فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي في دورته الرابعة والأربعين
تحولت ندوات موسم أصيلة الثقافي في دورته الرابعة والأربعين التي التأمت في أكتوبر الماضي، إلى مختبر فكري لتحليل أبعاد مجموعة من الندوات الفكرية المختلفة التي برمجت ضمن الفعاليات. وعلى صعيد آخر، تداولت مداخلات نقاد وأدباء في موضوع «الرواية والخطاب البصري»، وأقيمت أيضًا مشاغل فنية ومعارض تشكيلية، فضلًا عن توزيع «جائزة محمد زفزاف للرواية العربية»، وتنظيم دورة جديدة لـ «خيمة الإبداع».
بحث المشاركون موضوع ارتباط الأمن بالتنمية في إفريقيا، وسلّطوا الضوء على ما تعانيه هذه القارة من تفكك وهشاشة وعدم استقرار وضعف اقتصادي ونشاط إرهابي وعودة العسكر في بعض الأقطار، كما استرجعوا تاريخ 1984 الذي شهد ما عُرف بـ«مؤتمر برلين»، حيث جرى رسم خريطة جديدة لإفريقيا، تنسجم مع الأطماع الاستعمارية لعدد من الأقطار الأوربية. ولاحظ محاضرون أن الأمن لا يتصل بالموقع الجغرافي فحسب، وإنما أيضا بالتنمية والرفاه.
ومن ثم، خلصوا إلى مجموعة من الاقتراحات، من بينها: إحداث نهضة حقيقية في إفريقيا تراعي جميع الجوانب بما فيها الثقافية، وإحياء «قافلة الصحراء» من أجل تعزيز التبادل الثقافي بين البلدان الإفريقية، فضلاً عن إحياء الأسواق الصحراوية بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي.
وأكدوا على ضرورة تنويع الشراكات مع البلدان الأجنبية وعدم الاستناد إلى القطبية الواحدة من خلال تبني مفهوم متعدد الأقطاب، واقترحوا في هذا الصدد الاستفادة من إعادة إحياء المشروع الصيني «طريق الحرير»، مما يتيح تكوير التواصل وتعزيز المبادلات التجارية وتقوية البنى التحتية والعلاقات الثقافية.
ويرى المتدخلون أنه من الضروري تعزيز ثقة المواطن الإفريقي في دولته، وتعزيز قنوات النقاش والحوار داخلها، من منطلق أن الديمقراطية لا تقتصر فقط على الانتخابات، وإنما أيضًا تشمل إشراك المواطن في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية وغيرها. ومن ثم، يتعين تفعيل دور المجتمع المدني، إلى جانب عمل المؤسسات الحكومية والعمومية.
أوربا... إكراهات وتحديات
عمل المشاركون في الندوة على تشخيص التحديات التي تواجهها أوربا حاليًا، من قبيل تداعيات - «كوفيد 19» والحرب الأوكرانية وانتشار الأسلحة النووية وتأثير التكنولوجيات الجديدة والتحول الطاقي والتغير المناخي والذكاء الاصطناعي، والتوترات السياسية بين أمريكا والصين، بالإضافة إلى تدفق المهاجرين بشكل أثر على الاستقرار السياسي والاجتماعي لبعض الأقطار. وتراوحت المداخلات بين تسليط الضوء على العناصر السلبية الموجودة في القارة العجوز، والتركيز على نقاط القوة؛ ففيما يخص المستوى الأول، لاحظ متحدثون أن أوربا تعيش اليوم أزمة وجود فعلية، في ظل وضع جيوسياسي ونظام ماكرواقتصادي يتّسمان بالتعقيد. ومن ثم، لم تعد هذه القارة ـ بحسبهم ـ قوة عظمى كما كانت عليه في السابق.
واعتبر أصحاب هذا الرأي أن الاتحاد الأوربي يتصرف وكأنه قوة سياسية وعسكرية عظمى، في حين أن حجمه على هذين الصعيدين أقل من ذلك بكثير، لأنه يفتقر إلى أدوات هذه القوة المزعومة والاستقلالية المطلوبة. وعلاوة على ذلك، لم يحسن التعامل مع بلدان الجوار كما يلزم، مثلما هو الشأن بالنسبة لشمال إفريقيا وجنوب الصحراء والشرق الأوسط.
وفي المقابل، ذهب مشاركون آخرون في الندوة إلى القول إن الاتحاد الأوربي ما زال يتمتع بمقومات اقتصادية قوية ويشكل سوقًا تجارية كبرى. وهو أيضًا يمثّل محور ثقافات متعددة، كما أن وجود جاليات متعددة في الكثير من البلدان يشكل قيمة مضافة، يتعين استثمارها من أجل خلق شراكة حقيقية مع بلدان الجنوب واعتماد سياسة عبور ميسرة تعزز العلاقات مع الشعوب، لا سيما وأن أوربا مازالت تلعب دورًا مهمًا على الساحة العالمية، وتحتفظ بتأثيرها الثقافي والفكري، لكنها مطالبة بإحداث قطيعة مع العقلية الاستعمارية، لا سيما في علاقتها مع العالم العربي وإفريقيا اللذين لم يعودا يقبلان باستباحة ثرواتهما ولا الهيمنة عليهما وإصدار الأحكام في حق شعوبهما.
العرب و«الفراغ الاستراتيجي»
من ناحية أخرى، شكّل موضوع «الفراغ الاستراتيجي» الذي تشكو منه الأمّة العربية محور ندوة شخّصت الواقع والأسباب، وخلصت إلى مجموعة من الاقتراحات، من أبرزها: ضرورة توافر إرادة سياسية لتوحيد المواقف، والبحث عن المشترك بين الأقطار العربية وتفعيل مؤسسات العمل العربي الموجودة في هذا المجال، ودعم الاستقرار الاقتصادي وتحقيق العدالة والحوكمة ومحاربة الفساد وتعزيز الحريات.
