التجّار المسلمون في عصر السلاطين المماليك وأوربا

التجّار المسلمون في عصر السلاطين المماليك وأوربا

في بداية القرن الرابع عشر الميلادي، في معظم البلدان الأوربيّة والمناطق في آسيا وإفريقيا المطلّة على البحر المتوسّط، شهدت حركة التجارة تطوّرًا كبيرًا. وفي إطار التنافس مع ازدياد التبادل التجاري بين ضفّتي البحر المتوسّط، أخذ الأوربيّون يعملون على الحدّ من المصاريف وذلك من خلال اعتماد تقنيّات تجاريّة جديدة كالشيك، والحوالة، والمحاسبة المزدوجة، واختيار وسائل النقل الأسرع باستخدام سفن كبيرة قادرة على شحن حمولة تصل إلى 1000 طن. ولكن بالرّغم من التطوّر الاقتصادي، استمرّت الصعوبات والعوائق الناتجة عن تدهور الأوضاع السياسيّة بين السلطنة المملوكيّة (1250-1517م) والمدن الأوربيّة الرئيسيّة بالازدياد طيلة القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، وتركت انعكاسات أدّت الى إحداث تغييرات في الخطوط التجاريّة العالميّة.

 

طيلة هذه الحقبة، كان التجار الأوربيّون يرتادون الشرق ويمارسون أعمالهم بحريّة وأمان نتيجة التسهيلات والامتيازات التي منحهم إيّاها السلاطين المماليك. عاشت جاليات التجّار الأوربيّين في السلطنة المملوكيّة ضمن إطار قانوني وسياسي يسمح لهم بالإقامة في البلاد التي تخضع للسلطان وممارسة أعمالهم التجاريّة، ولكنّهم واجهوا مشكلة تحديد هويّتهم: فهم كانوا يشكّلون «أقليّة» تعترف بها السلطة الحاكمة، ولكن في الوقت نفسه كان معظم السكانّ الذين غالبيتهم من المسلمين يتعاطون معهم بخوف وحذر، فبقي الأوربيّون المقيمون في الشرق غرباء ولم يختلطوا في المجتمع الشرقي. فكلّ ما يجمعهم بالسكان المحليّين في الشام ومصر لا يخرج عن إطار التجارة.  
في المقابل، لا تذكر المصادر أنّ تجّارًا مسلمين ارتادوا موانئ ومدن أوربا وأقاموا فيها إلّا نادرًا. فلماذا لم يسكن المسلمون في أوربا على غرار الأوربيّين في الشرق؟ ولماذا لم تأخذ الحكومات الأوربيّة تدابير مشابهة لتلك التي طبّقها السلاطين في الشرق لتشجيع التجّار المسلمين على الإقامة في البلاد الخاضعة لسلطتهم بهدف زيادة التبادل التجاري بين أوربا والشرق؟   

