علم الاجتماع الرقمي منظورات رقمية

علم الاجتماع الرقمي منظورات رقمية

تكريساً للإسهام في التراكم الكمي والنوعي للصناعة الثقافية بشمال أفريقيا والشرق الأوسط، يواصل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت، ضمن سلسلة كتب ثقافية شهرية «عالم المعرفة» إصدار الخيرات الرمزية التي تشمل عديد اتجاهات المعرفة منذ عام 1978، أي ما يقارب أربعة عقود ونصف من الجهود البحثية التنويرية المنفتحة على الإنتاجات الشرقية والغربية تأليفًا وترجمة في مجال الإنسانيات - العلوم الإنسانية والاجتماعية والدراسات الأدبية واللغوية والفنية والعلمية المتعددة التخصصات تبعًا لطبيعة مواضيعها وقضاياها الإبستيمولوجية وأطرها المنهجية والنظرية، اعتمادًا على المقاربات الوجيهة ذات الصلة التي تقتضيها الشروط السياقية وطبيعة المواضيع والحقول ورهانات الفاعلين.

 

بعد توقف المجلة بسبب جائحة (كوفيد 19) وما فرضته من حجر طال جميع مناحي الحياة الإنسانية، أثر على المجريات العالمية والمحلية والإقليمية في نقل البضائع والسلع والناس، وأربك الاقتصاد والثقافة والسياسة والاجتماع، وأعلى من شأن الافتراضي والرقميات، وما سمي بالثورة الخامسة التي أصبحت فيها حياة الإنسان تضمن استمرارها وديمومتها عن بعد، في مجالات التعليم والعدل والصحة والتجارة وغيرها، استأنف الوطني للثقافة والفنون والآداب إصداراته، وخصّ سلسلة «عالم المعرفة» العدد 484 يوليو 2021، بالنشر للمؤلّف المترجم «علم الاجتماع الرقمي منظورات رقمية» لصاحبه هاني خميس أحمد عبده الموسوم في الأصل بـ Digital Sociology : Critical Perspectives وهو من تحرير وتنسيق الباحثين المحاضرين في علم الاجتماع بجامعة إدنبرة، المملكة المتحدة Kate Orton  - Johnson «كيت أورتون – جونسون» وNick Prior «نيك بريور». والعمل في الأصل يشمل مجموعة من الدراسات والأبحاث لنخبة من أساتذة السوسيولوجيا والإعلام والصحافة والاتصالات والدراسات الثقافية ودراسات المراقبة والاقتصاد والعلوم السياسية والتربية وسوسيولوجيا العلوم والتكنولوجيا في السياقين الفرانكفوني والأنجلوسكسوني (فرنسا، هولاندا، كندا، أستراليا، نيوزيلاندا، والمملكة المتحدة).
لا ينفصل هذا العمل عن ما أصبح يعرف اليوم بالعلوم البينية: علم الاجتماع الرقمي، فلسفة المعلومات، مجال بحث الإنترنت، تكنولوجيا المجال الاجتماعي، علم اجتماع العلوم والتكنولوجيا وغيرها، التي ارتبط ظهورها بقضايا الانفجار التكنولوجي، اللافت الذي أدى إلى ظهور مواضيع جديدة وغير مسبوقة نشأت عن التحولات والانتقالات المتسارعة في مختلف مناحي الحياة الإنسانية التي فرضتها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إنه عصر المعلومات أو العصر الرقمي «عصر تغّيرت فيه مفاهيم الزمن والمكان والإنسان والطبيعة والوجود، الأمر الذي أسهم في حدوث تحولات جذرية على مستوى تصور الإنسان لذاته والغير، والعالم من جهة وللمعيش أو الواقع الاجتماعي الفعلي من جهة أخرى».

