نحو عمارة خضراء المعمار بين الطبيعة والثقافة

نحو عمارة خضراء المعمار بين الطبيعة والثقافة

إنها وشائج غاية في التعقيد واللّبس، تلك التي توصل ما بين المعمار والطبيعة، فهي في أحد جوانبها علاقة عدائية، حيث ترى الطبيعة في المعمار العدو اللدود الذي ما فتئ يزحف على مجالاتها، ويستعجل موتها، لكنها من جانب ثانٍ علاقةٌ ودِّية، حيث يغازل المعمار الطبيعة مستلهمًا جمالياتها المتعددة، ومستجيبًا خاضعًا لما تفرضه تقلباتها ومزاجها، أو ما توفره من مواد تعتبر أساس العمل المعماري، لأن الطبيعة فكر يشمل العديد من العلوم التي أنتجها الإنسان حولها كالجغرافيا والجيولوجيا والبيولوجيا والفلك، وغيرها.

 

ولأن المعمار أحد أهم تجليات الثقافة، وأحد أقطاب الفن التشكيلي الثلاثة: التصوير، النحت، المعمار، كما أنه الواجهة التي يراها جميع الناس في غدوّهم وآصالهم، حتى دون نية مبيّتة لمشاهدة الفن، لذلك تندرج هذه العلاقة ضمن جدلية الطبيعة والثقافة، والتي يُعتبر الإنسان نقطة الوصل بين طرفيْها. ولَإنْ كان المعمار ملمحَ إرشاد واهتداء للإنسان (منشأة الفنار مثلًا، والتي ترشد البحارة إلى اليابسة)، تمامًا كما منشآت الطبيعة (الجبال مثلًا)، فإن المعمار ينفرد بميزة اعتباره دليلًا على سيرورة التاريخ الحضاري. على الرغم من أن المعمار قد خرج أصلًا من رحم الطبيعة، فالمسكن الأول للإنسان هو الكهوف والمغاور، فهي منتَجٌ معماري وظيفي قدمته الطبيعة للإنسان في حُلة تكاد تكون خالية من البعد الجمالي، وربما لذلك لجأ الإنسان إلى تزيينها بالرسومات. طبعًا كان ذلك قبل أن يتطور مفهوم العمارة، ويجمع ما بين الوظيفي والجمالي، ويغدو منجزًا فنيًا. ولعل هذا النمط من التفكير الذي يمزج بين الجمالي والوظيفي هو الذي كان وراء نقلة الإنسان من الكهف إلى البيت.
لكن محاكاة المعمار للطبيعة ظلت قيمة ثابتة على طول التاريخ الإنساني، إذ هناك منشآت معمارية تتأرجح ما بين الثقافة والطبيعة مثل الأهرام، التي في شكلها العام هي مضاهاة واضحة للجبال. فهنا تتراص الحجارة وفق تصورات هندسية مضبوطة، لأنها من نتاج العقل، وهناك تتراكب الصخور بعضها فوق بعض بطريقة عشوائية، لأنها نتاج التلقائية. لكن ورغم شبهها بالجبال، فهي ليست تقليدًا فارغًا من المعنى، بل كانت تقوم بعدة وظائف، من بينها أنها كانت تٌعتبر منذ القديم المُعين لفهم تقلبات الطبيعة، فلقد اعتبر المصريون القدامى هرم خوفو دليلهم على تحديد فصول السنة الفلكية والزراعية، وذلك من خلال انعكاس أشعة الشمس على كل واجهة من واجهات الهرم. 
في العمارة الإسلامية يعد حضور العنصر الطبيعي ضروريًا، سواء حضور الماء من خلال الأحواض المائية والنافورات والفسقيات داخل المساجد، والبرك وسط ساحات القصور، مثل البركة الموجودة بجناح النساء في قصر الحمراء بغرناطة، أو عبر استلهام أشكال من تفرعات غصون الأشجار وأوراقها، وهو ما نراه في أشكال المقرنصات، ومظاهر التوريق في الزخرفة الإسلامية بصفة عامة، وهي أشكال مستمدة من الطبيعة. إضافة إلى حرص المعماري على استخدام المواد المأخوذة من الطبيعة: الحجر، الطين، الجص، الزليج، الخشب، وبعض المعادن... الآجر، والطوب، فقد كانت مقالع الحجارة والرمال والكلس هي المصادر التي تزود العمارة الإسلامية بالمواد الخام. كان بعض المعماريين يرون أن العمارة يجب أن تنبت من الأرض التي تستقر عليها، وكان رائد هذه الفكرة المعماري المصري حسن فتحي، الذي استعمل الطين المحلي في بناء منزل الجمعية الزراعية الملكية في مدينة بهتيم بالقرب من القاهرة، إضافة إلى قرية القرنة التي اشتهر بها، والتي شيدها سنة 1948 تحت تسمية عمارة الفقراء. لقد كان حسن فتحي يؤمن بأن العمارة من أهم أركان الثقافة، وبأن القطعة المعمارية يجب أن تكون عضوًا حيًا في جسم المدينة، ولذلك يعتبر من شروط استعادة المعمار الحديث في الشرق لشخصيته التي فقدها بفعل هيمنة النمط المعماري الغربي، أن ترتبط العمارة بالبيئة وبالموروث والتقاليد. 
إن المعماري الخلّاق، مثله مثل الطبيعة، يطوّر منشآته المعمارية ويكيفها حسب البيئة، كما أنه يفكر دائمًا في الحلول التي يواجه بها الظواهر الطبيعية المدمرة، بخلق عناصر معمارية تضمن استقرار واستمرار قطعته المعمارية. لقد كان المطر الغزير سببًا في التفكير في وضع المزاريب التي كان يتم إنباتها على حافة أسطح البنايات لتصريف مياه الأمطار. كما يتدخل المناخ الرطب في المناطق التي تكثر بها التساقطات المطرية في فرض استخدام أنواع معيّنة من المواد، مثل استعمال الحجر بدل الطوب، لأنّه أكثر صمودًا أمام الماء والرطوبة.

