«أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون»

«أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون»

صدرت، مؤخَّرًا، عن «دار الأمير»، في بيروت، رواية «أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون» لمحمد حسين بزِّي. «مولانا» المعنيُّ، هنا، هو الفقيه والخطيب، والشاعر الصوفيُّ الكبير، جلال الدين الرومي (604-672هـ/1207-1273م).
 كُتب عن هذا «العلَم»، في المجالات التي ذكرناها جميعها، الكثير، وبعدد من اللغات، منها: التركية والفارسية والعربية والإنجليزية.

 

وإذ لا يتسع المقام لذكر جميع ما كتب عنه، فإننا نكتفي بذكر النصوص السردية التي نعلم أنَّها صدرت عنه، وهي: «بنت مولانا»، لمورل مورفي (صحفية ولدت في فرنسا، وتعيش الآن في لندن)، و«في حضرة جلال الدين الرومي» للكاتب السعودي إسحق الشيخ يعقوب (1927-2020)، و«قواعد العشق الأربعون» للكاتبة التركية أليف شفق، و«الرومي ماضيًا وحاضرًا، شرقًا وغربًا، حياة جلال الدين الرومي وتعاليمه وشعره»، للويس فرانكلين، أستاذ اللغة الفارسية، في قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوبي آسيا، في جامعة آموري (أطلنطا، الولايات المتحدة الأمريكية)، إضافة إلى المصدر الأساس لسيرة الرومي، وهو منظومة ابنه سلطان ولد، في هذا الشأن. السؤال الذي يُطرح، هنا، هو: بمَ تختلف هذه الرواية الجديدة عمَّا سبقها من نصوص سردية ذكرنا ما عرفناه منها؟

سيرة «الأيَّام» وخصوصيَّة رواية «أيَّام مولانا»  
يحيل العنوان: «أيَّام مولانا...» إلى «أيَّام العرب»، وهي حروبها، ويُسمَّى اليوم منها بأمرٍ بارز يحدث فيه، ما يعني أنَّ اليوم، في حياة المرء، أو الجماعة، هو اليوم البارز/المهمُّ في سيرة حياته، أو حياتها. من هنا اختيار طه حسين «الأيَّام» عنوانًا لسيرة حياته. والأيَّام، من منظور الرومي، «مناخل تصفي الروح». 
السؤال الذي يُطرح هنا هو: هل أراد بزِّي، من وضعه هذا العنوان لروايته، الدلالة على أنه يختار من أيَّام مولانا، الأيَّام البارزة المهمَّة من حياته، ويروي سيرتها؟ وهل يعتمد، في رواية سيرة هذه الأيَّام، تقنيات سردية معينة، تسهم في تشكيل خصوصية هذه الرواية؟ يبدو لنا أنَّ الإجابة عن هذين السؤالين هي: نعم؛ ذلك أنَّ اختيار الأيَّام المهمَّة ووقائعها ونظمها في بناء ينطق لدى اكتمال تشكُّله برؤية، انَّما يتمُّ من منظور الكاتب، وهو، وما يقيمه من بناء ينطق برؤية، يمثل خصوصية الكاتب وكتابته، فما هو هذا البناء الذي أقامه ذلك المنظور؟ وما هي مكوِّناته وتقنياته؟

