بِعُيُونِ شُعَرَائِهَا فِلَسْطِينُ فِي شِعْرِ مُعْجَمِ الْبَابطِين

بِعُيُونِ شُعَرَائِهَا فِلَسْطِينُ فِي شِعْرِ مُعْجَمِ الْبَابطِين

نالت فلسطين، والقدس خاصةً اهتمام كثير من الكتاب والشعراء المعاصرين لم تنله مدينة عربية قديمًا أو حديثًا، وليس أدعى إلى ذلك مما عانته وتعانيه دولة فلسطين حتى هذه اللحظة من الاحتلال الصهيوني ووحشيته، ولم يتوقف الشاعر العربي عن مواصلة رحلة البحث عن (فلسطين) من خلال قصائده، ولو حاولنا أن نرقب هذه الرحلة في الشعر العربي المعاصر؛ لوجدنا صداها يتردد كثيرًا في جل القصائد والدواوين، وعبر الموسوعات الشعرية الكبرى.

 

وعلى الرغم من كثرة ما كتب الشعراء العرب عن فلسطين والقدس، وعن المقاومة؛ فلم تصل هذه الكتابات - على كثرتها وصدقها وعمقها - إلى درجة دفء وحرارة التجارب الشخصية لأبنائها الشعراء الذين ولدوا وتربوا في حضنها وعاشوا فيها، وذاقوا مرارات القصف والخوف والحصار أو النفي والتشرد، وربما أصيبوا أو أصيب ذووهم، أو فقدوا أو فقد ذووهم، جميعهم أو بعضهم؛ إثر طلقات غادرة أو غصص حانقة.  
ويمثل معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين عبر إصداراته المتتالية نافذةً للكشف عن مكنون شعراء العربية، واكتناه مرجعياتهم الفكرية، بالإضافة لكونه تأريخًا أدبيًا وذاكرةً ثقافيةً. ويمكن للباحث عبر نماذجه الشعرية المتنوعة استكشاف كثير من القضايا الإنسانية والفكرية، وكذا الظواهر الفنية للشعر العربي المعاصر؛ ذلك أن تلك المادة الشعرية تمثل مجتمعةً ديوانًا عربيًا كبيرًا، يمكن الاعتماد عليه أيضًا في قراءة الواقع العربي وتفسيره، والوقوف على كثير من الحقائق الإنسانية.
ولو حاولنا التنقيب عن القصائد التي تناولت (فلسطين) أو القدس في شعر معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، فيما ورد فيه من نماذج قد تضمنها بشكل عشوائي (بناءً على المنهج المتبع في جمع مادته)؛ سوف نجد أنه انفرد بعدد كبير من القصائد، التي تنتصر للقضية الفلسطينية، من بينها قصائد لشعراء فلسطينيين، وقد بحث عنها كل شاعر بطريقته؛ فمثلاً تأتي قصيدة محمود درويش (فلسطين: 1941م) «تعاليم حورية»؛ تحمل الملامح الحقيقية، لأمه (حورية)، وفيها يتجرد درويش من خصوصيته كعادته في كثير من القصائد؛ لتنصرف الأم إلى الوطن، وتكون «حورية» مثالاً لكل الأمهات في فلسطين، ويكون درويش مثل غيره من بني وطنه حسب كلامه هو في أحد حواراته المهمة، حيث يقول: «يشرفني أن ينظر إلى صوتي الشخصي وكأنه أكثر من صوت، أو أن (أناي) الشعرية لا تمثل ذاتي فقط وإنما الذات الجماعية أيضًا».
هِيَ أُخْتُ هَاجَرَ - أُخْتُها مِنْ أُمِّهَا - تَبكِي
مَعَ النَّايَاتِ مَوْتَى لَم يَمُوتُوا. لا مَقَابِرَ حَوَلَ
خَيْمَتِها لِتَعْرِفَ كَيفَ تَنْفَتحُ السَّمَاءُ
ولا تَرَى الصَّحراءَ خَلْفَ أَصَابِعِي لِتَرَى حَدِيقَتَهَا
عَلَى وَجْهِ السَّرابِ، فَيَرْكُضُ الزَّمَنُ الْقَدِيمُ
بِهَا إلَى عَبَثٍ ضَرُورِيٍّ: أبُوهَا طَارَ مِثْلَ
الشَّرْكَسِيِّ عَلَى حِصَانِ الْعُرْسِ. 
