القِمَّة

القِمَّة

أعجبتني عبارة حكيمة تقول: «لا تصعد إلى القمّة ليراك العالم؛ بل لترى أنت العالم»، فما أهميّة صعودك للقمّة بالنسبة للعالم؟ لا شيء؛ وإنّما لتشبع رغبتك ونرجسيتك وانتصارك السخيف. ولكن إنْ صعدت لترى العالم، فالفرق كبير جدًا؛ فمن القمّة، تكون النظرة أشمل، والمدى أوسع، والصورة أدقّ، كما أنَّ النظرة من أعلى تُريك ما أمامك وِحْدَةً واحدة، بما فيها من ترابطات وأبعاد وتناقضات ومواصفات. والنظر من القمّة للناس على اختلافهم - إنْ كان القلب سليمًا - يجعلك أكثر تفهمًا لهم، رحيمًا بهم، متعاطفًا مع ضعفهم، ومُدركًا لاختلافهم، وهذا يعني أنَّ الحكم - إنْ سلم من الهوى - سيكون منصفًا، موضوعيًا. وإلا، فإنَّ صعودك إلى القمّة ليس إلا وهمًا أو كابوسًا، وإنَّما هويت إلى القاع وأنت لا تُدرك!!
ذات شباب، ذهبت مع أصدقاء إلى غابة، وهناك صعدت قمّة تراءت لي، وعندما وصلت، فوجئت أنَّ ثمة قمّة أخرى أعلى، فصعدت إليها، وهناك غازلتني قمّة ثالثة، فصعدت إليها بعد تردد، وكانت القمّة الأخيرة في ذلك الجبل، ولكن، يجاوره جبل آخر أكثر ارتفاعًا، فعدت أدراجي، قبل أنْ يذهب بعقلي سحر القمم!!
من يومذاك، بقيت القمم المتدرجة حيَّة في ذهني وتفكيري، فالقمّة المرئيّة خدعة؛ تُغريك لتصعد إليها، فإذا وصلتها وهممت بالمُقام، تراءت لك قمّة أخرى، وهكذا إلى أنْ تَكلَّ وتتعب ولن تكتفي أو تقنع، فقد غزا الإسكندر الشرق ليحكم العالم كله، لكنه لم يحقق بُغيته، وكذلك حاول نابليون وهتلر، فلم يصلوا إلى القمة التي يريدون. 
ولا بُدَّ أنْ نُدرك أنَّ القمم لا تقتصر على الجبال والمرتفعات، فثمة قمم أرفع قدرًا، وأصعب منالًا، وأوعر طريقًا؛ فللعلم قمم لا نهاية لها، وللأخلاق قمم لا حصر لها، وللإنسانيّة قمم لا عدّ لها، وللجمال والحسن والوسامة قمم لا منتهى لها، وللروحانيّة قمم لا تُدرك درجاتها، وللإبداع قمم لا سقف لها، وللبطولة والرجولة قمم لا حد لها. وكما أنَّ للخير والجمال قمم، فللشر والقبح والظلم قيعان لا قرار لها، أما السلطة والثراء والجاه فمنها ذُرى وأكثرها دركات.
إنَّ التطلع إلى القمم، حق مشروع، وتكمن قيمة المرء، في الطريق التي يسلكها إليها،  وسيره باستقامة وشرف، لا يظلم فيها أو يسحق أحدًا، وأنْ يصعد بجدارته وعزمه وتصميمه وقوته دون اللجوء إلى طرق ملتوية أو قذرة، وقدرته على تخطي العقبات والعثرات والمصائد والمكائد، فلا طريق ممهدًا إلى القمّة، ولا بُدَّ من بذل الجهود المضاعفة، وسحّ العرق، ولا يخلُ الأمر من جروح وكسور وربما أخطر من ذلك، ولكن الطَموحَ لا يستسلم إلى أنْ يصل ويحقق مُبتغاه إلى قمّة من القمم. والأهم من الوصول إلى القمّة، المحافظة عليها، وليحذر؛ فالقمم متزلزلة على الدوام، فإنْ لم يأخذ حذره واحتياطاته، فستهوي به إلى الحضيض!! ■