في بناء الرواية 
تبدأ الرواية بتصدير هو: «خلاصة جميع وصايا الأنبياء: «ابحث عن مراَة لنفسك، وما المراَة إلا الله». يفيد هذا التصدير أنَّ معرفة النفس هذه يؤتيها الوصول إلى مقام الوقوف أمام مراَة الله، وهذا يقتضي السعي الحثيث للوصول إلى هذا المقام، ومسار هذا السعي، من منظور صوفي، يتمثل في مقامات. ولعلَّ هذا ما جعل الكاتب يشكِّل بناء روايته من فصول/ مقامات، بلغ عددها عشرين مقامًا، يسميِّها، فيمضي السالك، في الفضاء الذي يشكله ذلك التصدير.
لكنَّ المقامات التي ترد، في هذه الرواية، تختلف عن المقامات الصوفية؛ ذلك أنَّ المقام، عند الصوفية، هو محطَّة يصل إليها المريد في سعيه إلى الوصول إلى الله، وهو - أي المقام - وقوف بين يدي الله، عزَّ وجلَّ، والقيام بالجهاد الداخلي، لينتقل من حال إلى حال تفضي إلى مقام إلى اَخر، وهذه المقامات لدى الصوفيين، تبدأ بمقام التوبة فالورع فالزهد...، وتسمية المقام مأخوذة من الاَيتين الكريمتين: «ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد...» و«وما منَّا إلا مقام معلوم...» (سورة إبراهيم - الآية: 14 وسورة الصافات - الآية: 164). أمَّا المقام، في هذه الرواية، فهو، على سبيل المثال، إما تعريف شخصية، كما في مقام العرَّافة، أو بفضاء القصِّ، كما في مقام السرو، أو بحالة تلقِّي القصِّ، كما في مقام الإصغاء، أو بفقد، كما في مقام الفقد... ويلاحظ أنَّ كلَّ مقام يبدأ باقتباس صوفي يشكّل فضاء الدلالة، وينتهي بكلمة «شتان»، فتبدو هذه الكلمة كأنها توقيع الكاتب، فالمعروف أنَّ كثيرًا من الشعراء الصوفيين كانوا يعتمدون ما يسمَّى «التخلُّص»، وهو توقيع الشاعر منهم نصه باسم ما يختاره، فهل هذا ما يفعله بزي؟ وقد تكون لهذه الكلمة، وهي اسم فعل ماضٍ معناه بعُد، أو عظُم، دلالة مفادها: شتان/ بعُد، أو عظُم، ما بين الحال قبل كتابتي والحال بعدها، فكأنه يشير إلى المثل المعروف: شتان ما بين الثرى والثريا.  
تتشكَّل هذه المقامات في نصَّين: أوَّلهما قصة إطار، وثانيهما نصٌّ مركَّب من عدة عناصر هي: سرد تاريخي وسيري ونصوص متنوِّعة. ينتظم هذا النصُّ المركَّب في إطار القصة الإطار. وهذا البناء القصصي الإطاري معروف في القصِّ العربي، وخصوصًا في التراثي منه. 
تبدأ القصة الإطار بتعريف العرَّافة الأولى والعرَّافة الثانية، وهي عرَّافة البحر، والصيَّاد، وهو متلقِّي القصِّ، ويرد، في ما بعد، أنَّ اسمه محمد، مايشير إلى المؤلِّف، وفضاء القصِّ، وهو الجزيرة الخضراء، يليها النصُّ المركَّب، يلي ذلك تتمة القصة الإطار.

القصة الإطار 
تبدو القصة الإطار قصة صوفية، من حيث أحداثها وشخصياتها ولغتها والمصطلحات الصوفية المستخدمة، وفضاؤها الزماني - المكاني. 
تروي العرَّافة الأولى قصة مرور الفارس الجنوبي ومريديه، ويبدو أنَّه شمس الدين التبريزي (محمد بن ملك داد، 1185-1248م)، وهذا ما يجعلها تنتظم في البناء الكلِّي للرواية.