العلاقات التجاريّة بين أوربا والشرق قبل الحملات الصليبيّة
تعود العلاقات التجاريّة بين أوربا والشرق إلى ما قبل الحملات الصليبيّة التي بدأت منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. ففي القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، كان تجّار المدن الإيطاليّة أمالفي، والبندقيّة، وجنوى، يقصدون مصر للتجارة. طيلة هذه الحقبة، كان التجّار المسلمون لا يهتمّون لأوربا. فالفتح العربي-الإسلامي منذ القرن السابع الميلادي لم ينهِ العلاقات بين الشرق والغرب ولكنّه فتح أمام التجّار المسلمين طرقًا تجاريّة جديدة توصلهم إلى أسواق كبيرة في آسيا، ومنذ ذلك الحين صار التجّار المسلمون يركّزون أعمالهم في البلاد التي يحكمها مسلمون ولم يكونوا مضطرّين للسفر إلى أوربا. لهذه الأسباب، إبّان القرنين التاسع والحادي عشر الميلاديين، كان التجّار المسلمون لا يستوردون من أوربا إلّا كميّات قليلة من البضائع في طليعتها العبيد والسلاح. لم يكن باستطاعة أوربا أن تلبّي حاجات الأسواق الشرقيّة، فلم يعد التجّار المسلمون يهتمّون بها، ووجّهوا نشاطاتهم نحو آسيا الصغرى، والشرق الأقصى، وشمال إفريقيا، والإمبراطوريّة البيزنطيّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الطرق التجاريّة الرئيسيّة للتجارة العالميّة، والتي كان المسلمون يسلكونها، لا تمرّ بأوربا، ولم يكن للأوربيّين أي دور فاعل فيها.
بدأت الأوضاع تشهد تغيّرًا منذ منتصف القرن الحادي عشر الميلادي مع بداية تراجع قوّة الفاطميّين في مصر، ووصول الفرنج «الصليبيّين» إلى الشرق وتأسيسهم لدويلات على امتداد الساحل الشامي، والامتيازات والتسهيلات التي منحها السلاطين الأيوبيّون منذ القرن الثاني عشر الميلادي واستمرارها في عصر السلاطين المماليك بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين. ومنذ القرن الثاني عشر الميلادي، بدأ الأوربيّون تصدير كميّات كبيرة من منتجاتهم إلى الشرق. كان هذا التحوّل في الاقتصاد الأوربي نتيجة التطّور والتقدّم التقني الذي شهدته الصناعة الأوربيّة، والسيطرة التدريجيّة على حركة النقل البحري مع تطوّر صناعة السفن بسبب توافر الأخشاب والمعادن. في المقابل، كان الشرق يعاني نقصًا في المواد الأوليّة لتطوير صناعته وبناء السفن بسبب عدم توافر الأخشاب والمعادن، بالإضافة إلى أنّ كميّات الذهب التي كانت تصل إلى مصر والشام من إفريقيا السوداء أخذت تتراجع. 