علم الاجتماع الرقمي
علم الاجتماع الرقمي فرع من فروع علم الاجتماع العام؛ وهو من بين العلوم الاجتماعية البينية التي تتطلع إلى تحديد موقع اعتباري - إبستمولوجي ممكن بين هذه العلوم، سواء على مستوى الموضوع أو المفهوم أو المنهج وأدواته أو النظرية وتطبيقاتها، إذ تم شك في أن مفاهيم علم الاجتماع الكلاسيكي ونظرياته ومناهجه لم تعد تسعف الباحثين في وصف التحولات الرقمية الجديدة وتفسيرها وفهمها وتأويل قيمها وعلاماتها ورموزها، كون قضايا المكان والزمان والذات والمجتمع والتعليم والصحة والعدل والاقتصاد والثقافة والسياسة والاجتماع وغيرها، تعرف دلالات ومعان جديدة، لأنها ترتبط بسيل جارف من التغييرات، والتغيرات الرقمية المتسارعة والمتلاحقة، ويطرح هذا الفرع المعرفي عديد المناقشات والسجالات نتيجة نوع التساؤلات التي يثيرها: هل المفاهيم السوسيولوجية السائدة لا تزال تفي بالغرض أو أنها تمددت إلى درجة فقدت معها شكلها عبر التطبيقات الجديدة والسياقات الاجتماعية المتغيرة؟ وكيف يمكن لعلم الاجتماع إعادة تقييم أفكاره الأساسية في مشهد من العلوم البينية المتداخلة؟ وإلى أي حد يعتبر «الخيال السوسيولوجي» أساسًا كافيًا يصلح لإجراء استقصاءات حول العوالم الرقمية بالاستعانة بمؤشرات متداخلة بين المجالات المعرفية أو حتى عابرة لها؟ وإذا كان المجال المعرفي ناقصًا فأي نوع من الاستعارات المعرفية من مجالات معرفية أخرى، وأي نوع من التركيبات والتعارضات نتوقعها أو حتى نشجعها؟
لذلك، ظهرت فضاءات رقمية أثرت في العلاقات والبنى المختلفة، وأدت إلى انبثاق ممارسات غير معهودة، نتيجة استخدام وسائط الرقميات الجديدة؛ إنه العامل الرئيس الذي دفع بالباحثين كيت أورتون - جونسون ونيك بريور، إلى تناول المنظورات النقدية لعلم الاجتماع الرقمي وقضاياه النظرية والمنهجية الميدانية ذلك عبر لم شتات الدراسات والأبحاث السوسيولوجية الخاصة بمواضيع الافتراضي: العلاقات الشخصية والحميمية والذات، في عصر رقمي كوني محكوم بالوسائط، إضفاء النوع على العصر الرقمي: تأثير منظورات النوع في الخيال السوسيولوجي، العلاقات الرقمية والأمل النسوي، إعادة النظر في الفضاء: المعلوماتية الحضرية والخيال السوسيولوجي، إعادة النظر في المجتمع المحلي في العصر الرقمي، الفضاءات الرقمية وعلم الاجتماع والمراقبة، 
اللا مساواة في مجتمع الشبكات، علم اجتماع المال في مواجهة العصر الرقمي، المجالات الرقمية ورأس المال، الحروب في العصر الرقمي، تخيل الشبكات: علم الاجتماع الاتصال في العصر الرقمي، إضفاء الطابع الإعلامي على المجال الرقمي، إعادة النظر في التعليم في العصر الرقمي، الصحة الإلكترونية والمقاربات السوسيولوجية المتجددة للصحة والمرض، التكنولوجية الرقمية والنوافذ السوسيولوجية. وبذلك، يكون العمل، على حد علمنا، عملًا مؤسسًا في مجاله، لأنه المؤلف الجماعي الأول من نوعه في مجاله، وخاصة في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
يشمل الكتاب خمسة عشر فصلًا اتخذ من المواضيع المشار إليها أعلاه عناوين له، إلى جانب مقدمة وببليوغرافيا غنية جدًا بالمصادر والمراجع، ذلك على امتداد 328 صفحة، بحيث تتحدد هندسة كل فصل في صورة مقالة- دراسة علمية دقيقة، تضم مقدمة أو تمهيدًا، بشكل صريح أو ضمني، وخلاصة أو النتائج المتوصل إليها. وجاءت المقدمة العامة للكتاب؛ وهي إسهام كل من منسقي العمل، لذلك لخصّت المناقشات الغنية حول الإسهامات الخاصة بعديد الجوانب من الاتصالات والإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الرقمية، ورصدت أهم أسئلتها وقضاياها وأفكارها، وفقًا لتقطيع تم فيه مراعاة وحدة الموضوع على الشكل الآتي: العلاقات، الفضاءات، البنى، استخدام الوسائط والممارسات.  فما أهم الأفكار وما قيمتها وأبعادها؟