النَّص المركَّب
ثم تروي عرَّافة البحر للصياد، وهو في مقام الإصغاء «النص المركَّب، وتبدأ روايتها بتعريف ما سوف ترويه، فتقول: «...، سنبدأ بالمنصوص والثابت من سيرته (مولانا) العجيبة، وهجرته مع والده من بلخ وصولًا إلى قونية في الأناضول، وتعلِّمه على السيد برهان الدين محقق الترمذي، وماجرى بينه وبين شمس الدين التبريزي من أحوال غريبة، ونضمِّن كلامنا أفكارهما المشهورة، وأقوالهما المأثورة، وما اشتهر من شعر مولانا العربي والمعرَّب الذي يفيد المقام...» (ص.62). 
تنهي العرافة روايتها بقولها: «فكلُّ ما تقدَّم وقلته، عدا شمس، الطفلة الموهوبة، كانت بركة قد رأته في منامها في ليلة واحدة، وروته لي على عشرين ليلة، فكتبتُه وحقَّقته وحفظته، ثم رويته لك على أحسن هيئة»، و«بركة»، كما تقدِّمها العرَّافة هي زائرة لطيفة، ورسولة مولانا»، لتعيد تاريخ مولانا إلى نصابه...  (ص 391). السؤال الذي يطرح هنا هو: كيف يكون كلُّ ما رُوي منامًا، والمؤلِّف يقول، في غير موضع من روايته، أنه عاد إلى مصادر ومراجع كثيرة، يحيل إليها في الهوامش، فعن قواعد الحب الأربعين، على سبيل المثال، يقول: «اعتمدت، في استخلاص هذه القواعد على عدة مراجع، منها...»(ص. 214)، ويذكر أسماء هذه المراجع؟ لعل ذلك يعود إلى أنَّه يريد التأكيد أنَّه يقدِّم تاريخ حياة مولانا محقَّقًا، «بعد أن لعبت فيه رياح الأهواء...».  

مسار النَّصِّ وتقنيَّاته
يتخذ مسار النَّص سياقًا سرديًا خطِّيًا، وفاقًا لمسار الزمن الطبيعي، ويتقطَّع بتقديم معرفة بأماكن وشخصيات وأحداث، وبتضمين نصوص متنوِّعة.
يبلغ عدد الأعلام والأماكن والأحداث التي تُعرَّف، في المتن والهوامش، نحو عشرين، أمَّا النصوص التي يتضمَّنها النَّص، فيبلغ عددها نحو العشرين كذلك، ويتفرَّد غير واحد منها بمقام، كما في مقام الحب: قواعد الحب الأربعون، ومقام الأربعين: قواعد العشق الأربعون، ومقام الرسائل، وأصلها رباعيات مولانا، ما يجعل هذه الرواية تقدِّم معرفة وافية بكثيرٍ من أعلام التصوف.   
يمضي مسار النص هكذا، في إيقاع سردي سريع يبطئه تقديم المعرفة وتضمين النصوص، فالعرَّافة تمرُّ بالسنين مرورًا سريعًا، فتخبر عن أهمِّ ما حدث فيها من أحداث تاريخية وسيرية، معتمدة تقنيَّتي التلخيص والقفزات، ومن نماذج ذلك، على سبيل المثال، نذكر: «وتمضي الشهور مسرعة»، «تهرول الأيام، وتمرُّ السنون»، «إنها سنة 614هـ.، من توالي الأيام على بلخ»، «تتدافع الأيام، وتدخل سنة 615 هـ».

غنى سيرة مولانا 
سيرة جلال الدين الرومي غنيَّة بالأحداث الدرامية، فكثير من هذه الأحداث يمكن أن يكون مادة أوَّلية لرواية، فعلى سبيل المثال، نذكر: يرد ذكر زواج شمس التبريزي، من ابنة مولانا بالتبنِّي «كيميا» في عدة جمل في رواية أيَّام مولانا، لكن «مورل مورفي» تصنع من هذا الحدث رواية «بنت مولانا»، وتفصِّل في المقولة التي تتصدر الرواية، وهي: الوردة الندية سوف تذوي حتمًا. وكذلك فإن ما تثيره علاقة الرومي بشمس من غيرة لدى زوجة مولانا، يرد في عبارات قليلة، في رواية أيام مولانا، لكن اسحق الشيخ يعقوب يصنع من وقائع هذه العلاقة وتأثيرها على «كيرا» رواية كاشفة حالات إنسانية. أما سيرة مولانا التي نظمها ابنه سلطان ولد، فاعتمدها بزي مصدرًا، يقتطف منها ما يقتضيه سياق روايته، وهي منظومة غنية بالتفاصيل، وإليها عاد كل من كتب عن مولانا. 

