إستونيا «شهود الماضي» والمستعمرون تستذكرهم «تالين»

إستونيا «شهود الماضي» والمستعمرون تستذكرهم «تالين»

ما أقرب بلد في الشمال الأوربي للعاصمة الفنلندية هلسنكي، تتيح لي الرحلة إلى بلد جديد، أضعه في أجندة الترحال باعتبارها الدولة الـ44 التي أزورها؟
حملني السؤال إلى خارطة العالم أستكشف المسميات، عبر إطلالات زرقة الماء لأتبيّن المفاجأة الجميلة، فهناك تالين، عاصمة إستونيا، وبينها وهلسنكي محض امتداد أزرق لا يبدو متسعًا، حتى أدركت أنه يمكن للعبّارة أن تجتاز المسافة المقدرة بنحو ثمانين كيلومترًا في نحو ساعتين، وكان جمال التخيّل، كما هي رومانسيته الآسرة، الانتقال من بلد إلى آخر، كما ترسم المشهد الروايات والأفلام، عبر سفينة تمخر عباب الماء، فنكون بين زرقتين، وبعد حين من الزمن تلوح الموانئ في الأفق البعيد شريطًا صغيرًا، يكبر ويكبر حتى تظهر يابسة تبدو كأنما لا حدود لها أيضًا.

 

للمرة الأولى في حياتي يحملني البحر إلى دولة، وقد اعتدت على البر والجو عشرات السنين تنقلت بين مئات المدن على هذه البسيطة، ناقلة تسير على الماء، شرفات ومقاهي و«سوبر ماركت»، ومسرح في مقدمة السفينة عليه عازفان ما أجمل غناءهما، رغم حاجز اللغة، لكن الفرح في صوتيهما لا يحتاج إلى مترجم، وكان البر الإستوني يدفع صورته لتكبر تدريجيًا مع اقتراب السفينة منه، حيث نعبر خليج فنلندا، الذي يحدّ إستونيا من الشمال، بينما في الغرب بحر البلطيق، وفي الجنوب لاتفيا (تبعد عنها نحو 343 كم) ثم شرقًا بحيرة بيبوس وروسيا.
بدا ذلك الخط من معمار تالين الذي كان يبدو صغيرًا بين زرقتي البحر والسماء يظهر واضحًا على معالم المدين، وحواف السماء متشابكة بالغيوم التي تنبوء بأن توقعات الطقس لذلك اليوم ستتحقق خلال الساعات القليلة المقبلة.
ألقينا برحالنا إلى «تالين»، عاصمة البلاد، وإحدى مقاطعاتها الخمس عشر، وسكّانها نحو مليون ونصف المليون نسمة، وسرنا في أفواج الخارجين من فم السفينة، وهي تسير يوميًا ذهاباً وإيابًا بين هلسنكي وتالين، لكن الجموع، وعدد الرحلات، ينبئان بحركة دؤوبة، إضافة إلى عدد السيارات والشاحنات التي تصطف خروجًا من باطن الحافلة البحرية.
كأنما كتبت الشاعرة الإستونية كريستسنا إيهين نصّها «خليج الانطلاق» ليلة البارحة:
نحن هنا في خليج الانطلاق
أشرعة مرفوعة على البواخر
الزمن المطحون على كسور الثواني
يرتاح على أقدامنا فوق الرمل الأبيض.
في سيارة الأجرة، والتي بدا لي عدّاد «الحساب» فيها يسير بجنون، كنت أقرأ عن هذه المدينة، الواقعة على ضفاف الساحل الجنوبي لخليج فنلندا، وفي الشمال الغربي لأستونيا، أقدم عاصمة في الشمال الأوربي، وكانت تسمّى «رافال» منذ القرن الثالث عشر، حتى تحوّل إلى تالين عام 1917م، ورغم قدمها إلا أنها اليوم ضمن أفضل عشر مدن رقمية على مستوى العالم، علمًا بأن إستونيا انضمت للاتحاد الأوربي ضمن عشر دول محسوبة على «أوربا الشرقية» كأكبر عملية توسع للاتحاد في الأول من مايو عام 2004م، بعد التوقيع على معاهدة الانضمام عام 2003م، وفي عام 2011 اختيرت عاصمة الثقافة الأوربية، بجوار «توركو» الفنلندية. 
تالين... قلب إستونيا بما تعنيه من دلالات حضارية وثقافية وصناعية، بمينائها الحيوي، وبأقدامها المغروسة هنا بثبات رغم آلام كثيرة عرفتها وهي تنتقل من حكم محتل إلى حكم محتلّ تال، أسقطت البيروستريكا تماسك الاتحاد السوفييتي فكان حظ البلاد التي أدرجت عنوة تحت عباءته الاشتراكية أنها تنفست كما يليق بشعب أن يحكم نفسه بنفسه، دون خشية من أحذية الجيش الأحمر تعيده إلى السرب، و«مظلة الاتحاد الأوربي» توفّر للجالسين تحتها حماية من مغامرات «الدب الكبير»، كأنما ذهبت عصور الاستعمار من غير رجعة.

