عصير الحياة

عصير الحياة

 بعد حياة حافلة، كشفت الطبيبة الأمريكية غلاديس مغاري، وهي في السنة الثانية بعد المئة، عن ستة أسرار لعيش الحياة على نحو جيد: أولها، رحلة البحث عن عصير الحياة - قوى الحياة التي بداخلنا - وتوجيه طاقتنا نحوه؛ وثانيها الحركة الدائمة والتدفق بعيدًا عن الأوضاع العالقة؛ وثالثها، الحب، كمكون جاذب للحياة، نضيفه إلى أنشطتنا وسلوكياتنا، فيضفي عليها عمقًا وحلاوة؛ ورابعها، التواصل مع أنفسنا والعالم من حولنا لتعظيم قوى الحياة فينا؛ وخامسها، التعلم من كل شيء يحدث لنا، لأن البحث عن دروس ينقل انتباهنا من المعاناة ويوجهه نحو الحياة؛ وسادسها، إنفاق طاقتنا بكل قوة وبلا خوف نحو الحياة، وذلك في محاولة واعية لاستثمار قوى الحياة التي تقودنا إلى تدفق إيجابي مستمر، وتعيننا على خلق علاقات مشاركة نعطي من خلالها وننهل من المصدر الأكبر. 

 

  تقدم د. مغاري - في كتابها The Well-Lived Life - منظورًا فلسفيًا كليًا، يرى كل فرد مهمًا وفريدًا وجزءًا من كل أكبر- مثلما تعمل خلايانا معًا لتستمر الحياة - وتتبنى علاجًا مختلفًا عما تعلمته في الجامعة، فهي لا تسعى لوقف الألم، أو قتل المرض فحسب، بل تخلق بيئة صحية ملاءمة للجسد الذي تحقق النفس من خلاله مراميها. وهكذا يأتي الشفاء من مساعيها، ومن باطن المريض - زميلها الطبيب الآخر- ولا ترى الصحة في تشخيص المرض، أو طول العمر لمجرد البقاء، ولكن في العثور على هوية، والانتباه إلى كيفية النمو والتغيير والاستماع إلى القلب حين يغني. 
لنشر هذا الفهم الكلي، باعتباره مدخلًا علاجيًا - مكملًا للعلاج التقليدي - يربط بين الجسد والعقل والنفس والروح، أسست د. مغاري مع آخرين الجمعية الطبية الكلية الأمريكية في عام 1978. وأمنت بأن لأفكارنا ومعتقداتنا وأحاسيسنا أثرًا على صحتنا. وراحت تسأل مريضها الذي يعاني من صداع دائم عن أحلامه وطفولته لتقف على سبب العلة. وتحضن مريضة أخرى لتساعدها على الشفاء، وتشجع آخرين ليعيشوا سعداء، رغم الألم، بتواصلهم وملاحقة أهدافهم، والتعلم من معاناتهم. فمكمن الصحة والسعادة في نهاية المطاف قوى الحياة التي نستشعرها، والخبرة التشاركية التي تربطنا بالعالم. 

قوى الحياة
وفقًا لـ د. مغاري - التي عاشت سنوات طفولتها في الهند مع إخوتها ووالديها اللذان كانا يعملان في معسكرات لعلاج المرضى؛ ورأت غاندي واستلهمت من حكمته - لكي نكون أحياء حقيقة، لابد من أن نعثر على قوى الحياة داخلنا ونوجه طاقتنا نحوها. أي نواجه الحياة، ونرتبط بها، ونبحث عن إيجابياتها لنستمر في الرقص معها. وبدلًا من جرجرة أقدامنا مجهدين، نصبح أكثر فضولًا ومشاركة وشعورًا بالامتنان. 
تقول إنها وجدت عصير الحياة في المدرسة، حيث فضلت اللعب في الطبيعة وتسلق الأشجار، وأحبت الاستماع للحكايات، لأنها عانت من عسر القراءة. ورأت نفسها طبيبة على أثر خبرة سعادة كبرى عاشتها أثناء مساعدة والديها في علاج المرضى ورعايتهم. وبعد كفاح طويل في تعلم القراءة وبناء الثقة بالنفس، تخرجت في كلية الطب، وبدأت حياة مبدعة، ومليئة بالطاقة، والسرور، والمحبة. وأدركت مغزى وجودها وأهمية استمرار البحث عن مزيد من هذا العصير الذي يعني الدافعية وإرادة الحياة، لما يمنحه من صحة وحيوية. 
وحسبما تؤكد، لا يعد البحث عن عصير الحياة ميسرًا للجميع، لأن بعضه كامن، ويتطلب العثور عليه مبادرة تغيير، أو مرور بنقطة تحول تدفع إلى التدفق والتواصل معه، للفوز بالفرح والطاقةـ وإدراك أهمية الدور الفريد والمكان المميز في العالم - كما تأخذ كل قطعة مكانها في حل الأحجية - فقد يظهر عصير الحياة من مهنة، أو نشاط، أو هواية، أو من خبرة والدية، أو من عمل تطوعي. أو من رحلة البحث عنه. وما يهم التواصل مع رغباتنا بأمانة، لتتحرك الحياة- عبر عصيرنا - بغض النظر عن درجة جديته وحجمه وعمقه.
  