العلاقات التجاريّة بين الأوربيّين والمسلمين بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الميلاديين
ساهم التواصل بين الفرنج «الصليبيّين» في الشرق والمسلمين إلى فتح الأسواق بين ضفّتي البحر المتوسّط، وفي هذا الإطار لم يعرف التبادل التجاري إلّا اتّجاهًا واحدًا: من الغرب إلى الشرق. فالتجّار الأوربيّون كانوا يقصدون بشكل متواصل مصر وبلاد الشام، في حين أنّ المسلمين كانوا نادرًا ما يرتادون المدن الأوربيّة. في القرن الثاني عشر الميلادي، كان المسلمون متواجدين في مدينة بيزا الإيطاليّة، فحوالى سنة 1150م، أفاد الراهب البندكتي الإسلندي المدعو نيكولاس أنّه شاهد في مدينة بيزا الإيطاليّة تجّارًا من مصر، والشام، وإفريقيا. وفي العام 1160م، أفاد بنيامين التطيلي أنّ تجّارًا من الإسكندريّة وغيرها من المدن المصريّة يرتادون مدن برشلونة ومونبيليه في جنوب فرنسا. وفي العام 1227م، تاجر من الإسكندريّة اسمه «الحكيم» كان موجودًا في مدينة مرسيليا للتجارة. وبالإضافة إلى ذلك، ورد في مرسوم صادر عن ملك أراغون يعقوب الأوّل سنة 1227م يفيد بأنّ مراكب من الشام ومصر تقصد ميناء مدينة برشلونة.
في نهاية القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر الميلادي، كانت مراكب التجّار المسلمين لا تزال ترتاد ميناء مدينة برشلونة. ففي المعاهدة التي عقدها ملك أراغون يعقوب الثاني مع السلطان الناصر قلاوون سنة 1292م، ترد فقرة تضمّ تسهيلات وامتيازات تخصّ التجّار المسلمين رعايا السلطان، الذين يقصدون مملكة أراغون للتجارة. وشملت التسهيلات الممنوحة للتجّار المسلمين رعايا السلطان تقديم العون والمساعدة في حال تضرّر مركبهم وتأمين حماية الأشخاص والبضائع. وفي حال وفاة أحد التجّار، لا تتمّ مصادرة البضائع بل تُسلّم إلى المسؤولين المسلمين. وفي سنة 1300م، في رسالة وجّهها السلطان الناصر محمّد إلى الملك يعقوب الثاني، وردت إشارة إلى التجّار المسلمين الذين يقصدون مملكة أراغون وتسهيل أعمالهم. 
من جهة أخرى، ضمّت المعاهدة التي عقدها الجنويّون مع السلطان الناصر قلاوون سنة 1290م ثلاث فقرات تضمن حريّة وحماية التجّار المسلمين الذين يقصدون مدينة جنوى الإيطاليّة للتجارة على متن سفنهم أو على متن سفن جنويّة. فقد جرى التأكيد على عدم التعرّض للسفن، ولا يتمّ توقيف جماعة التجّار المسلمين في حال اقترف أحدهم مخالفة ما، أي أنّه لا يطبّق عليهم مبدأ المسؤوليّة الجماعيّة. 
وأيضًا، في العام 1344-1345م، شاهد حاجّ إنجليزي مرّ بمدينة فماغوستا القبرصيّة تجّارًا مسلمين من رعايا السلطان يقيمون في المدينة للقيام بأعمالهم التجاريّة. وفي فبراير 1426م، وصل تاجر شامي يُدعى أبو بكر إلى برشلونة قادم على متن سفينة كتلانيّة عائدة من السلطنة المملوكيّة. كان هذا التاجر يحمل معه كميّات من التوابل، ولاقى استقبالًا جيّدًا. وتفيد السجلّات في مدينة برشلونة أنّ الملك ألفونسو الخامس اندهش من هذا التاجر الذي قدم إلى مملكته دون أن يحصل على إذن يجيز له دخول ميناء برشلونة. أقام أبو بكر ستّة أشهر في كتالونيا وعقد عمليّات بيع وشراء مع العديد من التجّار. غادر نهائيًا برشلونة في بداية شهر آب 1426م عائدًا إلى بلاده على متن مركب كتلاني كان برحلة من برشلونة إلى جزيرة رودس في بحر إيجيه. 
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مسلمي المغرب العربي كانوا، على عكس مسلمي المشرق، متواجدين وبكثرة في إسبانيا في المناطق التي كان يحكمها المسلمون في حقبات سابقة والتي بقيت فيها جماعات من المسلمين بعد أن احتلّها الإسبان. ومثال على ذلك موانئ مملكة أراغون، تحديدًا فالنسيا ومايوركا.
في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، كان تجّار مسلمون من الإسكندريّة يقصدون جزيرة رودس التي كانت تحت حكم الفرسان الإسبتاريّين. كانوا يرتادون رودس للتجارة على متن مراكب كتلانيّة، وحصلوا على إذن يجيز لهم الإقامة في رودس لمدّة شهر والتنقّل داخل الجزيرة لزيارتها. ولكن هذا الوضع بين رودس والسلطنة المملوكيّة لم يدم طويلًا بسبب تدهور العلاقات بين الفريقين وتواصل اعتداءات الفرسان الإسبتاريّين على مدن مصر والشام والتعرّض لمراكب المسلمين في البحر. 
بشكل عام، كان وجود التجار المسلمين في أوربا نادرًا، محصورًا في الزمان والمكان، لا يلعب أي دور في إطار حركة التبادل التجاري بين الشرق والغرب. فأسباب غياب جاليات تجّار مسلمين في المدن الأوربيّة ليست واضحة، ولكن ساهمت بعض العوامل، بشكل مباشر أو غير مباشر، في عدم تشجيع التجّار المسلمين على السفر إلى أوربا والإقامة فيها. 