المدينة القديمة
اعتدت في كل مدينة اقتناء شريحة هاتف كأول ما أفعله منطلقًا في يومياتي بين تفاصيلها، فعبر «النت» يمكن الوصول بسهولة إلى المعلومات والمواقع، قراءة المكان على نحو ميسّر، فأرشدني موظف الفندق إلى اسم، بدا لي أنه شركة اتصالات، وكان البحث عنه في عدة أمكنة مرهقًا، حتى أدركت بعد ساعتين من المشي أنه مسمى «سوبر ماركت» يبيع شرائح الهواتف النقالة، وبسهولة تامة، فلا حاجة إلى جواز سفر، ولا تعبئة استمارات أو تفعيل خدمة!!
سألت خرائط «جوجل» أن تقودني إلى المدينة القديمة، وهي المسجّلة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، لكن في الطريق إليها كان لا بد من العبور على معالم لا يمكن تخطّيها دون الوقوف لزيارتها، منها متنزه جميل تكاثفت فيه الأشجار حتى خرجت بنا الممرات من زاوية التفافية مغايرة وضعت جمالاً أمام عيني لم يكن في حسبان التجوال في الساعات الأولى من وجودي في هذه المدينة، ذات الاسم الأنثوي الجذاب... تالين.
تحيط بالمدينة القديمة الجدران الأصلية التي تقدّر أطوالها بنحو كيلومترين، وعليها نحو 35 برج مراقبة دائري، وبينه بأسقف مخروطية حمراء، علما بأن  للجدار ستة أبواب، بينها بوابة فيرو التي لا تزال تقاوم جريان الدهر عليها.
تلال مسورة بالأحجار أو الطوب، ألوانها دالّة على ما عبرته من قرون تتابعت كتتابع الغزاة على هذه الأرض، تعلوها أبنية يهبها العلو هيبة وجلالاً، محاطة باللون الأخضر، ويسير الزهر على ضفافها فيسري العبق من عمق الماضي ونضارة العطر من تلك القطائف المتوردّة في أغصانها، فتحسب أنك أمام لوحة أوسع من أن تكون جدارية، تضيف إليها السحب المتراكمة بألوانها البيضاء والرمادية خلفية رائعة، وعليك أن تقف كصوفي أمام حضرة كل ذلك الجمال، فتشكر مبدعه الأول، رب السماوات والأرض.
بدت كاتدرائية نيفنسكي تحفة حقيقية يمكن رؤية ذات الشكل تقريبًا من زواياها الأربع، وتعد الكاتدرائية الأرثوذكسية الروسية الرئيسية في إستونيا، يعود تاريخ بنائها إلى عام 1900م، عندما كانت البلاد جزءًا من تلك الإمبراطورية القيصرية، لتكون رمزًا لهذه الهيمنة، في بعديها الديني والسياسي، على منطقة البلطيق كاملة، وكان معمارها الدvaاخلي مدهشًا في تفاصيله اللونية، مع أقواس علوية تروي الاهتمام بالأبنية التعبدية على مدار العصور، خاصة حينما تكون علامة سيادية ترتبط بالقيصر أكثر مما ترتبط بربّ القيصر!
التلّة التي عليها الكاتدرائية باعثة على التجوال والاستمتاع بالمناظر التي تتيحها تلك الأشجار وحقول الورد من حولها، وما تطلّ عليه من فضاءات المدينة التي تنسحب منها شمس ذلك اليوم، فتنعكس أشعة الغروب، وبما تسمح به الغيوم الجائلة بكثافة في سماء المدينة، على مبنى الكاتدرائية فيمنح المعمار بهاء يكاد يتغيّر كلما خفت الضوء عنه أو زاد.
اتّخذت طريق النزول من التلّة عبر أقواس الأبراج المتكاثرة، ممرات مرصوفة بالأحجار، ويكاد الورد ينطق بالجمال أينما مضت الخطوات، أبراج تقف على سور المدينة، دلالة على ما عرفته من حروب، بين مستعمر جديد جاء ليطرد سابقه، أو أصحاب البلاد يبتغون فرصة من الدهر يتنفسون فيها أحرارًا، كان العازف يبتسم وهو يرفع صوته بالغناء، كلمات لا يصل معناها، لكنّي أدرك عمق إحساسها في عبورها بين قلبه وحنجرته، ألتقط الصورة تلو الأخرى له، فيشير مبتسمًا ألا أنسى وضع شيء بجوار تلك النقود المعدنية القليلة التي احتواها وعاء أمامه، وحينما انتهى من الغناء قالها بصوت عربي مبين «ما شاء الله»، ضمن بضع كلمات يعرفها من لغة الضاد.
 كان برج كبير بجواري شعرت أن به ما يمكن استكشافه، استغربت التسمية، هنا متحف يدعى «كيك ان دي كوك»، بدا المكان محصّنا، وكأن قوة الاسم وتعقيده دال على ما بين جنباته من قوة حياة عسكرية، ومعروضات تروي التاريخ الدفاعي للمدينة منذ العصور الوسطى وحتى العصر الراهن، فهو برج دائري ضخم من القرن الخامس عشر، مع أنفاق مجاورة تدعى «باستيون»، تعرض جانبا من تحصينات المدينة وما استخدمته من أسلحة للدفاع عن نفسها، ويعود تاريخ الأنفاق إلى القرن السابع عشر، خلال الحكم السويدي لنقل الجنود والذخيرة، وتحولت إلى ملاجئ من القنابل خلال الحرب العالمية الثانية، وتوسعت خلال الحقبة السوفييتية لتتناسب مع عصر وجدت فيه الكهرباء والاتصالات.
يعد برج متحف «كيك ان دي كوك» أكبر برج مدفعي في العصور الوسطى في دول البلطيق، يروي أسطورته التي مزقتها المعارك ليبقى أحد رموز مدينة تالين، حيث يبقى الزائر مع تلك الإثارة والغموض وهو يعبر ممرات ما كان معتقلا ومعروضات الأحجار المنحوتة بروعتها التي تركها نحّاتو المدينة.
وتتكاثر الأبراج في العاصمة الإستونية تالين، فهناك ساحة الأبراج لما تضمّه من أبراج أسوار المدينة القريبة منها، وبين عامي 1931 - 1933م تحوّلت الساحة إلى حديقة عامة، وأضيفت إليها ساحة دائرية عام 2009م، أي بعد ما يقرب من عشرين عامًا من تجديدها، ويقام فيها مهرجان تالين الدولي للزهور كل صيف.
ألمح شرحًا عن بوّابة «تومبيا»، أهم بوابات تالين في فترة ما بعد العصور الوسطى، لكنها اتّخذت شكلها النهائي حينما كان اسم المدينة «ريفال»، باعتبارها مركز مقاطعة السويد الإستونية، وكان مقر الحاكم يقع في قلعة تومبيا، وعززت البوابة الجديدة التي أقيمت لاحقًا ببرج المدفعية الكبير، وأقيمت أول المعاقل الصغيرة نسبيًا في مطلع القرنين السادس عشر والسابع عشر، وفي عامي 1677م، و1710م - بنيت معاقل كبيرة لاتزال إلى اليوم صامدة، كما صممها المهندس السويدي إريك دالبرغ، لكن معلومة إضافية تقول إنه من غير المعروف ما إذا كانت البوابة «الباروكية» صممها دالبرغ نفسه، أو من قبل المدير المحلي لأعمال البناء بول فون إبسن، أو ربما شخص ثالث، لكن يمكن القول إن أصول الإلهام لبوابات القلعة المماثلة جاءت من أقواس النصر في العصور القديمة، وكان الممر المقوس الذي يبلغ طوله 20 مترًا عبر السور يتضمن ثلاث بوابات ذات أبواب مزدوجة، وفوق البوابة بناء أتبع ببرج على الجانب الداخلي من السور، وربطت البوابة بجناحين سفليين مع غرف لجنود الحراسة، وأمام البوابة خندق بعرض مائة متر، مع عبور الجسر الخشبي له، وكانت البوابة متّصلة بالمعاقل المجاورة أيضًا عن طريق ممرّات تحت الأرض، لكن في عام  1710م سقطت تالين تحت حكم الدولة الروسية، وهدمت البوابة في عام 1860م.
أنتهي من قراءة تلك المعلومات المثبتة على لوحة، فيما يلوح برج هيرمان، بطوله الذي يعد أهم رموز استقلال جمهورية إستونيا، وقد بني على ثلاث مراحل، منذ منتصف القرن الرابع عشر، إلى بداية القرن السادس عشر، وعلى هامته علم الجمهورية بألوانه الثلاثة: الأزرق والأسود والأبيض، يرتفع كل يوم مع شروق الشمس، وينزل مع غروبها، مع موسيقى النشيد الوطني، ورفع العلم لأول مرة في 12 ديسمبر عام 1918م، وغاب عن البرج مدة فترات الاحتلال حتى عاد مع استقلال الجمهورية من جديد.