الحركة والحب والخوف
في سياق شرحها لسرها المتعلق بالحركة، ترى د. مغاري - التي واجهت الطلاق من زوجها وزميلها في العمل بعد ستة وأربعين عامًا من الزواج وستة من الأبناء، وتخطت محنة الإصابة بالسرطان مرتين - أنه عندما نكون عالقين، ولا نتقدم في حياتنا - بعد صدمة أو كسرة قلب- ونفقد الشغف والحماس ونبدو بلا دافعية، ولا نعرف ماذا سيحدث تاليًا - وهو أمر طبيعي في وقت ما - كل ما علينا فعله التحرك نحو الحياة، وتقبل ما جرى ليعود عصير حياتنا إلى تدفقه مرة أخرى. مشيرة إلى دراسات أثبتت أهمية الحركة في تجاوز الاكتئاب والتخلص من الضغوط النفسية وتحسن الصحة والمزاج؛ ودور التسامح في استعادة حركة الحياة وتخطي الألم وتخفيف المعاناة. فالحياة تتحرك ويجب ملاحظتها والتركيز على المتحرك فينا، والتوافق مع أوضاعنا الجديدة. فرغم الألم، تظل أجهزتنا تعمل، وأنفاسنا متواصلة، ويبقى المشي ممكنًا، وغير ذلك كثير من وسائل التواصل مع الحياة. 
وفي حالة كون الشعور بالخوف أو الخجل هو ما يعيق حركتنا، تنصحنا د. مغاري بالاستعانة بالفكاهة - لما للضحك من قدرة على اختراق الألم والتغلب على الإحراج - والانفتاح على الحياة، بمسامحة أنفسنا والآخرين. وبعد تحديد ما نريد واتخاذ قرار الهرب أو التوافق، بدء الحركة، ليأتي الاسترخاء كمقدمة لرمي ما لا يخدمنا، والنهوض لمقابلة قوى الحياة المتدفقة بطرق لم نتخيلها. 
وتقول إنه لا بأس من الخوف كأمر عابر، لكن استمراره يحجب الرؤية ويضيع فرصة إيجاد أي حل للموقف. ولمواجهته يتعين علينا تعلم ترك الماضي وخوفه إلى الحب القادر على تنشيط عصير الحياة. ويعتبر الشخص الجسور المقبل على الحياة محوري لمن حوله لأنه يلهم بتجاوز الخوف بالحب، الذي اعتبرته أعظم الأدوية، وأقوى جاذب للحياة؛ فهو الذي يحول العمل من كدح إلى متعة، ويملأ الضحكات بالفرح. 
الحب والخوف - كما تراهما - لعبة دائمة من الشد والجذب، فإذا دخل أحدهما، خرج الآخر، وإن كان الحب أقوى، وأقدر على جلب الصحة والسلامة في حياتنا. ومهما طال الظلام، يغلب النور وينتشر. والحب نور يشفي أسقام الأجساد والقلوب. وعلاج الخوف ممكن، إذا شعر الوعي بضرورة التغيير، وتذكر قوى الإنسان الكامنة. وأول ما يتطلبه الأمر، شجاعة اختيار الحب والبدء بحب الذات جسدًا ونفسًا وروحًا، باعتباره امتنانًا للحياة، وأساس العطاء والأخذ. ويكفي أن نتخيل ميلادنا ومعجزة الخلق وما أوتينا من مواهب وإبداعات وطاقة حياة متدفقة. وبالبحث عن أشياء مشتركة، مهما كانت تافهة، نستطيع حب الآخرين.