وذهبت مداخلات أخرى إلى ضرورة تبني فلسفة جديدة في تدبير الشأن العام، تقوم على المشاركة الديمقراطية، علاوة على إيجاد حلول لمعضلة المعرفة عن طريق بناء نموذج تعليم ناجح، وحلّ إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمعات العربية، وترسيخ ثقافة الاختلاف وحسن تدبيره وتكريس ثقافة التسامح.
وبالإضافة إلى ذلك، شدد المتدخلون على أهمية تنظيم التنافس بين الأقطار العربية، وكذا تنويع الشراكات بالانفتاح على دول الجنوب الصاعدة لتقوية العلاقات الاقتصادية، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الكبرى، وصياغة رؤى متطورة للعالم من طرف العرب.
الخطاب البصري في الرواية
على مستوى النقد الأدبي، تداول نقاد وأدباء خلال دورة الموسم، في موضوع الرواية والخطاب البصري، إذ خصص الناقد السعودي معجب سعيد العدواني مداخلته لتوظيف الفن التشكيلي في روايتيْ «مسرى يا رقيب» للسعودية رجاء عالم و«حبس قارة» للمغربي سعيد بنسعيد العلوي. بينما تناولت الباحثة اللبنانية كاتيا غصن حضور ثيمة السينما في الرواية العربية، من خلال أربعة نماذج: «سارة» لمحمود عباس العقاد، و«تصطفل ميريل استريب» لرشيد الضعيف، و«حرمة» لعلي المقري، و«كلب بلدي مدرب» لمحمد علاء الدين.
أما الناقدة المصرية أماني فؤاد، فسلّطت الضوء على العلاقة بين الرواية وفن المعمار، من خلال المقارنة بين «بيت وسيلة» الذي يعود إلى العصر المملوكي بالقاهرة، وبعض منازل مدينة أصيلة ذات النفحة التراثية، والتي يعود بناؤها إلى ما يقرب من ثلاثة قرون. وخصص الناقد والباحث المغربي حسن بحراوي مداخلته لرصد الخطاب البصري في الرواية، وتوقف عند العلاقة بين الرواية وفن التصوير من خلال عناوين روايات عربية، مثل «الضوء الهارب» لمحمد برادة، و«ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي.
وارتباطا بموضوع الرواية، أعلنت مؤسسة «منتدى أصيلة» عن تتويج الروائي اللبناني رشيد الضعيف بجائزة محمد زفزاف للرواية العربية، لكونه «استطاع على امتداد أربعة عقود أن يقدّم للمشهد الروائي العربي رصيدًا متنوعًا وغنيًا ومقنعًا، يضم رؤى جمالية وإنسانية فارقة» وفق ما جاء في تقرير لجنة التحكيم، التي سجلت أن أعمال الروائي الفائز بالجائزة «تنطوي على جرأة نقدية، لا تعيد كتابة ذاتها؛ فقد اختار، عكس التيار، ألا يدخل الرواية من باب السرديات التاريخية الكبرى، ولكنه قارب فن الرواية والتراث العربي والحداثة وما بعدها وتشظي الفرد والمجتمع عبر الغوص في ذات الراوي/ المثقف العربي، وتناقضاته، بأسلوب موارب، يتعمّد الاستسهال ولا يسقط فيه، ويخفي ما أمكن خلفيات النص النقدية، بلغة مصقولة ونافذة الأثر».
واحتفت «خيمة الإبداع» بالأكاديمي والمفكر المغربي الدكتور سعيد بنسعيد العلوي، حيث أدلى حوالي 20 أكاديميًا وناقدًا شهادات في حقّه، كما أصدرت مؤسسة «منتدى أصيلة» كتابا ضم شهادات المشاركين.
تشكيل
الفنون التشكيلية كانت حاضرة أيضًا في الدورة الرابعة والأربعين لموسم أصيلة الثقافي، من خلال مشاغل الصباغة والحفر والليتوغرافيا، ومشغل «مواهب الموسم» للفتيان، بالإضافة إلى معرض مشترك للفنانيْن: المغربي سعيد المساري والسوري علي علي سلطان.
يعتمد المساري، الذي اختار للوحاته عنوان «نبل الورق»، أسلوب الحفر الفني من أجل استرجاع ذاكرة الطفولة، ويتولى هو بنفسه تصنيع الورق بشكل يدوي، بهدف ردّ الاعتبار للصانع المغربي التقليدي كما قال، وتقوم تقنية الحفر لديه على تهييء سند وحوامل من الجبص للحصول على الأشكال المطلوبة، في مسعى لتمجيد الحرف والكتاب والمعرفة الإنسانية ومقاومة المد الجارف للرقميات التي تكتسح الوجود اليومي للبشر. ومن ثم، تحبلُ لوحات سعيد المساري بحروف مستوحاة من طفولته في مدينة تطوان، بالإضافة إلى نص شعري للأديب عبدالقادر الشاوي ومقاطع من كتب.
أما الفنان التشكيلي السوري علي علي سلطان المقيم في إسبانيا، فاختار أسلوبًا غرائبيًا للوحاته، مستوحى من عالم الحيوانات الذي يستدعي قصص الطفولة التي ترويها الأمهات والجدّات، كما حصل معه هو شخصيًا حين كان صغيرًا، وفق تصريحه لنا، وذلك كنوع من التكريم للمتن الحكائي الشفهي في سورية. وكشف الفنان نفسه أن لوحات المعرض تندرج ضمن كتاب فني مشترك أنجزه بمعية الكاتب الإسباني فرنسيسكو نافال ■