طوفان الأمل بقرب التحرير

طوفان الأمل بقرب التحرير

هل القضية الفلسطينية بعد 7 أكتوبر 2023م ستكون مثلها قبل هذا التاريخ؟ سؤال محفز صنعته تفاصيل الحدث المزلزل والتضامن العالمي المذهل معه، لقد استفاق العدو الصهيوني على فضيحة هشاشته الأمنية وضعفه الاستخباراتي وهزال قبته الحديدية المزعومة، وقبل أن يسترد شيئًا من تركيزه هرعت إليه واشنطن بحاملات طائراتها والدعم اللامحدود سياسيًا وعسكريًا ودبلوماسيًا، لتؤكد من جديد على أن ذلك الكيان ما كان ليستمر على قيد الحياة لولا الدعم الأمريكي والغربي.

 

لقد توقفت أخبار العالم عند أخبار «طوفان الأقصى»، وتوارت عن الأضواء أخبار أوكرانيا ومباريات كرة القدم، وكل ما كان يقلق الدول الديمقراطية ومعاقل حقوق الإنسان، واليوم تعود القضية الفلسطينية بكل ملفاتها المستحقة إلى الواجهة وتهيمن على طاولة البحث عناوين تم تجاهلها، مثل الأرض مقابل السلام وحل الدولتين وحق العودة، وكل المسلمات التي تفضي إلى أنه لا سلام ولا استقرار في هذه المنطقة سيتحقق قبل استرداد الأراضي المغتصبة وفق قرارات الشرعية الدولية.
لم يكن من السهل التعامل مع حدث متواصل في تفاصيله السريعة مثل عملية «طوفان الأقصى»، لاستخلاص الكثير من النتائج والملاحظات، ولكن في حالة «طوفان الأقصى» الوضع مختلف، ذلك أن التقدم الكاسح للمقاومة الفلسطينية قدم ما لا يمكن إطفاء بريقه أو تخفيف وطأته على الأرض أو في الإعلام، أولاها رمزية توقيت الحدث الذي جاء بعد ثلاثين سنة على حرب أكتوبر 1973م بزيادة يوم واحد، ففي حين حققت الضربة الجوية وعبور خط بارليف عنصر المفاجأة والصدمة لدى الصهاينة، من جيش نظامي يحارب بعقيدة قتالية معروفة، عاشت إسرائيل وفي عز يقينها بتفوقها العسكري نفس المرارة، وهذه المرة من جماعة مسلحة لا تملك عشر ترسانتها الحربية.
لقد نفذت المقاومة الفلسطينية عملية نوعية غير مسبوقة في الخروج من السجن الكبير والتوغل في مستوطنات وقواعد غلاف غزة، وأسرت العشرات من الجنود والقادة الصهاينة خلال ساعات قليلة، كما أطلقت الآلاف من الصواريخ التي وصلت إلى عاصمة المحتل وعدة مدن، وأجبرت سكانها على النزول إلى الملاجئ وتذوق طعم الخوف والرعب الذي يعيشه أهل غزة.
الملاحظة الثانية: برزت لعبة الإعلام الجديد الذي قدم محتويات لصيقة لعمليات التقدم على الأرض تم تداولها عالميًا، ساهمت في رفع معنويات كل الفلسطينيين ومناصريهم، وفي نفس الوقت ساهمت تلك المواد الإعلامية المصورة في نشر الذعر والإحباط لدى الصهاينة، والتأكيد على فعالية خيار المقاومة المسلحة في دفع الطرف المتعنت نحو طاولة السلام.

المتطرفون وجدوا ضالتهم
ليس بالأمر الخافي تطرف حكومة الاحتلال بالجملة والمفرد، وحتى أن وزير التراث فيها طالب بإلقاء قنبلة نووية على غزة للتخلص من حركة حماس! وحتى اللحظة تجاوزت كمية المتفجرات التي ألقيت على غزة الثلاثين ألف طن، ولكن من الملاحظ أن تلك الحكومة المتطرفة ورغم الضربة القاصمة التي تلقتها بسبب «طوفان الأقصى»، وجدت ضالتها في إفراغ ترسانتها الحربية دون التفريق بين الأهداف المدنية أو العسكرية، وتحقيق بعض المشاريع المؤجلة، مثل تقسيم غزة أو تهجير سكان غزة إلى سيناء، خاصة وأنها أخذت الضوء الأخضر للقتل حتى أجل غير مسمى، وبينما نجحت في الأولى فشلت في الثانية أمام صمود الشعب الفلسطيني والموقف المصري الحازم.
 كان من الملاحظ تفاعل قطاع الشباب العربي بأخبار الحرب في غزة، واهتمامهم بمعرفة المزيد عن تفاصيل تاريخ الصراع في منطقة الشرق الأوسط، فضلا عن حماسهم للمشاركة في حملات المقاطعة للعلامات التجارية المؤيدة للكيان الصهيوني، وهو ما يعني أن المستقبل لن يخلو من الداعمين والمؤيدين، وأن شعلة النضال لن تنطفئ.
رأينا مسيرات شعبية حاشدة في الكثير من الدول الأوربية، أبرزها ذلك الطوفان البشري في لندن، وشاهدنا بلادًا في أمريكا الجنوبية تقطع علاقاتها مع دولة الصهاينة، ودولاً أوربية مثل أيرلندا وإسبانيا تتخذ مواقف لا تقل عن الدول المؤيدة للحق الفلسطيني، وتابعنا تحرّكات من مواطنين أمريكيين من ذوي الأصول العربية داخل المجتمع الأمريكي، تلوح بورقة الانتخابات الأمريكية القادمة، فإذا كان الرئيس الأمريكي الحالي، يُداهن أو يؤيد إسرائيل تأييدًا مطلقًا، لضمان وقوف اللوبي الصهيوني معه في الانتخابات القادمة، فإن الأمريكيين من ذوي الأصول العربية، لن يكون من السهولة بمكان إغفال أصواتهم.
الشيء المؤكد وسط مشهد الدمار الشامل لغزة هو أن القضية الفلسطينية أخذت وبثمن عالي الكلفة، فرصة جديدة للبحث عن حل ينهي أقدم احتلال في العصر الحديث ومتطلباته الأساسية نتركها في آخر المقال.