أمام «ساحة الحرية»
كل الطرق تؤدي إلى ساحة الحرية، كشأن هذه المفردة السحرية، على الطرف الجنوبي للمدينة القديمة، ساحة واسعة تبدو مهيأة للحفلات الرسمية، والعروض الموسيقية، كان برج كنيسة القديس يوحنا يلوح شرقًا، وعلى القرب عمود النصر الذي يخلد حرب الاستقلال التي خاضتها إستونيا بين عامي  1918م إلى  1920م.
تعدّ الساحة مفخرة وطنية للإستونيين، على أرضها عاشوا الرحيل الأخير لحكم القيصر عن بلادهم، واستعادت عافيتها عام2009م مع تجديدها، بعد عقود من الإهمال عاشتها خلال الحقبة السوفييتية واستمرت سنوات بعد ذلك، لكنها الآن بقعة حيوية، مع ما تشهده من احتفالات وطنية وغيرها.
أساءل التاريخ عن تلك الأحداث التي منحت هذه البلاد استقلالها، لتستعيد اسمها «جمهورية إستونيا» بدلاً من اسمها السوفييتي «جمهورية إستونيا الاشتراكية السوفييتة»، وقد كان لها مجلس حكم تحت مسمى «مجلس السوفييت الأعلى الإستوني» الذي اعتمد في الثلاثين من مارس عام 1990م قرارا أكد فيه أن احتلال الاتحاد السوفييتي لهذه الجمهورية في 17 يونيو عام 1940م لم ينه وجودها كجمهورية معلنًا بداية استعادة «جمهورية إستونيا» والدخول في فترة انتقالية ريثما تتشكل الهيئات الدستورية فيها من جديد، وفي الثامن من يونيو أبطل المجلس ذلك الاسم المرتبط بالسوفييت.
وحينما تداعى الاتحاد السوفييتي تحت وطأة رياح البيروستريكا التي أطلقها جورباتشوف، وانفراط حبّات العقد واحدة بعد أخرى رأى الإستونيون أن الفرصة أصبحت متاحة، وفي مساء التاسع عشر من أغسطس التقى مندوبو مجلس السوفييت الأعلى الإستوني واللجنة الإستونية في مفاوضات لتأكيد استقلال البلاد، وكان النقاش: هل ستؤسس جمهورية جديدة أو العودة إلى ما كان عليه الوضع الدستوري لبلاد تأسست عام 1918م، وبعد 22 عامًا عرفت مشاق الاحتلال.
وقبل أن يمضي منتصف ليل العشرين من أغسطس عام 1991م كان ملايين الإستونيين يتابعون تلفزيون بلادهم حيث صوّت «مجلس السوفييت الأعلى الإستوني» على تأكيد استعادة الاستقلال بحضور 70 مندوبًا من بين 105 يتكوّن منهم المجلس، فأصبح ذلك اليوم عيدًا وطنيًا تحتفل فيه البلاد بنيلها حرّيتها من جديد، وهذه الساحات تحفظ تاريخ هذا اليوم، ومنذ عام 1991م، على نحو لا يمكن لذاكرتها أن تنساه.
لم يكن مجرد استقلال عن محتل، بل ما يشبه إسدال الستار على سلسلة متعاقبة من الغزاة احتلوا هذه البلاد، فعبر تاريخها مرّ عليها المحتلون، الدنماركيون والسويديون، والألمان الذين سيطروا عليها خلال الحرب العالمية الثانية، لكن اتفاق هتلر- ستالين سلّمها للجيش الأحمر، وبقيت تحت هيمنة الكرملين نحو نصف قرن من الزمان، لكن بعد إعلانها الاستقلال بنحو أسبوعين أعلن الإتحاد السوفييتي اعترافه بها كجمهورية مستقلة، وبعد نحو ثلاث سنوات، في اليوم الأخير من أغسطس عام 1994م، غادر آخر روسي البلاد الإستونية.
يدرك الإستونيون الثمن الذي دفعوه على مر مراحل تاريخهم مع الاستعمار، ففي الحرب العالمية الثانية فقط راح ربع عدد السكان ضحايا، كأعلى المعدلات في أوربا، مع عمليات ترحيل قام بها الاتحاد السوفييتي عام1941م، وأخرى ألمانية إضافة إلى ضحايا المحرقة.