أسباب عدم سفر التجّار المسلمين إلى أوربا
إبان القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، كان العالم الإسلامي غير مهتمّ بالتجارة مع أوربا، لذلك لم يكن من سبب أو داعٍ ليسافر التاجر المسلم إلى أوربا. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن الشرق والغرب على معرفة بعضهما البعض. ثمّ بعد ذلك، مع الحملات الصليبيّة التي دامت من سنة 1095 إلى 1291م، دخل العالم الإسلامي في حرب مع أوربا وصار سفر المسلم إلى الغرب غير مستحبّ. لذلك، راح الأدباء والمفكّرون المسلمون في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين لا يشجّعون التاجر المسلم على السفر إلى أوربا، لا بل أساؤوا لسمعة التجّار على اعتبار أنّ التاجر لا يهتمّ إلّا بالربح ومصالحه غير آبه بالدين (وذلك خلافًا لما كان سائدًا في الحقبات الإسلامية السابقة). فمثلًا يقول الأديب البصري محمّد الحريري (1054-1122م) أنّ التاجر لا يهتمّ إلّا بزيادة أمواله وأرباحه، ويعتبر الفيلسوف الغزالي (1058-1111م) أنّ مرتبة التاجر تأتي في أسفل السلّم الاجتماعي  بعد المزارع والصناعي بسبب تعلّقه بالمادّة وتخلّيه عن القيم. 
بالإضافة الى ذلك، لم تكن حاجات المسلم اليوميّة والدينيّة متوفّرة في أوربا: مسجد، حمّام، لحم حلال، وغيرها من الحاجات. الفرق الكبير بين المسيحيّين رعايا السلطان (الذميّون) والمسلمون في أوربا يكمن في أنّ البلاد المسيحيّة في الغرب لم يكن لديها نظام للتعاطي مع المسلمين على غرار عقد الذمّة المطبّق في البلاد الإسلاميّة والذي كان ينظّم العلاقة بين السلطة الحاكمة والسكّان غير المسلمين. شكّل غياب تنظيم وضع المسلمين في أوربا عاملًا أساسيًّا في عدم تمكّن أي جالية إسلاميّة من العيش بشكل دائم في المدن الأوربيّة. وبسبب هذا الوضع الذي كان سائدًا، لم يعد المسلمون يتشجّعون للسفر إلى أوربا والإقامة فيها.
ولكن العامل الأساسي والأكثر أهميّة في عدم سفر المسلمين إلى أوربا تمثّل بضعف نشاط البحريّة الإسلاميّة في البحر المتوسّط منذ القرن الثاني عشر الميلادي. فالأوربيّون، والإيطاليّون تحديدًا، سيطروا على المواصلات البحريّة بين الغرب والشرق، واحتكروا النقل البحري، وصار سفر التجّار والبضائع بين ضفّتي البحر المتوسّط  محصورًا بسفنهم فقط.  

نتائج غياب التجّار المسلمين في أوربا على حركة التجارة عبر البحر المتوسّط
إنّ غياب جاليات تجار مسلمين في أوربا لم يسمح للمسلمين بمراقبة حركة الأسواق الأوربيّة ومعرفة ظروف التجارة في المراكز التجاريّة الأوربيّة. فالمعلومات عن أوربا وأوضاعها الاقتصاديّة كانت ضئيلة جدًّا، لأنّ المسلمين في الشرق لم يتعلّموا اللغات الأجنبيّة، ولم يقيموا في أوربا، فاقتصرت معلوماتهم عن أوربا بما يحصلون عليه من الأوربيّين الذين سكنوا في مصر والشام واعتنقوا الديانة الإسلامية. وكانت المعلومات التي يحصلون عليها تتعلّق فقط بالأوضاع السياسيّة والعسكريّة للدول الأوربيّة، في حين أنّ للتجارة أسرارها والأوربيّون كانوا حريصين على الالتزام بالصمت وعدم البوح بأي شيء يرتبط بأوضاع أسواقهم؛ كانوا حذرين جدًّا في التعاطي مع المسلمين.

بداية إقامة التجّار المسلمين في أوربا
في القرن السادس عشر الميلادي، ستتغيّر ظروف وأوضاع البحر المتوسّط مع بداية التوسّع التركي العثماني ما سهّل انتشار الإسلام في مناطق عدّة من أوربا الشرقيّة. وبسبب ازدهار حركة التجارة مع العثمانيّين، استقبلت مدينتا البندقية وأنكونا الإيطاليتان جماعات من التجّار المسلمين، فصارتا المدينتين الوحيدتين في أوربا اللتين تضمّان جماعات تجّار أتراك عثمانيّين. وأخذ عدد التجّار العثمانيّين في مدينة البندقيّة يزداد بعد توقيع معاهدة صلح سنة 1573م، ومع الوقت بدأت الحكومة البندقيّة تنظّم أوضاع الجالية العثمانيّة لديها، وأنشأت فندقًا للأتراك العثمانييّن سنة 1618م، فكانت محطّة مهمّة لانطلاق مرحلة جديدة ساعدت على تفعيل التجارة وتعايش جماعات التجّار مع بعضها البعض ■