يضم العمل خمسة أبواب بمعدل ثلاثة فصول في كل باب، خُصص الفصل الثالث فيه للكلمات الختامية التركيبية، باعتماد مقاربات متعددة التخصصات «السوسيولوجيا والإعلام والدراسات الثقافية»، وأمام تنامي الذوات الرقمية وحجم العلاقات الشخصية التي تتشكل عبر التكنولوجيا الرقمية، يدرس الباحثون في الباب الأول موضوع العلاقات أو العلائقية في العصر الرقمي في ارتباطها بالنوع الرقمي والجنسانية والنسوية والسلوك الجنسي من جهة، والتكنولوجيا من جهة أخرى، ويجادل هؤلاء في الطبيعة الإشكالية للعلاقة المركبة بين النوع والتكنولوجيا الرقمية، وهل تشكل رهابًا «قمعية» للنوع أم ولعًا «تحررية» له أم أنها تتسم بالتغير والمرونة والتفاعل الجدلي المنفتح تجاهه في ارتباط بالزمن بوصفه كتلة لا يمكن الفصل فيها بين الماضي والحاضر والمستقبل؟ لذلك، انتصر الباحثون، بالأدلة، إلى الأطروحة التوفيقية التي تتجاوز المفاهيم الثنائية التبسيطية في علم الاجتماع، ذلك بتوجيه نقد لاذع لمفهومي الحتمية التكنولوجية وجوهرية النوع، والنظر بروح نقدية تباعدية انعكاسية للتكنولوجيا الرقمية في تشابكها مع اللامساواة والتهميش والإقصاء، وإيلاء أهمية منهجية قصوى في الفهم والتحليل، لا للتكنولوجيا فحسب، بل للسياسات النسوية التي تحقق المساواة بين الجنسين، إن العصر الرقمي يواجه تحديات تجريبية ونظرية ومنهجية في مسارات بحث معاني التحول الرقمي بالنسبة لمناهج البحث النسوي، لذلك «فإن ممارسة الخيال السوسيولوجي النسوي هي أمر جوهري لتفسير العصر الرقمي بأساليب نقدية وإبداعية ولإحياء النظرية السوسيولوجية».
بينما يجادل الباحثون في الباب الثاني في قضايا الفضاءات الرقمية وما تثيره من تحديات وتساؤلات سوسيولوجية، ذلك للتأسيس إلى مفاهيم جديدة مع سوسيولوجيا الرقمي بإعادة النظر في الرؤى التقليدية والتصورات القديمة حول الفضاء، أخذًا بالاعتبار التحولات المتسارعة والانتقالات الفارقة في الزمكان في ارتباط بالمعلوميات الحضرية، وما تقدمه الأبحاث وتقترحه الدراسات في هذا المجال «علماء الاجتماع في حاجة إلى إيجاد طرق للتعرف على البنى التحتية المعلوماتية، وكيفية تشابكها مع الهياكل الخرسانية والأنماط الاجتماعية الجغرافية»، بمعنى أن سعي علماء الاجتماع يتوجه إلى فهم التغيرات الرقمية، وسياقاتها، وآثارها الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى ذلك، تشمل المراجعات الإبستيمولوجية مفهوم المجتمع المحلي باعتباره عالمًا اجتماعيًا مليئًا بالمعاني، إذ بعدما كان يتخذ معاني كلاسيكية ترتبط بالمكان، والزمان، والمؤشرات المرتبطة بالمشترك الثقافي التضامني والمصالح المتبادلة لجماعة بشرية ما وتكويناتها المذهلة، أصبح يطاله التحول باستمرار ما جعله «قوة اجتماعية متكيفة للغاية»، وأدى به، في العصر الرقمي، إلى اتساع معانيه وتحويلها وتحسينها، وحمله على أن يكون أكثر تركيبًا وتعقيدًا والتباسًا. وسواء أكانت هذه الفضاءات الرقمية مجتمعات شبكية كبرى أو المجتمعات المحلية، فإنها تخضع للمراقبة الجماعية بوسائطها ووسائلها وأجهزتها الذكية، ويتم استثمار بياناتها في السياسة والتسويق والفرز الاجتماعي والتشبيك والاستهلاك وتعزيز المحظوظين وقوتهم وغيرها؛ وهو ما يطرح من جديد المناقشات حول ما يسمى بأخلاقيات الإفصاح المرتبطة بالحرية والخصوصية والشفافية التنظيمية.