في الساحة... جمال وحمام
بما يشبه «الداون تاون» أو وسط المدينة بدت الساحة عامرة بالمطاعم والمقاهي، والكراسي الخشبية التي يأوي إليها المتعبون من السير، وعلى جانب منها رفّ كتب كمكتبة صغيرة لها من يرغب بمجالسة «خير جليس»، فيما كان نورس يقف على المقعد الخشبي أعين على المارّة، وما قد يحملونه في أيديهم فيسهل خطفه، أو صوب طاولات الطعام كأنما يحسد العصافير الصغيرة على قدرتها وهي تتقافز بخفّة لا يملكها بالقرب من مقاعد الجالسين، تفتّش عن رزقها، وتأنس للبشر حينما تكاد تقف على صحون الأكل أمامهم.
التفت النورس كثيرًا، وبقي أكثر، لكن حظّه في هذه المدينة لا يشبه حتى حظ الحمام، وقد احتفت بها من خلال مجسمات صخرية تظهر الحمام في وضعيات مختلفة توزّعت على الساحات وبالقرب من بعض الشوارع، ولوّنت بعضها لتبدو أبعد عن لونها الصخري، وفيما كنت أتمعّن هذه الطيور الحجرية وقفت امرأة بزيّها التقليدي تستعرض على مجسم حمامة، ودعتني لتصويرها، أبهجها أن عابرًا ما التفت ليقول لها كلمة شكرًا، ما ترتدينه جميل ومميّز. 
ذات صبيحة من صباحات «تالين» الناعمة بدت الساحة تستيقظ للتو، فيما كان عشّاق الاستيقاظ المبكّر يقرأون لافتات المحلات المغلقة ريثما يتمكنون من اجتياز عتباتها، حيث لا مطر ولا برد، فهذه المدينة ما تزال ناعسة، «وما الإصباح منك بأمثل» كما يقول امرؤ القيس.
هناك شوارع جانبية عدّة تحيط بالساحة، كل منها يقود إلى جمال ما، ساحات صغيرة تتجاور تشكّل المدينة القديمة محفوفة بالسور الذي يسمح أحيانًا بعبور السيارات عبر بوابات واسعة، وبعضها للمشاة فقط، متاحف صغيرة هنا وهناك، حتى الصيدلية كان لها متحف احتلّ ركنًا صغيرًا داخلها، تماثيل تتوزّع على تلك الشوارع، يشدّني تمثال أرغب في تصويره لكن عابرة وقفت تتحدث معه كصديق لا يغدر، حيث يبقى في مكانه ينتظرها متى أرادت اللقاء، بجواره مكتبة كان لا بدّ من اجتياز عتبتها، كأي طقس عدم القيام به منقصة لا تليق بمرتحل يريد قراءة المدينة، وخير مكان للتعرف عليها هو متاحفها ومكتباتها، أكتفي بالنظر، وبملصق طولي مطوي بعناية داخل أنبوبة يروي حكاية أخرى من حكايات المدينة، عشرات الصور لأبوابها، فبدت اللوحة بابًا مكوّن من أبواب.
وألقيت نظرة أخيرة على الطاولة أمام باب المكتبة، عروض خاصة على عشرات الكتب، بأسعار تكاد رمزية، لكن لا أكاد أعرف قراءة حتى العناوين، ومع ذلك شاغبتني الرغبة لاقتناء ولو القليل منها. 

