لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

 كعادة النصوص القصصية المؤثرة، راوحت القصص الثلاث حول هموم إنسانية كانت وستبقى المحرك الأول للأعمال الإبداعية. فهناك التفاتة لكدح الإنسان في سبيل البحث عن غاية الحياة ودوره فيها كما في القصة الأولى «عبور مذعور عبر الدرب المهجور». وهناك نعي على ضآلة الإنسان واستسلامه لأقداره وأوبته بالخيبة إزاء عالم أكبر وأقوى منه، كما في قصة «ماريونت». وثالثًا، أمامنا هذا النموذج في «الغابر الغامض»، حيث سذاجات الإنسان وطفولته حول فهم أهم ظاهرة حيرت البشرية وهو الموت، إذ يظل الإنسان طفلًا غرًا أمام أسرار الموت وغموضه.

المرتبة الأولى: قصة «عبور مذعور عبر الدرب المهجور» ليوسف مدحت/ مصر
 تحاك خيوط القصة حول علاقة جميلة بين فتى ومعلمه الروحي. الفتى ما يزال غرًا يتخبط في دروب الحياة، ويقضيها ما بين خوف وتردد وذكريات ثقيلة وعبث الصبا. يطلب منه معلمه أن يجرب المرور عبر طريق «المخاوف والرعب» حين يأتي لزيارته. وهو طريق مهجور صنعته الأوهام والخرافة وصدقهما الناس في القرية البسيطة. بعد تملص ومخاتلات وعبث مع فتاة السوق، يقرر الفتى أن يرتاد طريق المخاوف، ويدخل إلى قلب المعاناة النفسية والجسدية وهو يقطعه. يخرج أخيرًا إلى النور ليجد معلمه وراءه يشد من أزره بعد مروره بتلك التجربة الصعبة.
 رغم بساطة القصة فهي مثقلة بالمعنى، والمعنى يعبر عنه المعلم الروحي حين يقول للفتى: «الدروب التي نسيرها تصيرنا، تخرج ما في قلوبنا، أو تسكنها، تطهر أرواحنا، أو تلصق أدناسها علينا»، فالدرب هو درب الحياة، وهو درب متلون ومخاتل يتشكل حسب مرحلة العمر. وقد أراد المعلم أن يدفع الفتى نحو النضج وطرح المخاوف فاختار له أصعب الدروب ليتطهر من الخوف والخطايا الصغيرة ويرى النور باكرًا. 
 اختار الكاتب بيئة ومكانًا يوحيان بالغموض والسحر، ورغم قصر الوصف للسوق والدروب المتربة وأشباح الظلام والطين والمطر، إلا أنه أوفى هذا العنصر حقه، ورفده بزمان هلامي مفتوح على الاحتمالات مما أعطى الفكرة امتدادها الإنساني والوجودي، فأسئلة البحث عن الذات ومعنى الحياة كانت ولاتزال الهم الأول للإنسان، تعاود الظهور والتكرار في أعماله الإبداعية والفنية. 
 اللغة متينة وموحية وذكية في دلالاتها على الشخوص، وكذلك في مراوحتها بين السرد والحوار كلما اقتضى الأمر ذلك. واختيار الكاتب لضمير المتكلم أخذ القارئ إلى قلب الحدث وحرارة البوح وصدق المشاعر. 
 يبقى السؤال عن سبب اختيار الكاتب لذلك العنوان الطويل الذي يلخص القصة بكاملها! بل إنه يكشف الكثير من تفاصيلها مما يسرق من القارئ دهشته وتشوقه! كنت أتمنى أن يكتفي الكاتب بكلمة واحدة في العنوان، ولتكن «عبور» مثلًا، ليؤثث لقصته جوًا من الاحتمالات والتشويق. 