 أما الفصل الثالث الخاص بالبنى يناقش قضايا اللامساواة في مجتمع الشبكات، والمجالات الرقمية والشبكات ورأس المال: علم الاجتماع فيما وراء البنى الثابتة والمتغيرة، يحدد الباحث جان فان دايك، في الفصل السابع، طبيعة المجتمعات الشبكية وخصائصها البنيوية التي تتم عبر الفعل الاتصالي المباشر وإسهام هذه المجتمعات في إفراز أنواع المساواة/ اللامساواة (تكنولوجية ولا مادية ومادية واجتماعية وتعليمية)، ذلك من خلال إعادة النظر في تصورات علم الاجتماع التقليدي، خاصة «اللامساواة فيما يتعلق بالممتلكات (ماركس Marx)، والمكانة والمهنة السوسيولوجية (فيبر Weber)، أو العلاقة والقوة (سيمل وداهرندورف Simmel and Daherndorf)»، إذ يحلل الباحث هذه القضايا تبعا لنظرية اللامساواة في العصر الرقمي ويقترح مفاهيم جديدة بمثابة أدوات منهجية ومؤشرات محددة للكشف عن اللامساواة؛ الوصول الفردي والاتصال الجماعي، المركزية، التباين والتمايز، الاختيار والمنافسة، الحركة والسرعة التفاضليتان، اللامساواة في المهارات.
بعد ذلك ينفتح الباحث على اتجاهات سياسية جديدة لمواجهة اللامساواة والتوجه نحو تحقيق طموح الفرص المتكافئة لكل مواطن متصل من خلال توزيع الموارد اللازمة التي تشمل الحواسيب والإنترنت، في ميادين التعليم الصحة والعدل والخدمة الشاملة. بينما الفصل الثامن يناقش قضايا علم اجتماع المال في مواجهة العصر الرقمي، باعتبار المال العابر للقارات عصب الحياة الرقمية، وهو «نظام للمعرفة والمؤسسات والممارسات» يتحقق بالفعل بواسطة كم مهول من البيانات المرتبطة بالمستثمرين والمحللين، يحاول الباحث في هذا السياق بيان أهمية علم اجتماع المال في العصر الرقمي، ذلك عبر خطوتين: وصفية صريحة للأسواق المالية، وتوجيهية حازمة، ويختم بالاعتراض على الثنائيات المعتمدة في بناء التصور لتبني التكنولوجيا الرقمية في الحياة الاجتماعية، وفي الورق الختامية لهذا الباب ناقش مايك سافيج رأس مال المعلومات والرأسمالية المالية الآلية والشبكات، لأنها ثلاثة مفاهيم من شأنها أن تمهد الطريق لتحليل مثمر.
حاول الباب الرابع التوقف بالدرس والتحليل عند الأسئلة الملحة التي يثيرها موضوع استخدام الوسائط المختلفة سواء في الحروب أو الثقافة والعلم، لأن علم الاجتماع الرقمي في حاجة ماسة إلى فهم الطرق التي يتفاعل بها المتصل أو المستخدم وسائل الإعلام والاتصال بأجيالها المختلفة، بينما الباب الأخير جادل الباحثون فيه مسألة الممارسات في العصر الرقمي، خاصة موضوعي التعليم والصحة في العصر الرقمي ورهاناتهما وأخطارهما، وحاول الباحثون إعادة النظر في سوسيولوجيا التعليم والصحة عبر مراجعة نقدية للتكنولوجيا الإلكترونية وإبراز مزاياها وتهديداتها.
إن الكتاب إضافة نوعية للقارئ العربي سواء أكان باحثًا أو طالبًا أو مهتمًا، كونه عملًا تأسيسيًا لقضايا علم الاجتماع في العصر الرقمي، ولأنه يشمل أحدث الأبحاث والدراسات، وكم كبير جدًا من المراجع والمقالات في عديد الحقول العلمية ذات الصلة، ويحللها من منظور عبر تخصصي، نظريًا ومنهجيًا؛ الأمر الذي يفتح أفق البحث في ضوء المستجدات السريعة والجديدة ■