فخامة قاعة المدينة
في صدر الساحة تقف قاعة المدينة بمعمارها الجاذب مغلقة الأبواب، وكان مجموعة من الزوار يترقّبون حلول الساعة العاشرة ليأذن الحاجب بالدخول، لكن موظفًا «رسميًا» أوضح أنها تستضيف اليوم فعالية، وعليكم أن تأتوا غدًا، حتى إذا حان الغد، ومعه وابل من الأمطار التي استمرت ساعات فتحت الأبواب، وعبرنا إلى قاعاتها التي لا تبدو سوى غرف صغيرة بها بعض المعروضات التي يمكن عبرها قراءة جانب من تاريخ المدينة، وعن القاعة بما شكّلته من أثر حيوي مهم في ماضيها العابق بالقدم، مع أبواب صغيرة لا يمكن الدخول إليها إلا عبر الانحناء، لكنك تكاد تشمّ عبق قرون مرّت من هنا، رائحة تجتاز الأنوف، فيما الأعين تبحث عن شيء ما لا تريد أن يفوتها، هنا ثمة أمر تشعر به الروح لكن البصر يرتدّ في تلك الدهاليز الضيقة، بينما أناقة المبنى تكمن في روعة أقواسه وألوانه، من خلال التصميم الداخلي، أو الأسقف المقبّبة، إضافة إلى منحوتات خشبية دالة على ثراء تاريخي عرفته المدينة.
يعود بناء القاعة إلى العصور الوسطى، فقد أنشأت بين عامي 1402 - 1404م، كمكان لاجتماع الطبقة الحاكمة، فتشكّلت كتحفة فنية وسط تلك الساحة، لكنها أخذت دورًا عصريًا يتناسب مع مكانتها كصرح تراثي، فتستضيف حفلات موسيقية بحضور رؤساء دول زائرين، حيث لها ذلك السحر الخفي كونها الوحيدة الباقية في شمال أوربا منذ ذلك العصر، وتعدّ مركز الحكومة البلدية الأوربية (الإدارة المحلية) منذ عام 1248م، وأطلق عليه عام 1970 اسم مجلس المدينة، وفي عام 2005م حصلت بلدية تالين على جائزة التراث الثقافي للاتحاد الأوربي «من أجل إحياء آخر قاعة بلدية قوطية على قيد الحياة في شمال أوربا والكشف المثالي عن جميع الطبقات التاريخية لهذا الرمز للتقاليد الأوربية العظيمة للسلطة البلدية».
كان هناك سلّم لولبي يقود إلى الأعلى، فاتخذت طريقي إليه، وصولاً إلى قمة القاعة، والتي بدت كخيمة تقطعها أعمدة خشبية ضخمة تتقاطع لتحمل سقف القاعة المدبب، ويوجد في القمة ما يشبه المتحف المصغر يضمّ معروضات كأنما هي مكافأة من صعد ذلك السلم ليرى شيئًا على الأقل.
خرجت من قاعة المدينة لأواجه المطر من جديد، لا يبدو أن «تالين» تعرف العطش، أو تحتاج إلى تحلية مياه البحر، فهي تشرب من بحيرة كبيرة تحمل اسمها، فيما كان هناك في الماضي نهر يدعى «هريبابيا» يمضي من بحيرتها نحو البحر، لولا أنه حوّل لمياه الصرف الصحي عام 1930م، فاختفى من شرايين المدينة.