أَمَّا أُمُّها فَلَقَدْ أَعَدَّتْ، دُونَ أنْ تَبْكِي، لِزَوْجَةِ زَوْجِهَا
حِنَّاءَهَا، وَتَفَحَّصَتْ خلْخَالَها..
...
أُمِّي تُضِيءُ نُجُومَ كَنْعَانَ الأَخِيرَةَ،
حَوْلَ مِرْآتِي،
وَتَرْمِي، فِي قَصِيدَتِيَ الْأَخِيرَةِ، شَالَهَا!
 وهكذا تصير(حورية) جزءًا لا يتجزأ من فلسطين ومن الشعر ومن القصيدة. كذلك تأتي قصيدته (قافية من أجل المعلقات) واحدةً من جسور الامتداد التاريخي، المشدود إلى زمن المعلقات، تكون اللغة فيها سيدةً، وحاضنةً، ودليلاً، والمكان والزمان في آن؛ بل هي فاتحة كل شيء وخاتمته:
مَا دَلَّني أَحَدٌ عَليّ. أَنَا الدَّليلُ، أَنَا الدَّلِيل
إليَّ بين البحر والصحراء. من لغتي وُلدتُ
على طريقِ الهندِ بين قبيلتين صغيرتين عليهما
قمر الدياناتِ القديمة، والسلام المستحيل
وعليهما أنْ تحفظا فلكَ الجوارِ الفارسيّ
وهاجس الرُّومِ الكبير، ليهبطَ الزمنُ الثقيل
عن خيمةِ العربيِّ أكثر. مَنْ أنا؟ هذا
سؤالُ الآخرين ولا جواب له. أنا لغتي أنا،
وأنا معلَّقة.. معلقتان.. عشر، هذه لغتي
أنا لغتي...
في هذه اللغة - أيقونة البدء والرحيل - تكمن الحدود والأزمنة، وتكون فلسطين؛ حيث هي جزء من هذا المعرف، أو الدليل. وسؤال الذات الذي لا جواب له - في القصيدة - يحمل ذات المكان والكائن معًا، في رحلتهما إلى المجهول.  
ولم يكن درويش شاعر القضية الفلسطينية وحده، أو شاعرها الأوحد على الإطلاق؛ ذلك أن كثيرًا من الشعراء الفلسطينيين - من اشتهر منهم ومن لم يشتهر - قد حملوا هذه القضية وهتفوا بها مرددين؛ لعل أحدًا يسمع أو يستجيب، ومع ذلك ظل درويش أكثر هؤلاء وجودًا وحضورًا، فتحل فلسطين أينما حل أو حل شعره، وقد قاسمه هذا المكان، وتلك المكانة صديق عمره سميح القاسم، (فلسطين:1939م)، وقد جاءت قصيدته «أصوات من مدن بعيدة» من أهم النماذج الباحثة عن فلسطين في شعر معجم البابطين: 
يَا رائحينَ إلى حلب
مَعَكُم حبيبي رَاح
لِيُعيدَ خاتمةَ الغضب
فِي جثةِ السَّفَّاح
يَا رائحينَ إلى عدن
مَعَكُم حبيبي رَاح
لِيُعيدَ لي وَجْهَ الْوَطَن
ونهاية الأشباح...
يَا رائحينَ، وَخَلْفَكُم
عينَا فتىً سَهْرَان
ما زال يرصدُ طَيْفَكُم
قَمَرًا على أسوان...
قلبي تَفَتَّتَ، والتقى
فِي رَوْضِكُم... ورده
عُودُوا بِهَا... والْمُلْتَقى
فِي سَاحةِ العودة!