التواصل وكل شيء معلم 
تشرح د. مغاري أسرارها الأخرى لتؤكد أنناـ شئنا أم أبيناـ جزء من المجتمع، ومن العائلة، ومن ثقافة البلاد، ونتشارك الهواء نفسه. ومثلما نحتاج إلى قوى الحياة كأفراد، نحتاج إلى قوى حياة جمعية. فالتواصل الإيجابي يقود إلى الازدهار والصحة والسعادة. ولأنه شيء يمكن أن نقوم به ونتقبله، فنحن من يحدد صحتنا وصحة المجتمع، أي أننا جميعًا مسؤولون عن خلق شبكات مساندة لمواجهة التحديات، حيث تكون الصداقة متاحة، ورسم الحدود ممكن. والاستماع في ظنها أفضل طريقة لبدء التفاعل الإيجابي مع المجتمع، لأنه يساعد على تفهم رؤية الآخر ومعاناته، والتقليل من شعوره بالوحدة، وهو أهم ما يمكن عمله لمن حولنا. 
وتجد أن عملية التحول نحو الحياة يمكن أن تستغرق سنوات من محاولات فهم الذات وتحديد دورنا في العالم. ويمكن أن نعيش أفضل حياتنا عندما نقترب منها بفضول ورغبة في تعلم كل شيء جديد، ولعل في ذلك مغزى الحياة، حيث نتعلم وننمو ونتطور، وتكون الشجاعة أكبر التحديات. وبينما لا يكون استخلاص الدروس سهلًا دائمًا، في البحث عن دروس عزاء وأمر يقلل من الإحساس بالألم والمعاناة، ويعيد التوجيه نحو الحياة، عبر نظرة إيجابية وشعور بالامتنان مع شيء من خفة الظل، والمرونة والتحلي بالحكمة، واختيار التعلم من الأوقات الصعبة.  

استثمار الطاقة
 وفقًا لـ د. مغاري، تعد قوى الحياة جانبًا موجهًا من الطاقة، ولهذا علينا أن نعرف كيف تتحرك من خلالنا، ومن أين تأتي، وإلى أين تذهب. وليس عيش الحياة على نحو جيد سوى لعبة تعلم كيفية توجيه طاقتنا نحو الحياة، وهو ما يستدعي تصويب انتباهنا المحب نحو النبض المتدفق داخلنا، ومعرفة إيقاع حركة الطاقة لنغمر أنفسنا بها؛ حتى تقبل علينا الحياة نابضة ويكون التفاعل سارًا. ونحتاج إلى إعادة التفكير فيما تعلمناه حول معنى الحياة، والحياة التي تقود إلى مزيد من الحياة، ومزيد من عصيرها وقواها، فالطاقة في خاتمة المطاف حب.
تنبهنا د. مغاري أيضًا إلى ضرورة مواجهة الاحتفال بالفردية، والاستقلالية، ومقاومة تدفق الحياة بالانتقال من الخوف من عدم الكفاية، إلى تأمل الكافي مما نملك، وما يمكن منحه كنوع من الاستثمار في طاقتنا. ويساعد تجاوز الخوف من نفاد الطاقة على تتبع وجهة تدفق حبنا بحرية. ويعين إنفاق طاقتنا على ما نحب للتحول نحو الحياة وتلقي طاقة تنتظرنا. ولا يعني ذلك أن ننفق كل طاقتنا طوال الوقت، ولكن وفق إيقاعاتنا الطبيعية. واعتبار الراحة جزءًا مهمًا للشفاء وإمدادنا بعصير الحياة. فمن خلال الراحة يمكن تجديد الطاقة، وهكذا تكون فعلًا، وليس إمساكًا لقوة الحياة، ولا رفضًا للمشاركة - كما في حالة الكسل - حيث توجه الراحة طاقتنا نحو ما يهم مما يعني جلب أفضل ما فينا.  
ومن الوعي - كما تعتقد - تغيير طريقة التعامل مع جوانب حياتنا المهدرة للطاقة مما لا نستطيع تركه، وإعادة التفكير في أماكنها في عقولنا وقلوبنا. والبحث عما نحب لمنحه أحسن ما لدينا. واستثمار قوى الحياة فيه. وعندما ينجذب انتباهنا لأمر سلبي، يمكن الاختيار بين الهروب، أو البقاء مع التركيز على جانب إيجابي. ولا بد من سؤال أنفسنا عما يعظم طاقتنا، ويجلب لنا الفرح، وعمّا يهدره. ونراجع معتقداتنا حول ما يكفي وما لا يكفي، حتى نعود إلى تدفقنا الطبيعي. ونشهد شروق شمس كل صباح دون قلق، وبطاقة لا تنضب ■