الصعود إلى البرج
لم يكن البرج في قاعة المدينة سوى «بروفة» صغيرة لتجربة الصعود إلى برج آخر، برج لكنيسة «سان أوف لاف» التي يعود تاريخ بنائها إلى القرن الثاني عشر، ويبلغ علو برجها نحو 123 مترًا، وكانت أطول مبنى في فترة القرون الوسطى (ما بين عامي 1549-1625م).
يعدّ ضمن ملحقاتها، سلالم لا تعرف آخرها، لولبية ضيقة لا تكاد تتّسع اثنين، ثم تبدو درجاتها تضاعف ارتفاعاتها، حتى أحصيت نحو 120 درجة أوصلتني إلى بقعة صغيرة جدًا كنا فيها أربعة أشخاص فقط احتجنا بعض الوقت لالتقاط الأنفاس قبل استيعاب ما صعدناه، والجرس العتيق حولنا معلّق حتى شاغبتني رغبتي أن أحرك هذا الجرس لولا مخافة سقوطه، أو ما قد يحدثه من رنّات تخبر المدينة عن هذا «الولد الشقي» القادم من وراء البحار.
لتلك البقعة الصغيرة في الأعلى نوافذ طوليّة ضيّقة، ولالتقاط صورة كنا نتحرك بصعوبة فيترك أحدنا مجالاً للآخر، كانت الساحة في الأسفل متجمّلة بمياه المطر، والغيوم تتكاثف بيضاء عبر الأفق الممتد، والأسطح القرميدية الحمراء لمنازل المدينة يشرق لونها وهي تغتسل بالماء، كما هو شأن الأشجار في الحدائق القريبة على الزوايا الأخرى، وفي طريق الهبوط كنت أتحسس الأصوات الصاعدة حتى يمكنني البحث عن أوسع مساحة ممكنة يمكن للقادم فيها اجتيازي، وهو يمضي نحو الأعلى، حيثما كنت قبل قليل.
كان المطعم الهندي مغريًا للجلوس إليه في ذلك اليوم الممطر، والمسار الشاق إلى قمة برج قاعة المدينة، لديه شاي «المسالا»، وبين محتويات قائمة طعامه وجبة عدس، أسأل الجرسون الإستوني عنه بالكلمة الإنجليزية لكنه يفاجئني: «دال؟»، قلت له: «نعم، دال... يا أيها الفتى، فأتني به، لقد لقيت في صعودي هذا نصبًا».