دمج الطبيعة مع المعمار
تعدّ الطبيعة بالنسبة للمفكرين والمبدعين، ثروة فكرية وليست مجرد كائنات نباتية وحيوانية وجمادات ومياه تحيط بنا، فهي تقدم دروسًا كبرى للإنسان، كما أنها منبع ثري للمتخيل، والذي لا يمكن للإنسان العيش بدونه، لذلك فكّر بعض المعماريين في خلق هذا الحوار بين الطبيعة والمعمار، ومن أبرز هؤلاء في القرن العشرين المهندس المعماري الأمريكي فرانك لويد رايت Frank LLOYD WRIGHT الذي أسس مفهوم العمارة العضوية، بمنح الأولوية لقوانين الطبيعة وليس لقواعد النظريات الهندسية، في تشييد المعمار، فقد كان يرى بأن الشكل المعماري له  خاصية تكوينية نابعة من المادة التي صُنع منها، وبالتالي فهذه الخاصية الطبيعية هي ما يجب الحفاظ عليه، وبذلك تبدو المنشأة المعمارية كجزء من بيئتها الطبيعية، لأنه تمّ إدراجها في الطبيعة بكل سلاسة، وهي بذلك تضمن عدم تدمير البيئة المحيطة بها أو الإساءة إليها. 
لقد دعا رايت إلى تبني هذه الأفكار من خلال كتابه «عمارة عضوية» الصادر سنة 1939. عندما شعر بنوع من التحول الروحي والوجداني داخل مشروعه الفني، وهو ذلك الإحساس الصادق بالطبيعة العضوية التي تحضن الإنسان، والذي يجب التعبير عنه ببساطة وتلقائية، لكن بعمق روحاني أيضًا، لأن الوظيفة المعمارية في نظره لم تكن مجرد إرضاء للاحتياجات العملية التي يتطلبها البناء، بل هي قبل ذلك تعبير عن وجهة نظر المعماري تجاه الطبيعة وتجاه المجتمع. وعندما نشاهد عمله المعماري، فيلا «مساقط مياه»، والذي يدعى كذلك «بيت الشلال»، نتأكد من رغبة رايت في بناء نظريته المعمارية على فكرة استلهام الوحي البريء الصادق من خلال مجاورة الطبيعة ومحاورتها. حيث تبدو الفيلا كلها شلاّلاً ينبض وسط الخضرة. وهذا في نظره أفضل من وضع قوالب معمارية جاهزة صنعها الآخرون، المعاصرون أو القدامى، ولإن كان هذا التصور قد أدى بالبعض إلى اعتبار العمارة العضوية شكلاً معارضًا للعمارة الحداثية والتراثية على حد سواء، إلا أن العديد من المفكرين يرون في مشروع رايت لبنة إضافية في سجل المعمار الحداثي، لما له من تأثير متبادل بينه وبين أنماط المعمار الحداثي الأخرى.

