائمًا على نظائر مشعة تضربنا في عمق أعضائنا الجوفية.

تأثيرات التلوث الكهرمغناطيسي 
ويضاف التلوث الكهرمغناطيسي إلى أشكال التلوث الأخرى التي باتت تنوء تحت وطأتها بيئة الأرض الطبيعية والبيولوجية: تلوث الهواء بالغبار والغازات الضارة، وتلوث الماء بالمواد الدخيلة، وتلوث الغذاء بالسموم الإصطناعية، وتلوّث الضوء بالأنوار القوية غير المجدية، وبات على البشر تركيب مصافٍ لتنقية الهواء، وأخرى لتصفية المياه، ونظارات خاصة للحماية من الأشعة فوق البنفسجية، وزيوت طبية لحماية الجلد، وتجنب الألغام الهرمونية المدسوسة في اللحوم، والسموم المستعملة في المبيدات الحشرية وفي طريقة إنبات الخضار في غير موعدها الطبيعي، وتلك المستعملة في حفظ المأكولات المجلّدة والمعلّبة... 
 لكن هل من الممكن تجنب التلوث الكهرمغناطيسي حيث تختلط موجات الراديو والتلفزة في تداخل يعيق عملية استقبالها، أو حيث تخترق الموجات الراديوية جدراننا المحصنة لتحل إشاراتها ليس في أجهزتنا اللاقطة فحسب، بل في أنسجتنا الحية كذلك! 
فأجسامنا تتصرف كهربائيًا مثل هوائيات (أنتينات) تلتقط الموجات الراديوية التي تبثها محطات إرسال الإذاعات والتلفزة القريبة، وتلك التي تعكسها نحونا مئات أقمار الاتصالات المنصوبة في سمائنا، وتلك التي ترسلها أجهزة الهواتف المحمولة وأجهزة الاتصالات العسكرية والمدنية، ومحطات توليد الكهرباء وخطوط نقل التيار الكهربائي، والأجهزة المنزلية التي أشركتها التكنولوجيا المعاصرة بالحقول الكهرمغناطيسية (مثل أفران الميكرويف وأجهزة التحكم عن بعد وغيرها)، بالإضافة إلى ما يتسلّل إلى الأرض عبر نافذة الغلاف الجوي من موجات راديوية كونية آتية من النجوم البعيدة، هذه الحقول ليست دائمًا بلا أثر على صحة الأجسام الحية ووظائفها البيولوجية. 
 ويبدو أن الموجات الكهرمغناطيسية المختلفة التي باتت أمرًا معتادًا في حياة البشر، قد بدأت تُلحق الأذى بمزاجهم العصبي إضافة إلى صحتهم وسلامتهم، إنه تلوّثٌ من نوع آخر بدأ يفاقم أخطارًا إضافية في بيئة الأرض وطبيعة البشر. 

الأشعة المؤينة هي الأخطر 
يمكن تصنيف الإشعاع الكهرمغناطيسي من حيث تفاعله مع الأنسجة الحية تحـت عنوانين: الإشعاع المؤيِّن والإشعاع غير المؤيِّن، وهذا الأمر يتعلّق بالطاقة الكموميــة للفوتون المنبعث أي بالتردد الموجي المُنْسب لهذا الفوتون، والمعروف أن حزمة الأشعاع الكهرمغناطيسي التي تُبث من مصدر ما، تصب بالميلليمتر المربع الواحد، مليارات المليارات من جسيــمات متماوجة أوّلية (تدعى فوتونات)، ويتميّز كل فوتون بطاقته التي تزداد طرديًا مع تردده الموجي (تذبذبه) وعكسيًا مع طوله الموجي. 
فالضوء المرئي الأحمر مثلًا يبلغ طوله الموجي حوالى 700 نانومتر (النانو متر جزء من مليار من المتر) وطاقته لا تصل إلى 2 إلكترون - فولت (e.v) (وحدة طاقة على المستوى الذري بحيث يعادل الواط الواحد طاقة 6.25 مليارات إلكترون - فولت في الثانية الواحدة). 
والضوء المرئي الأزرق يبلغ طوله الموجي حوالي 400 نانومتر وطاقته لا تزيد عن 3 إلكترون - فولت، أما أشعة إكس (الأشعة السينية) فلا يزيد طولها الموجي عن بضعة أجزاء مئوية من النانومتر، وتكون طاقة الفوتون الواحد منها بضعة آلاف من الإلكترون - فولت (بضعة كيلو فولت). 