سيرا للالتقاء بشهود الماضي
إلى المتحف الوطني الإستوني، حيث يطرح التساؤل: «ماذا يمكن أن تخبرنا هذه الأشياء عن 11000  سنة في إستونيا؟» وتأتي الإجابة: «قبل كل شيء يظهرون مرور الوقت»، وتضيف الكلمات: «يخلق الإنسان كائنا، ثم يشكّل الكائن الإنسان في المقابل، إنها علاقة متبادلة»، و«لماذا نحتاج إلى هذه الأشياء القديمة التي نجت من الزمن؟»، السبب بسيط: «أفضل طريقة للتعرّف على أشخاص من عصور مختلفة هي من خلال ممتلكاتهم، يمكننا التعرف على الناس من خلال ما جمعوه وحفظوه. هذه هي نقطة الأشياء».
تشدّني الكلمات بعد ترجمتها، وأمضي في تتبّعها: «تقدم لنا هذه العناصر اليومية من الماضي لمحات فقط من الصورة كاملة. لماذا؟ إما أنها مكسورة أو مهترئة أو فقدت قيمتها أو أصبحت عناصر جديدة، أو انتهى بها المطاف في سلة المهملات، بالنسبة لبعض العناصر ظلت وظيفتها ثابتة نسبيًا على مر السنين، وكان مظهره تغيّر بشكل لا يمكن التعرّف عليه، لم تتغير العناصر الأخرى على الإطلاق، على سبيل المثال، لا يزال من الممكن استخدام حذاء عمره 300 عام اليوم دون أن يبدو غريبًا جدًا...»، ويأتي المثال المقابل عن الكتابة التي تطوّرت عبر السنين لتصل إلى لوحة المفاتيح والشاشات المضئية.
من شهود الماضي القريب أتأمل آلة بيانو، يكاد ينطق في لونه الأسود الملكي، وقد عرفت إستونيا صناعته منذ أكثر من 200 عام، وكانت فترة ازدهار صناعته بين عامي 1850 و1940م، والمعروض يبلغ طوله 225سم، علما بأنه ما يزال يصنع يدويًا في هذه البلاد، وتشير الكلمات المكتوبة للتعريف عنه، أن ما يجعل البيانو الإستوني مميزًا هو نبرته الرومانسية الدافئة الغنية، فكل آلة منها لها صفاتها الفريدة الخاصة بها، ويمكن العثور على نماذج من هذه الصناعة الإستونية في جميع أنحاء العالم.