ازدواجية المعايير الغربية
إن الصور الدامية التي تغذي هواتفنا الذكية بما تعجز القنوات التلفزيونية عن بثّه، لأطفال قتلى وأبرياء لم يبق منهم سوى أشلاء مبعثرة، رد فعل متوقع من عدو لم يتوقف أصلًا عن ارتكاب تلك المجازر. وما هو صادم هو ازدواجية المعايير الغربية التي خرست في غزة وتصايحت في أوكرانيا، وانصب حديثهم على حق الصهاينة في الدفاع عن النفس وتدمير كل حجر في غزة حتى يستردوا جميع أسراهم، وحتى الأمين العام للأمم المتحدة الذي خرج عن النص لم يَسلم من انتقادهم، وربما يكون قد كتب نهايته السياسية بسبب دفاعه عن أرواح الأبرياء التي أزهقت والمستشفيات والمدارس التي دمرت. ولأنه دعا إلى ضرورة دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. وقال: «صُدمت من الموت والخراب الذي تعرض له المستشفى الأهلي المعمداني»، وأضاف أنه «يجب وصول المساعدات والطعام والدواء ويجب ألا يتعلق بعملية صغيرة وإنما بشكل دائم».
هذه الازدواجية تمددت لتشمل الملاعب الخضراء، فكل لاعب عبّر ولو همسًا في تصريح أو تغريدة تأييدًا للفلسطينيين أو استنكارًا لحرب الإبادة الجماعية في غزة يتم طرده وفسخ التعاقد معه، وشملت أهم منصات التواصل الاجتماعي الذي برمجت خوارزمياتها لحذف أي تغريده تؤيد غزة.
تلك الازدواجية يمكننا اختبارها بالسؤال عن ماهية رد الفعل الدولي لو أن طرفًا مؤيدًا للفلسطينيين طرح خيار استعمال السلاح النووي لإفناء دولة الاحتلال، يا ترى كيف سيكون رد الفعل من الدول المساندة للصهاينة؟ وفي نفس الوقت أين هي ردود الأفعال ضد وزير التراث الصهيوني الذي قال (فعليًا) إن الحل في غزة يكون بإلقاء قنبلة نووية للتخلص من حماس؟ أعتقد أن الجواب واضح.

سقف المطلب يتهاوى
في العدد الرابع من مجلة «العربي» الصادر في مارس عام 1959م تساءلت المجلة: متى يستيقظ الضمير العالمي من نومه العميق على أنَّات المنكوبين من شعب فلسطين الشقيق؟ ولو كانت هناك استجابة من ذلك الضمير العالمي منذ ساعتها لما وصلنا إلى الوضع المأساوي الذي نحن عليه الآن. 
إذًا ما الحل؟ لقد مرّت عقود منذ نكبة 1948م ومرت القضية الفلسطينية بالمئات من المحطات والقرارات المصيرية ودفعت أثمانًا باهظة من الفلسطينيين والعرب لم تؤت بنتائج غير الواقع الأليم الذين يعيشه الفلسطينيون في الأراضي، ولا يزال هذا السؤال يتكرر وسقف المطالب يتناقص من تحرير كامل فلسطين إلى تطبيق قرارات الشرعية الدولية، إلى سلطة وطنية على الضفة وقطاع غزة، إلى تشكيل حكومتين من دون دولة موحدة، وأخيرًا وصلنا إلى المطلب الحلم وهو فتح المعابر الإنسانية الآمنة للمرور ودخول المساعدات!!
إن جميع حركات التحرر في العصر الحديث سواء بالكفاح المسلح أو السلمي، تتحرك كجبهة واحدة موحدة أمام خصمها والعالم بأسره، واليوم ها هي فرص القضية الفلسطينية تتجدد وسقف المطالب يرتفع والدعم العالمي في أوجه، وفي المقابل يخسر الكيان الصهيوني صورته وسط العالم الذي لم يعد يحتمل سلوكه العدواني وخطابه المستهلك.
إذًا يبدأ الحل أولاً باستثمار نتائج عملية «طوفان الأقصى» بضرورة إيجاد صيغة تتوحد تحت رايتها كافة الفصائل الفلسطينية وجهودها ونضالاتها وعلاقاتها، وهي ليست بالأمر المستحيل طالما صدقت النوايا، وسيجد الفلسطينيون مَن يدعمهم ويشد على أزرهم وسيجدون أيضًا مَن سيجتهد لتفريقهم واستمالتهم في متواليات النزاعات الإقليمية التي لا تنتهي.
إن التاريخ الجديد الذي ينتظر القضية الفلسطينية لن يكون جديدًا إذا عدنا لنفس التفرقة ونفس الاصطفافات، وكما صنع أهل غزة بصمودهم الأسطوري وتضحياتهم الباسلة منفردين يستطيع الفلسطينيون بوحدة الكلمة والموقف الخروج من دائرة التضحيات الكبيرة والنتائج المتواضعة وصنع عالم جديد يعيشون فيه بأمن وأمان ■