يبحث سميح القاسم عن فلسطين بين شقيقاتها من البلدان العربية، حلب، عدن، مصر... وغيرها، يطوف بهن واثقًا أنها بأعينهن؛ فيتعمد ويتقوى بالوطن الأكبر، ويستعرض أمام العالم عروبته الممتدة، وهو قد وزع الجهود للبحث عن فلسطين، وكما أعطى إشارة البدء؛ فقد حدد مكان اللقاء. وكان قد نذر نفسه لمشيئة أرضه، وأدرك أنه وهي، كلاهما مستباح؛ فهب إلى الكفاح من أجله وأجلها؛ فحملت قصيدته نبرة استفزاز الحس الوطني مع التحريض على المقاومة:
حسنًا... لا مفرّ
إنني حامل دمها المستباح
ودمي المستباح
حملتْه... وأنَّا معًا في خطر
فالكفاح... الكفاح
     ولم يعدم سميح القاسم الظفر والانتصار رغم العذابات والعدم، رغم الضعف والوهن؛ ذلك أنه يرى فلسطين أكبر وأقوى رغم الوحل والشوك والجرح، يشق إشراقها عتمة الضمائر، ويفضح صوتها كل قاتل، والشاعر على يقين بالوصول، دليله إلى ذلك الإيمان بالضوء والإنسان والحضارة:
ولم يزل جبينك المناره
في عتمة الضمائر
ولم يزل صوتك يا حبيبتي
فضيحة القاتل... بعد ليلة الخناجر
ولم أزل أنتظر الإشارة
لأشعل المجامر
لأَنَّنِي مازلتُ يا حبيبتي
أُومِنُ في فجيعتي
بالضوء... بالإنسان... بالحضارهْ!
وعندما يستدعي الشاعر الفلسطيني (السندباد) في شعره، تهب إلى أذهاننا القضية الفلسطينية حيث خرج وراءها عدد من أبنائها يحملون على ظهورهم تشوقهم إليها، خرج كل واحد منهم يحمل في قلبه حلم سندباد، فمنهم من أخفق وسقط في الطريق، ومنهم ما زال يلاطمه الموج، حينًا يكبو، ثم يستأنف الرحلة حينًا. 
ويتوزع الشعراء في رؤيتهم للسندباد، فمنهم من أغرق سندباده ورأى استحالة العود، ومنهم من أصر على عودته، فالشاعر حسن منصور (فلسطين: 1943م) في قصيدته (بحار بلا سندباد): يغرق السندباد رغم شجاعته، ولعله يرمز بالسندباد الغارق إلى تقادم البحث عن فلسطين، وهباء البحث عنها:
غَرِقَ   السِّنْدبادُ   مُنذُ  زَمَانِ 
وَطَوَى الْمَوْجُ  زَوْرَقَ الرُّبَّانِ 
وَمَضَتْ  ذِكْرَيَاتُهُ كَخَيَالٍ     
أَو كَطَيْفٍ يَلُمُّ بِالأجْفَانِ
فيريد الشاعر أن ينبه عن غياب الفارس العربي، الذي راح في سبيل البحث عن الحرية، والهوية، والدفاع عن وطنه. وعندما يذكر السندباد؛ يذكر البحر، والزورق، والربان، والموج، وننتظر نهاية الرحلة، وهنا في هذا النص، يغرق السندباد، والموج يطوي زورق الربان، وما بقي من ذكرياته لا شيء؛ حتى صار البحر بلا سندباد. إنها القضية الفلسطينية، ولا أحد هناك، كل الذين خرجوا إليها، أو من أجلها سقطوا دون الوصول. وقد تمكنت الأسطورة في هذا النص من اتخاذ موقعها كبنية أسلوبية قادرة على صياغة الواقع، والتعبير عن همومه، وقضاياه.