هندسة البيئة الطبيعية
إذا كانت الطبيعة تراعي بيئتها في كل منجزاتها، إذ نحن نلاحظ كيف تساعد الكائنات الحية على التكيف مع البيئة التي تعيش فيها، فإن الأجدر بالإنسان أن يراعي أيضًا هذه البيئة الطبيعية ويدرجها في حسابات التخطيط العمراني، والهندسة المعمارية، ولأن الطبيعة تتميز أيضًا بخاصية التقابل المناخي le contraste climatique فإن المعماري دائم البحث عن الحلول المعمارية المناسبة الخالية إلى حد ما من المشاكل والأخطاء، ويقدّم عمارة مناسبة لعصره ومجتمعه.  فالصحن مثلًا، في العمارة العربية الإسلامية، هو منظم للحرارة في البيت، وهو سبيل لتكييف الإنسان مع بيئته. كما أن استغلال الضوء وهو معطى طبيعي يصدر عن الشمس، يجعل عبقرية المعماري متفتحة وقادرة على خلق أشكال تستجيب لمختلف الحالات الطبيعية التي يعرفها انبعاث الضوء، سواء بروزه، في حالة الشروق، ثم تجلياته المختلفة، المرتبطة بتحولات الشمس في السماء، ثم خفوته في حالة الغروب، قبل الغياب. لأجل ذلك كان المعماري رايت يعتبر الضوء مادة من مواد البناء، مدركًا لمدى القوة التعبيرية التي يمتلكها الضوء وما تنتجه تدرجاته من ظِلال.
إن المحاكاة التي نتحدث عنها هنا لا تعني نقل العمل الفني المعماري واستنساخه للطبيعة حرفيًا، بل هو تعبير عن معانيها، ورموزها، التي تثير الرائي إليها، فيقترح صورًا جمالية لها. والمعمار الحداثي الذي يوظف الطبيعة ليس استعراضًا فارغًا وخيلاء خاوية، بل هو تأكيد على التأرجح السرمدي للإنسان بين حياة التمدن وحياة البرية، ولعل التخوف من هذه النزعة الأخيرة ومدى تأثير العمران المستلهم للطبيعة في الإنسان المعاصر، يتبدّد بفعل الكثافة الجمالية التي يمنحها المعماري لتحفه الفنية.
إن رجوع الفنان المعماري بصيغة حداثية إلى عالمه، أي إلى التاريخ والطبيعة والمجتمع هو عبارة عن فعّالية إبداعية تدخل في دائرة البحث عن الجديد، وتقديم رؤية جمالية متطورة. فالمعماريون العرب كانوا يقتبسون من الأنماط المعمارية المنتمية لمختلف الحضارات ثم يطوعون تلك الأشكال وفق طراز عربي يمنحها بصمتهم الخاصة. وخلال عملية التطويع هاته، كثيرًا ما كانوا يدمجون عناصر طبيعية توفّرها بيئتُهم.

العمارة الخضراء 
ومن بين المعماريين الحداثيين الغربيين الذين تمسكوا بالطبيعة، نجد المعماري الإيطالي ستيفانو بويري Stefano Boeri الذي اشتهر اسمه كمصمم للغابات العمودية، والذي يحمل هوسًا جماليًا حقيقيًا بالعودة إلى الطبيعة، فالمباني الخضراء التي يقوم بتصميمها تغطيها الأشجار من مختلف الأنواع، وكما تضمن هذه المباني الراحة النفسية لقاطنيها، فإنها أيضًا تصبح مصفاة طبيعية للهواء، ومأوى للعديد من الطيور، إنها مبان صديقة للبيئة، وهي رمز لعمارة خضراء بدأت تغزو مختلف مناطق العالم. وبالنسبة لستيفانو يتجاوز مشروعه الاقتصار على بعض المباني الحاملة للأشجار داخل المدينة إلى خلق «مدينة الغابات»، وهو المشروع الذي دافع عنه في الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ، المنعقدة بغلاسكو (اسكتلندا) سنة 2021.
تؤكد العمارة الخضراء على أن التحام الطبيعة والثقافة في جسد واحد، هو الكفيل بإنهاء هذه الجدلية القائمة على التناغم بين الطبيعة والمعمار حينًا، والتضاد الذي يصل حد الصراع حينًا آخر. ولكن العمارة الخضراء تظل دائمًا شكلاً معماريًا إلى جانب الأشكال الأخرى، لأن علاقة الطبيعة بالمعمار لا تتجلى في واجهات البناية فحسب، بل هي علاقة تتغلغل إلى داخل المبنى من خلال التركيب العضوي بين أجزائه ومن خلال توظيف جميع العناصر الطبيعية التي تشيع في المبنى روح الفن والجمال، وتبدد صلابة وكآبة بُلاطات الخرسانة المُصمّتة أو المُجوّفة، والتي تختزن قضبان الفولاذ في أحشائها ■