متى تكون الأشعة مؤيِّنة؟ 
إذا كانت طاقة الفوتون الواحد من الأشعة الكهرمغناطيسية أكبر من 10 إلكترون- فولت، أي بدءًا من الأشعة فوق البنفسجية من فئة «سي» إلى الأشعة السينية وصولا إلى أشعة غاما النووية الأشد خطورة، فإن الخلايا الحية التي تستقبل هذه الأشعة سوف يصيبها التشوه بسبب تأيين ذراتها، أي انفصال عدد من إلكتروناتها عن جسم الذرات، وبالتالي سوف تتغير وظائفها وقد تتطور نحو سرطانٍ خبيث. 
 فطاقة فوتون واحد من أشعة غاما تبلغ ملايين الإلكترون - فولت (ميغا - إلكترون - فولت)، وهي قادرة على اختراق وإتلاف الأنسجة الحية، وهي بالمناسبة قادرة أيضًا على اختراق المعادن حتى سماكة معيّنة تتناسب وطاقتها، لذلك تحصّن الملاجىء النووية بسماكة 20 سنتيمترًا من معدن الرصاص للحماية منها. 
أما الأشعة السينية (أشعة إكس) فتبلغ طاقة الفوتون الواحد منها مئات بل آلاف الإلكترون- فولت، وهي قادرة على اختراق الأنسجة اللحمية بينما توقفها العظام لاحتوائها معادن ثقيلة، ولهذا السبب تُستخدم هذه الأشعة في التصوير الإشعاعي للكسور في العظام. 
جسيمات ألفا وبيتا أيضًا، هي جسيمات نووية مشحونة كهربائيًا وذات طاقة حركية كبيرة تصل إلى آلاف الإلكترون- فولت، وهي تنطلق أثناء تشظي النظائر المشعة وتحوّلها من عنصر إلى آخر. والمعروف أن الكثير من العناصر الكيميائية التي تدخل في أنسجتنا وعظامنا وغذائنا تحتوي على نسبةٍ من النظائر المشعة إنما قليلة جدًا، فعنصر الكربون مثلا، وهو أساس المواد العضوية التي تشكل الخلايا الحية، والذي نتنشقه مع الهواء ونأكله بكثرة مع الغذاء، يحتوي على النظير المشع الشهير «سي - 14» الذي يُعتمد عليه لتحديد عمر الجيف والعظام والخشب القديم في المخلفات الأثرية المكتشفة في طبقات الأرض، لكـــن هذا الكــربون المشع يتواجد بنسبة ذرة واحدة إلى 4 تريليونات ذرة من الكربون السليم «سي - 12» غير المشع. 
والأشعة فوق البنفسجية القوية (من فئة UVC) (طاقتها فوق 10 إلكترون- فولت) هي أيضًا أشعة مؤيّنة تطلقها الشمس وتحمينا منها طبقة الأوزون في الغلاف الجوي للأرض. 
 
هل الأشعة غير المؤينة آمنة؟ 
أما الأشعة غير المؤيّنة فتكون طاقة فوتوناتها أقل من 10 الكترون- فولت، أي أن طولها الموجي يكون أكبر من 0.3 ميكرومتر (أو أطول من 300 نانومتر)، ويندرج تحت هذه الفئة الأشعة فوق- البنفسجية من فئة «أ» أو «ب» (UVA & UVB)، والأشعة المرئية (أطوالها بين 400 و780 نانو متر)، والأشعة دون- الحمراء (بين 780 نانو متر وميلليمتر واحد)، والأشعة الميكروية (بين ميلليمتر واحد و33 سنتيمتر)، وموجات الراديو والتلفزة والرادارات والهواتف الخلوية وأدوات التحكم عن بعد (ريموت كنترول) (بين 33 سنتيمترا و3 كيلومترات)، وكذلك موجات التردد المنخفض الصادرة عن خطوط نقل الطاقة الكهربائية (التي تزيد أطوالها الموجية عن 3 كيلو مترات). 
 وبشكل عام، فإن مثل هذه الفئات من الموجات الكهرمغناطيسية ليست مؤذية إلاّ إذا تكثّفت بشدّة رزمتها الإشعاعية على مساحة ضيقة من الجسم المستقبِل، فأشعة اللايزر مثلًا هي أشعة مرئية معتدلة حمراء أو زرقاء، أو ذات لون مرئي آخر لا تزيد طاقة فوتونه الواحد عن 3 إلكترون - فولت، إنما يمكن أن تصبح أشعة حارقة لأن جهاز اللايزر يرسل حزمة ضيّقة إنما مكثّفة بالميلليمتر المربع الواحد من فوتونات الضوء المرئي، وكذلك اذا كنا نلمس أنتين بث إذاعي أو تلفزيوني قوي، أو نقف في جواره، فسوف يتعرض كامل جسمنا لطاقة فائضة تؤذي أنسجته المستقبلة. 