ثم يعرض الشاعر لما تلاقيه القضية من التنكر، والمطال، والتأخر بقصد إماتتها:
وَكَأَنَّ الْبِحَارَ لَمْ تَرَهُ يَوْ     
ماً وَلا صَارَعَ الْعُبَابَ الْقَانِي
أنكَرَتْهُ  شَوَاطِئٌ  عَرَفَتْهُ 
خَذَلَتْهُ مَوَاكِبُ الرُّكْبَانِ
وَتَلاشَتْ سِيْمَاهُ فِي كُلِّ عَيْنٍ
وَامَّحَى صَوْتُه مِنَ الْأَذْهَانِ
غرق السندباد حتى لم تعد معروفةً ملامحه؛ فسيماه تلاشت، وصورته امحت، غرق وهو ينادي، غرق وقد سألهم أن يجعلوا من بقايا الشراع مثلاً سائرًا؛ ليستثير الحماسة ويدعو إلى الاستماتة: 
غَرِقَ  السِّنْدِبَادُ  وَهْوَ يُنَادِي 
مُسْتَثِيراً لِنَخْوَةِ الشُّجْعَانِ
انْشُرُوا لِلرِّيَاحِ فَضْلَ شِرَاعِي     
وَاتْرُكُوهُ يَسِيرُ عَبْرَ الزَّمَانِ
لِيُغَطِّي  كُلَّ  الْبِحَارِ  وَيَبْقَى
مَثلاً سَائِرًا لِكُلِّ لِسَانِ
فلم يغرق الشاعر سندباده لجبن أو تخاذل، وإنما غرق السندباد، وهو يستحث نخوة الشجعان، غرق السندباد، وهو شجاع، فلم يمت السندباد رغم غرقه؛ هكذا الأحرار: 
غَرِقَ  السِّنْدِبَادُ وَهْوَ شُجَاعٌ  
وَطَوَتْهُ الْأَمْوَاجُ  ثَبْتَ الْجَنَانِ
هَكَذَا الْحُرُّ لا يُبَالِي الْمَنَايَا  
أَوْ يَرَى فِي الْحَيَاةِ أَسْمَى الْمَعَانِي
رُبَّ مَوْتٍ يَكُونُ عِزًّا وَمَجْدًا
وَحَيَاةٍ تَكُونُ نَبْعَ الْهَوَانِ
أما الشاعر حسين مهنا (فلسطين: 1945م) ويكشف في قصيدته (عمرو بن معد يكرب يعرض صمصامته في مزاد علني) عن دورة السندباد الطبيعية؛ فيحافظ على سندباده، يحافظ عليه بالأمل والإصرار والعزيمة، فالسندباد مهما ضاع فسوف يعود: 
السندباد يضيع أيامًا وأعوامًا             
ولا ينسى..،
يعود مؤزرا برداء عودته القشيب
ما ضيع الرحمن أوطان الذين تكسرت أسيافهم،
فتفرقوا حينا...
وعادوا موكبا يمضي... ويمضي نحو قرص الشمس..،
يمضي... تاركاً في خيمة البؤس صليبه.
لا دمعة تهمي على من خضت معركتي بغدر سيوفهم
فخسرت كل معاركي وبقيت وحدي...
فقد يضيع السندباد، ولكنه يعود، وكأن هذا مسار طبيعي، ومرحلة إلزامية للانتصار، ويأنس الشاعر بأن الله لا يضيع الضعفاء ولو تفرقوا، وفي النص إشارة إلى بيت عمرو بن معدي كرب:
ذَهَبَ الَّذِينَ أُحِبُّهُمْ
وَبَقيْتُ مِثْلَ السَّيْفِ فَرْدًا
وهكذا فشاعر يعيد سندباده، وشاعر يغرقه: فالذي يعيده يصر على بقائه (بإصراره على المقاومة)، والذي يغرق سندباده يغرقه شجاعًا عزيزًا شامخًا؛ يريد أن يجعل من غرقه فتيلاً لا ينطفئ أبدًا، تظل بقاياه تخلف وراءه أكثر من سندباد وأكثر من بطولة.
أما الشاعر سميح فرج (فلسطين:1955م)، فقد جاءت فلسطين مركزًا رئيسًا من قصيدته (لا تعترف)؛ حيث تتبدى في حماسة شديدة، وتمرد لا يتسلل إليه الضعف أبدًا، ولا يعرف إليه اليأس بابًا، وقد أدرك الشاعر أن الذهاب إلى النور يبدأ بخطوة واحدة، ويعزز موقف المقاومة بالصمود، والتأييد الإلهي:
هل تسمعُ النَّاي المُخَضَّب بِالصُّمُود
صَوْتٌ حماميٌّ... سماويٌّ...
يُهَدِّل أو يُرَتِّل مِنْ بَعِيد
لا تَعْتَرِفْ...