بين «قواعد العشق الأربعون» و«أيَّام مولانا» 
تحدَّثنا عن بناء رواية «أيَّام مولانا»، وهو بناء مختلف عن بناء رواية «قواعد العشق الأربعون»، فهذه تتألف من قصتين، تمضيان في مسارين متوازيين، أوَّلهما مسار يجري في الزمن المعاصر، ويروي قصة إيلَّا روبنشتاين، وهي امرأة يهودية تعيش، حياة غير سعيدة، وثانيهما يجري في الزمن القديم، في القرن الثالث عشر الميلادي، ويروي قصة لقاء جلال الدين الرومي وشمس التبريزي. يلتقي المساران عندما تقرأ إيلَّا رواية «تجذيف عذب»، أو «الكفر الحلو» لروائي هولندي هو زاهارا، وتتأثر بتحوُّل الرومي، نتيجة لقائه بشمس، من فقيه وخطيب إلى أهم شاعر صوفي، في تاريخ الإسلام، وأهم داعية للحبِّ في العالم، فتتحرك هي، وتبحث عن زاهارا، وهو المسيحي الذي سمَّى نفسه بعد أن أسلم «عزيز»، وتلتقيه، وتتحول من امرأة عادية تحيا حياة رتيبة إلى عاشقة تضحِّي بكل شيء، في سبيل الحبِّ الذي يوحِّد الناس والأديان، وهذا يعني عالمية الحبِّ الإلهي. 
يختلف بناء الروايتين، كما هو واضح، لكن قواعد العشق الأربعين هي نفسها، في الروايتين، فعلى سبيل المثال: القاعدة الأولى: الطريق إلى الله، لدى شفق، هي السابعة لدى بزي، والقاعدة الثالثة: فهم القراَن وتلاوته، لدى شفق، هي التاسعة لدى بزي...، والاختلاف إنما يتمثل في الترجمة والترتيب. وإن كانت شفق قد أولت شخصية شمس الاهتمام الكبير، فإن بزي أولى الرومي ذلك الاهتمام، فقدَّم معرفة بالسياق التاريخي لسيرته، وبأسرته، وبمسار تكوُّن شخصيته، ويلاحظ التركيز على إرهاصات ولادة شخصية ذات «شأن أعظم وأعظم»، ومنها: جدُّه مابرح يقول ذلك، وحَمْل والدته به كان لطيفًا من غير اَلام، ووالدته كانت مستأنسة، بعد ولادته، كأنها عائدة من نزهة، وقال، فريد الدين العطار لوالده: «بجِّل هذا الطفل، فسوف يلقي ضرْمة في القلوب المحروقة»، وأهداه كتاب «أسرار نامة»، وابن عربي قال، عندما راَه يمشي وراء والده: «سبحان الله، محيط يمشي خلف بحيرة»، وطوَّف التبريزي في البلاد، من سمرقند وبغداد ودمشق وقونية، ليلتقي شقيق روحه، والتقاه، ، وتحققت نبوأة أستاذه المحقق الترمذي: «انتظر أسدًا قادمًا بالعشق». 

جديلة الفنون وتجسيدها العشق، جوهر الحياة 
شكَّل العشق جديلة الفنون، من الشعر الرائي الكاشف، وإنشاده، في مديح الله، عزَّ وجلَّ، مايمثل الشرر الذي يشعل القلوب، ومن الموسيقى التي تُخرج القطن من الاَذان، ومن الرقص، وهو دوران الجسد للامساك بالروح والصعود بها إلى الكمال. 
أحدث هذا العشق التحوُّل، ونطق البناء الروائي بالدلالة، وممَّا يدل على ذلك قول الرومي: «ما لم تتعلَّم كيف تحبُّ خلق الله، فلن تستطيع أن تحبَّ حقًا، ولن تعرف الله حقًا». في مقام العشق هذا، وهو جوهر الحياة الذي لا نهاية له، تلتقي الروايتان، تلتقيان في مقام عشق إنساني عالمي شامل لا يفنى، فبعد ثمانية قرون لاتزال روحا شمس والرومي تنبضان بالحياة، وتضيئان درب خلاص العالم من مشكلاته وصراعاته ■