هل تؤذينا موجات الهواتف الخلوية؟ 
وبحسب البروتوكول الدولي حول موجات الهواتف المحمولة، حُدّدت التردّدات التي تعمل عليها هذه الهواتف بين 1.6 جيغاهرتز و2.3 جيغاهرتز (أي موجات ميكروية تتراوح أطوالها الموجية بين 187.5 ملم و 130.4 ملم). ومن حيث التأثير البيولوجي لهذه الموجات الخلوية، فهي لا تولّـد في الأنسجة الحية سوى تيارات كهربائية خفيفة جدًا تؤدّي بدورها إلى حرارة خفيفة تنتشر على مساحة راس المستخدم، وقد تزيد في حرارة جلد الرأس أقل من درجة واحدة في حال الاستخدام المفرط للهاتف الخلوي، وتقوم الدورة الدموية في الرأس بتفريغ هذه الحرارة وتبديدها بسرعة، ويرى بعض الباحثين أن الاستخدام المفرط قد يترافق مع ازدياد طفيف في التوتر العصبي. 
 وفي حين لم تتأكد منظمة الصحة العالمية من أية مفاعيل جانبية صحية ناتجة عن استخدام الخليوي، فقد نصحت بالحذر وأخذ الحيطة، مشككة باحتمال أثر سرطاني لها، خاصة عند الأطفال. 
لكن الوكالة العالمية للأبحاث السرطانية (آيارك)، ترى أن الاستعمال المفرط والمكثف للهواتف الخلوية قد يتسبّب بزيادة نسبة سرطان الدماغ، ولذلك أوصت بتوخي الحذر ووجوب الوقاية. وكان باحث إيطالي قد وجد، عام 2002، علاقة بين لوكيميا الأطفال وعيشهم بالقرب من إرسال اذاعة الفاتيكان. 
 واليوم تتوجه الأنظار إلى الجيل الخامس من التقنية الخلوية، 5G، التي تم نشرها لأول مرة على نطاق واسع عام 2019. 
وحتى اليوم، لم يتم إجراء سوى عدد قليل من الدراسات على الترددات التي ستستخدمها شبكة الجيل الخامس، وتجري منظمة الصحة العالمية تقييمًا للمخاطر الصحية الناجمة عن التعرض للترددات الراديوية، يغطي كامل نطاق الترددات الراديوية، بما في ذلك 5G، على أن تُنشر الدراسة بعد استكمال الأبحاث المتخصصة. 
 
ماذا عن «المايكرويف» والموجات الميكروية الأخرى؟ 
أشعة الميكرويف هي بعيدة جدًا عن أن تكون مؤينة، وهي بذلك ليست مسرطنة كأشعة إكس أو غاما أو جسيمات ألفا أو بيتا إنما، بحسب الكثير من العلميين، فإن التعرض الطويل الأمد لأشعة ميكروية مركزة وكثيفة، قد يكون له انعكاسات غير حميدة على صحة الأنسجة الحيّة.  تتراوح الأطوال الموجية الميكروية بين حوالي المتر الواحد إلى حوالي الميلليمتر الواحد، أي بترددات تتراوح بين 300 ميغاهرتز و300 جيغاهرتز. وتتضمن تطبيقاتها، إلى الهواتف الخلوية، أجهزة المسح في المطارات، أفران المايكرويف، موجات محاكاة الأقمار الاصطناعية المختلفة، الرادارات ووسائل التواصل الراديوي واللاسلكي، أجهزة التحكم عن بعد وغيرها... 
وبما أن المتهم الأول من فريق الموجات الميكروية هي الأفران الميكروية (المعروفة بأجهزة المايكرويف)، فقد خضعــت هذه الأجهزة لأبحاث عديدة، وأخضعت لتجارب متنوعة وأجريت دراسات مطوّلة على موجاتها ذات التردد 2.45 جيغاهرتز (بحدود 122.5 ملم) وبكثافة عالية جدًا تتخطى بآلاف المرات ما يمكن لأي فرن أن يسرّبه، ولم تجد الدراسات أي سبب لاتهام المايكـــرويف بعلاقته بالسرطان. 