هَذَا نَشيدُك يَا رَفِيقي/ قَد تَجَمَّر فِي جسد
جبل مِن الْفُولاذِ يَنْهَض/ قد تَسخَّر في يديك
لحمٌ، وفولاذ، وشعر...
ثم تتصاعد سيرة المكان؛ فيشهد (عتليت)، و(عسقلان)، و(حيفا)؛ على طول النفس وعظمة الصمود، الذي يكبر ويشتد يومًا بعد يوم؛ مما يرسخ من العزيمة وعدم التهاون أو التنازل:
يَا (عَسْقَلان) أما حَفـــظْـــتِ نَشيــدَنا... يَا عَسْقَلان
يَا (نَفْحَةَ) الصَّحراءِ إنَّا صامِدُون وَصَامِدُون
وَصَامِدُون
فَوقَ الْمُخَيَّمِ صَامِدُون
تَحْتَ الْمُخَيَّم
بَينَ السَّقِيفةِ والسَّقِيفَة
بَينَ الْهَرَاوةِ والهَرَاوَة
بَينَ الضَّرَاوَةِ وَالضَّرَاوَة
بَينَ الشَّقَاوَةِ وَالشَّقَاوَة
بينما لا يرى الشاعر ماجد عليان (فلسطين: 1965م) في الأفق شيئًا سوى الرحيل، ويكشف التناص في قصيدته (سبل الرحيل) - مع أكثر من نص - عن السبل التي يتخذها في الرحيل وتنذر بالغياب؛ فيستدعي النص الشعري للمتنبي (تجري الرياح...)، والنص القرآني، كما في الإشارة إلى سنة الله في الخلق، وكما في (قميص يوسف) معًا؛ توطئةً لتوظيف الأسطوري (سيزيف) في دلالته السرمدية؛ ليقوم الرحيل مقام الحياة:
تَجْرِي الرِّياحُ بِمَا... فَيَنْتَشِرُ السُّكُون    
إِنَّـا إِلَيه لَرَاجِعُون
كَفنا أَعَادُوهُ عَلَى ظَهْرِ الْجُنُود
(هَاتُوا قَمِيصًا عَلَّ عَيْنِي
تُبْصِرُ النُّورَ الْجَدِيد
لا الصَّبْرُ يَنْفَعُ
لا الْبُكَاءُ وَلا الْوُعُود)
سِيزيفُ يَعْبَثُ بِالْحَيَاة
سَيَزُفُّ مَصْرَعَه الْإِلَه
عِيدٌ لِقَاءُ الْعَاشِقِينَ
وَأَيُّ عِيد
(ابْنِي سَعِيد!
هَلْ عَاد؟!) امرَأَةٌ تُرَدِّدُ فِي الْوُجُود
هَذِي رَسَائِلُهُ تُخَبِّرُ أنَّهُ لَا... لَنْ يَعُود
فقد عملت التناصات المختلفة في إفادة القصيدة لدلالة الرحيل واستمراريته؛ بما اشتملت عليه من استدعاءات متنوعة ومتعددة، يتقاطع فيها الأدبي بالديني بالأسطوري؛ لينتج عن ذلك نص محمل بخلفيات متباينة، تفسر من خلال أوجه عدة، لكن يظل الرحيل والبعد وخيبة الأمل واستحالة العود دلالةً مركزيةً في القصيدة، وعلى الرغم من تلك النزعة التشاؤمية، فإنها تسهم في تشكيل الوجدان الدفاعي المقاوم.
أما الشاعر صالح هواري (فلسطين: 1938م) فقد اختصرها في صمود (عروس الحجارة)، خديجة التي خرجت تدفع عنها لآخر نفس في حياتها: 
تَرَكَتْ خَدِيجَةُ صَفَّهَا
حَجَرٌ يُعَانِقُ كَفَّهَا
رَكَضَتْ، وَتَحْتَ جَنَاحِهَا
شَمْسٌ تُهَرْوِلُ خَلْفَهَا
دَمُهَا قَرَنْفُلَةٌ...