الماء يعبر بكثافة
كان البحث عن نقطة انطلاق «الباص الكبير» مبهجًا في تلك الصبيحة الإستونية بطقسها الذي يتوقّع سقوط الأمطار طوال اليوم، أو ربما على مدار الأسبوع، لكن ما أن أشار «جوجل» بخرائطه إلى اقترابنا من «الوجهة المطلوبة» حتى انفتحت مزاريب السماء عن مطر أغرق الشوارع في بضع دقائق، الغرق الجميل حيث الماء يجري صافيًا على الدروب المبلّطة بالأحجار، وكأنه يسير معنا، في ذات الاتجاه، نختار لخطواتنا ما يمكنه أن يكون أقل ضحالة من أمكنة أخرى، فنتقافز تحت خيبة السيطرة على المظلات التي يكاد الهواء أن يزيحها عن المسافة الفاصلة بين رؤوسنا وسماء تمطر، وفيما كانت الإشارة تفتح لونها الأخضر للمشاة كان عليهم البحث عن أفضل السبل للعبور نحو الضفّة الأخرى، قبل أن يقوم اللون الأحمر بفتح المسارات، والوقوع في فخ سيارات تتعجّل الانطلاق، والضباب يمنع سائقيها من وضوح الرؤية.
تنطلق الحافلة السياحية من نقطتها الأولى، على الخريطة ثمة أماكن يجدر بالتوقف عندها، لكن نوافذ الطابق الأعلى منه لم تعد تمنح رؤية بانورامية كعادتها، الضباب يتكاثف على الزجاج فلا ترى أي درب أو معلم عليك تأمل جمالياته، تمامًا كالسقف المغطّى بما يعطيه المرء من إحساس أنه أشبه بجلوس في حديقة، لكنه على مقعده يتحرك ليرى معالم المدينة بأقل جهد ممكن، مع إمكانية النزول في أية بقعة للتجول، فهناك حافلة أخرى ستأتي بعد عشرين دقيقة، كما هي «عادات وتقاليد» مثل هذه الحافلات.
عبر ما يسمح به الضباب المتراكم على النوافذ الكبيرة للحافلة أطلّ على حديقة كادريورج أو (قادر يورج) حيث كنت أمنّي النفس بزيارة القصر المهيب هنا، والذي بناه القيصر بيتر الأكبر كمقر صيفي له، المبنى الباروكي الذي يعود إلى القرن الثامن عشر، فقد بدأ تشييد القصر عام 1718م، وافتتح عام 1725م، والاسم الإستوني للقصر، كما هي التسمية الألمانية «وادي كاترين»، ويتضمّن مجموعة من المتاحف والمعارض الفنية، بما يعكس جمال المبنى في داخله وخارجه، تحيطه تلك المساحات الخضراء الواسعة، وتلك المنتزهات البديعة والتماثيل الحجرية والآثار...
لكن لا يتوقف هذا المطر، كأنما أراد حبسنا داخل هذه الحافلة، لنتخيّل المكان عبر ضباب الذاكرة وما يتداعى من معلومات عنه.
في هذه الأجواء الضبابية والممطرة أفتح هاتفي على الشبكة العنكبوتية أقرأ نصًا لأي شاعر إستوني، يعطيني الإحساس بروح الأمكنة، وعمق هذا الانسكاب السماوي الذي يكاد يطوي المدينة في قالب مائي، فوجدت ضالتي في نصوص فرانسوا سيربان (من مواليد 1971م)، وكانت عن المطر:
ما من شاطئ
منذ اثني عشر شهرا
لم يتوقف المطر
والأنهار تفيض
منذ اثني عشر شهرا
أو منذ ستين سنة
لم نعد نميّز الليل من النهار
لم نعد نميّز اليابسة من البحار
وخلف الحجارة تختفي حجارة أخرى
وخلف الآلام آلام أخرى
من من شاطئ
لا شيء إلا المياه والبرد
والمياه، المياه، المياه...
أغلق الهاتف على هذا المقطع، حقًا، لا شيء حولنا إلا الماء، حتى عندما عبرنا بجوار الميناء القريب كانت الحدود ضائعة بين ماء البحر والآخر المنهمر من السماء، تأتيني شاشة الهاتف من جديد على صورة شعرية أخرى لذات الشاعر:
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
ترغب جولييت في المزيد
لكن روميو لم يعد بإمكانه.
ونحن أيضًا أيها الشاعر، لم يعد بإمكاننا الاستمتاع بجمال المدينة، فقد غرقت الرؤية في الضباب، ولا عاصم يعصمنا من «البلل» إلا مطعم تركي نسأله «حلال؟!»، فلا يجيب، بل يكتفي بالإشارة إلى الباب الملصقة عليه الكلمة كبيرة وواضحة، لكنه غبش المطر أيها «العثماني في بلاد الإستون»، فارفق بنا بصحن «شاورما».
حملت مياه المطر إلى داخل صالة الاستقبال في الفندق، وكأنما المظلة كان حملها أثقل، وربما قرأت في عيني الموظف عن جدوى تلك المظلة إن كنت مبللاً إلى هذا الحد!!
وفيما كانت السماء تميل للصحو قليلاً في نهار تال كان الوقت قد أزف لقول «وداعًا تالين»، وعلى البعد تلوح السفينة واقفة على حافة الماء قريبًا من اليابسة، ابتسم سائق سيارة الأجرة بامتنان، وأنا أدفع له ثلث ما دفعته لذلك الذي حملني من المرسى قبل عدة أيام، وكان عدّاد «الحساب» في سيارته يتحرّك بجنون! ■

الغيوم لا تكفّ عن هذه المدينة، فتهبها المطر بسخاء

حوائط في المدينة القديمة، وتبدو الطرقات المرصوفة بينها بالأحجار

تحيط المتنزهات بالأسوار القديمة في جوانب عدة من المدينة

 ويجاور المعمار القديم الزهر أينما تسير بك الخطوات

في السور ثمة بوابات، تضاف إلى مهمة الأبراج الدفاعية

جانب من أحد شوارع المدينة، حيث النظافة والأناقة

ساحة الحرية حينما بللها المطر، فانعكس الماء حرية أوسع.

أقواس تزيّن مدخل قاعة المدينة دلالة على فخامة الماضي

أبواب صغيرة للدخول إلى القاعات تعكس نمطًا معماريًا قديمًا

القاعات تتجلى على جمال الأقواس كلوحة متجسدة

السلم الدائري الذي قادني وسط أحجار برج القاعة إلى أعلاها

مكتب صغير في علية قاعة المدينة

هكذا بدت ساحة المدينة من برج قاعة المدينة في يوم ماطر/ وللنورس ثمة متسع لأخذ استراحة... وتأمل المشهد