خطوط نقل الكهرباء هل نبتعد عنها؟ 
المفعول البيولوجي المؤكد حول أثر الحقول الكهرمغناطيسية على الأنسجة الحية هو في التسخين الناتج عن التيار الكهربائي الخفيف الذي تخلقه الموجات الكهرمغناطيسية في الجلد والأنسجة الحية الأخرى، إذا ما تعرّضت لها بشكل مكثّف ومطوّل. فالوقوف بجانب هوائي بث (أنتين) عالي القوة لفترة طويلة قد يتسبّب بحروق أو تسخين في البشرة. هذا التسخين يختلف بحسب التردد وقوة الإرسال. 
إلاّ أن الأجسام الحية، وخاصة البشر، تعتمد أدمغتها وأجهزتها العصبية على تفاعلات كهربائية- كيميائية معقدة، وإنه لأمر منطقي التفكير بأن تتأثّر تلك التفاعلات الوظائفية في الجسم بالحقول الكهربائية والمغناطيسية الخارجية الملتقطة. 
وما زالت دراسة الآثار السلبية للموجات الكهرمغناطيسية غير- المؤيّنة على صحة الإنسان تتم على نطاق واسع، وقد أثمرت عن بروتوكولات لقياس المجالات الكهرومغناطيسية، وبات هناك معايير وحدود دولية لتأثيرات الإشعاع الكهرومغناطيسي على صحة الإنسان، وقد أنشئت اللجنة الدولية للحماية من الإشعاع غير المؤين (ICNIRP) كمنظمة غير حكومية تضع قيمًا حدية لتأثير الحقول الكهرمغناطيسية على البيولوجيا البشرية. 
لكن الدراسات والأبحاث العلمية في هذا الشأن لم تصل بعد إلى الوضوح الحاسم، وقد اتجهت معظمُها إلى دراسة آثار هذه الحقول على ازدياد نسبة الإصابة بمرض السرطان، وخاصة عند الأطفال. 
وكان المعهد البريطاني للأبحاث السرطانية قد وجد عام 2005، زيادة بنسبة 70 % في لوكيميا الأطفال الذين يسكنون على بعد أقل من 200 متر من خطوط النقل الكهربائية ذات التوتر العالي (حيث تصل قيمة الحقل المغناطيسي إلى 0.4 ميكروتيسلا للخطوط التي تحمل 150 كيلو فولت أو أكثر)، وزيادة بـ 23 % للذين يقطنون بين 200 و600 متر، حيث قيمة الحقل اقل بكثير من 0.4 ميكروتسلا، وكانت جامعة بريستول في انكلترا قد نشرت دراسة جاء فيها أن خطوط نقل الطاقة تجمع في جوارها رذاذ الملوثات في الهواء. 

شر لابد منه! 
في غمرة الثورة التكنولوجية في الأرض والفضاء، بات التلوّث الكهرمغناطيسي شرًا لابد منه، والرفاه الذي بتنا كجنس بشري نتمتع به في ميدان الاتصالات اللاسلكية والحواسيب الشخصية والهواتف الخلوية الذكية، وكل ما يتعلق بشبكة الإنترنت العالمية، لابد لنا من دفع ضريبة من أجسامنا، ربما بقدر قليل من الضرر في يومنا هذا، ولا نعرف ماذا تخبئ لنا، في الآتي من الأيام، حضارة التكنولوجيا والفضاء من إنجازات مستقبلية أخرى وأثمانٍ جسدية أخرى ■