تَشَهَّى الْمَوْتُ يَوْمًا قَطْفَهَا
هَذَا الْمُسَيِّلُ لِلدُّمُوعِ
وَكَيْفَ يُوقِفُ زَحْفَهَا
وَجِرَاحُهَا شَبَّابَةٌ
فِي الْقَصْفِ تَبْدَأُ عَزْفَهَا
هَدَمُوا لَهَا دَارًا تَهَجَّتْ
فِي حِمَاهَا عَطْفَهَا
تَحْتَ السَّمَا وَالطَّارِقِ انْتَصَبَتْ
تُقَاوِمُ نَسْفَهَا - حَتَّى إِذَا ارْتَجَفَتْ..،
وَظَنُّوهَا تُدَارِي خَوْفَهَا
- غَزَلَتْ حَصِيْرَةَ عُمْرِهَا
الْبَاقِي... وَغَطَّتْ سَقْفَهَا
وعلى الرغم من كثرة الآمال المعلقة بالأصوات الداعمة لقضية التحرر الفلسطيني؛ فإن الشاعر سلمان فراج (فلسطين: 1941م)، لم ير تلك الأصوات سوى أنها قول على قول، ومن قصيدته «قول على قول» يرى السلام مقولات، لا تعدو مقامات وموشحات، يتفوه بها في تناغم معسول ليس إلا:
كَالْمَقُولاتِ الْخَوَالِي
حُلْوَةٌ فِينَا مَقُولَاتُ السَّلام،
طَوَّحَتْ بِالْأَحْرُفِ السَّكْرَى عَلَى عِيدَانِهَا
وَانْتَضَتْ أُمّ الْكَلَام...
ظُلَّة حَرَّى،
تُبَارِي حَيْرَةَ الرِّيحِ وَتَحْلُو:
«لَيْسَ بَعْدَ الْيَوْمِ مِنْ أَشْرِعِةٍ مُشْرَعَةِ النَّبْرِ
وَلَا مِنْ زَجَلٍ مُرْتَعِشٍ فِي
الرِّيحِ،
أَوْ رُؤْيَا حَرَام».......
فَكَأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَعْدُو مَقَامَاتٍ مِنَ الْقَوْلِ
وَتَوْشِيْحَ كَلَام
بينما يسخر الشاعر عبدالبديع عراق (فلسطين: 1942م) من كثرة عدد الأمة العربية، ويرمز لذلك بالأضلع المكسورة المشوهة، ويستدعي لقصيدته (السؤال الحائر) المثل الشعبي المولد (العد في الليمون)، ولعل عنوان قصيدته (السؤال الحائر) يتوافق نسبيًا مع المثل المذكور، لماذا كل هذا الدمار والحصار ونحن 
كثر؟!:
مَا كانَ كان                     
عمَّ الدمار
شَاخَ الكِبار
كَبُرَ الصِّغَار
قُلْ، لا تَخَفْ،
هَيْهَاتَ أَنْ يَأتِي حِصَار. 
قد جَاوَزتْ عِشْرِينَ ضِلْعًا أَضْلُعِي
بِالعدِّ كانتْ أضْلُعي
بالاسمِ كانتْ أضلُعِي،
لَكِنَّهَا،
وَجَمِيعها،
لا، لَمْ تَكُنْ يومًا مَعِي
«عِشْرُونَ» واخَجَلِي بِها
«عِشْرُون» آه
 «والعدُّ في اللَّيْمون»
مَكْسُورة وَمُشَوَّهة
وهناك علاقة بين الحيرة، واختلال العد، فحين يكون المعدود كثيرًا، ومتشابهًا، تختل الرؤية. وهذه الكثرة، مع عدم الجدوى؛ يحطان من قيمة الكم.
وعلى الرغم من تداول هذا المثل (العد في الليمون)، حتى بلغ حد الابتذال لكثرة شيوعه بين العامة؛ فقد أدى وظيفته هنًا داخل النص؛ فالشاعر مشحون بهم كبير؛ مما دفعه للاستهانة بقصد من كثرة الأضلاع، (دال) القربى، والأهل، وأبناء الجنس الواحد، وهم كثر، لكنهم غائبون، عدد زائد لا فائدة، ولا مرتجى منه ■