المرتبة الثانية: «ماريونت» لمحمد حسن عبدالجواد/ مصر
«ماريونت» هي الدمية التي تحركها الخيوط، وهي في هذه القصة مركز الحدث. تستسلم الدمية لمحركها على مسرح العرائس كما هو معروف، لكنها هنا تتحدث عن حياتها الخالية من الإرادة، عما يحدث لها في قاعة العرض، عن تساؤلاتها حول عناصر مثل كلام المحركين المبهم، ضحك الجمهور، التصفيق. إلى أن يحدث في يوم ما ما يغير هذه الأحوال، وذلك حين نظرت الدمية إلى الأعلى ورأت محركها والخيوط، ثم المقص الذي أنهى دورها وأسقطها وراء الكواليس. يستمر التساؤل حول علاقة الدمية بالمحرك بعد انتهاء الدور، وكيف بدأت تتقمص مشاعر صانعها، وتراقب الأحزان والدموع، والجلسة الحزينة أمام النهر. تدرك الدمية أخيرًا أنه يتعين عليها أن تتوقف عن الاهتمام اللامبرر بالأشياء حولها، فهي مجرد دمية من الخشب انتهى دورها. 
 تلعب القصة على عنصر الإسقاطات بشكل واضح، فهناك من يقتصر دوره في الحياة على الاستسلام لإرادة أقوى منه، ويظل مجرد دمية تحركها خيوط الآخرين أو الظروف أو الحظ أو القدر. وهنا نلمح لونًا من الحزن الوجودي، حين يدرك الإنسان ضعفه وقلة حيلته وضيق دروب الاختيار والإرادة. وتعكس القصة أيضًا طموح الإنسان للفهم والاندغام في منظومة الحياة، والتشبث بأشياء مثل المشاعر والعلاقات، لكنه يسقط أمام حقيقة كونه مجرد دمية تحركها خيوط غامضة لا تسمح له بالحلم خارج إطار دائرته الضيقة. 
 جاءت اللغة على مقياس شخصية الدمية، فكثرت التساؤلات، والجمل المبتورة، والغموض الشفيف. وكذلك بدا السرد مناسبًا لحال الدمية، حيث التوهان وانعدام التماسك المقصود بين الفقرات والأفكار، ليدلل على حالة من التشتت وضبابية الفهم. وهي الحال التي تتملك الدمية تمامًا. 
 العنوان «ماريونت» فضح موضوع القصة منذ البداية. وكان بالإمكان أن يترك الكاتب القارئ يدخل متمهلًا في القراءة إلى أن يقبض على جوهر الحكاية. وأعتقد دائمًا أن وضوح العنوان ودلالته الساطعة يفسدان متعة الاكتشاف. 
المرتبة الثالثة: «الغابر الغامض» لأمين الكامز/ المغرب
 القصة بلسان الراوي العليم الذي يحاول أن يقص الحدث من وجهة نظر طفل فقد أباه، محاولًا أن يعرض ما يستشعره الطفل ذو السنوات الخمس الذي صعب على إدراكه ما يحدث، فهام وراء خياله وأسئلته وبراءته إزاء الموت الذي لم يعرف فحواه. لم تكن مشاهد الموت من جثمان مسجى تحت الإزار، ونحيب نساء، وتشييع جثمان، وصلاة جنازة، لتفتح أمام الطفل مغاليق الحدث. فظل متسائلًا في البدء، ثم لاهيًا ومبتسمًا، وأخيرًا مندهشًا من صلاة الجنازة التي بلا ركوع أو سجود. 
 ولأن الطفل خالي الذهن مما يعنيه الموت، فقد ظل محتارًا من عدم وجود أبيه في زمن الحدث ومكانه: 
  «كيف لأبي ألا يكون أول المستيقظين على إيقاع تلك الصرخة التي هزت منزلنا... أهكذا أضناه العمل اليومي في معمل صناعة الأحذية الجلدية؟». 
 وفي تعليله لغياب والده عن حشد المقبرة: «لعله اشتغل بدوام يوم كامل». 
هكذا يضطر الكاتب لإدخال ضمير المتكلم لبطله الطفل من خلال هذه الحوارات النفسية القليلة، ولو كرس النص بكامله على لسان الطفل لكان أوقع، ولأمكن للقارئ أن يشاهد الحدث بعيني طفل وقلبه.
 اللغة جيدة في مراوحتها بين الصور الذهنية والصور الواقعية حيث الأمكنة ذات النكهة الخاصة، والطقوس، والأجواء العابقة بالمحلية، والصور التي توحي بالكثير رغم السرد القليل.