مقاييس الجمال في الشعر العربي القديم

مقاييس الجمال  في الشعر العربي القديم

الشعر في الوجدان العربي القديم، في فترة ما قبل الإسلام، وفي مراحل متقدمة بعد انتشار الإسلام في العرب كان يعني التاريخ والثقافة والفعل الاجتماعي، وكان من أهم أسلحة الحروب لإشعالها وإيقافها في آن. كان وجوده في الوجدان العربي يعني وجودًا لا يزاحمه عليه وجود آخر. ومع سيطرة الأميّة على الوجدان العربي آنذاك كان الشعر بغنائيته يحفظ أحداث وجودهم وأخلاقهم ومآثرهم ومفاخرهم، لأن الغنائية بإيقاعها في الشعر كانت تساعدهم على حفظ ما يريدون، وكانوا يستعملون الشعر حتى في زجر الإبل وحضِّها على الماء، ولعل الإبل تعوَّدت على الاستجابة لدلالة إيقاعية أشعارهم.

 

   كان الشعر في جوهره استجابة للأخلاقية الشائعة وقتئذٍ. وكانت جمالية الشعر المرتبطة بتكوينهم في ظروف قاسية تساعدهم على الحضور الاجتماعي، حتى أصبح الشعر أعلى وأوسع  وسائل إعلامهم. 
كانت جمالية الشعر مرتبطة بأخلاقية حياتهم وحاجاتهم. لقد فضّلتْ زوجة امرئ القيس «أم جندب» شعر علقمة الفحل على شعر زوجها امرئ القيس، لأن حصان علقمة كان أفضل من حصان امرئ القيس، وهذا لأن الحصان مرتبط بمعاركهم وحروبهم ووجودهم. 
لقد اعتبرت أم جندب أفضلية حصان علقمة سببًا لأفضلية شعره، وعندما سألها زوجها عن سبب تفضيل علقمة عليه أجابت: لأن فرسَ ابن عبدة أجودُ من فرَسك، فقال امرؤ القيس: وبماذا؟ فقالت: إنك زجرتَ، وضربتَ بسوْطك، وكانت تعني قوله في وصف جواده:
فـللــساق ألـهـوبٌ وللـسوط درّةٌ 
    وللــزجر منــه وقـعُ أخرجَ مَهدِبِ
أمّا علقمة فقال:
فأدرَكَهُنَّ ثانيًا من عنانهِ
    يمرُّ كمَرِّ الرائحِ المُتَحلّبِ
ففرسه أجودُ من فرسك، لأنه قد أدرك الخيلَ ثانيًا من عنانه من غير أن يضربه بسوطٍ أو يحرِّك ساقيْه. وبصرف النظر حول ما قيل في صحة هذه الرواية، إلّا أنها تعكس روح عصرها باعتبار الشجاعة أولًا في الشعر، وفي أدواته.
وكان استعمال الألفاظ بدقة يعتبر من أهم عناصر الجمال في أشعارهم، وكات كلمة تضيف معنى جماليًا أعلى من كلمة من نفس اشتقاقها، فقد فضّلَ النابغة الذبياني، في سوق عكاظ، الخنساءَ على حسان بن ثابت الأنصاري، وكانت الخنساء قد ألقت قصيدتها في رثاء أخيها صخر:
قذىً يعينكَ أم بالعينِ عُوّارُ
    أم ذرَّفتْ إذ خلتْ من أهلها الدارُ
وألقى حسان قصيدته التي يقول فيها:
لنا الجَفَناتُ الغرُّ يلمعن في الضحى
    وأسيافُنا يقطرْنَ من نجدةٍ دما
ولَدْنا بني العنقاءِ وابنَيْ محرّقٍ
    فأكرِمْ بنا خالًا وأكرمْ بنا ابنما
وكان الانتقاد الموجَّه لحسان من النابغة الذبياني هو ما قاله لحسان بن ثابت بعد أن احتج على تفضيل الخنساء، قال له النابغة: أنت يا حسان قلتَ: لنا الجفنات، والجفنات لغة عددها محدود وكان عليك أن تقول الجِفان بدل الجفنات لأن الجفان تدل على الكثرة بعكس الجفنات التي تدلُّ على القلة، وهذا يقلل من سمة الكرَم في قومه، وقلتَ الغرّ، وهذا يقلل من كمية الطعام الموجودة في الجفنات، والغرّ قليل البياض، ولو قلتَ يُشرقنَ لكانت أفضل من يلمعن، فاللمعان فيه تَقَطُّع، والإشراق ضوء مستمر، ولو قلت في الدجى لكان أفضل من الضحى لأنّ الطارق يأتي ليلًا، وقلتَ وأسيافنا، وكان عليك أن تقول سيوفنا، لأن أسيافنا جمع قلة، وقلتَ يقطرْنَ وكان عليك أن تقول: يسلنَ لأن القطر أقل من السيلان. وقيل أكثر من نقد في هذا البيت دفاعًا وهجومًا، وفي كل الحالات كان اختيار الكلمة التي تتفق مع المعنى أجدر بالاستعمال.
في هذا البيت إشارة واضحة إلى خصوصية الكَرَم التي يفتخر بها العربي، ولو كان به خصاصة، وهذا برأيهم يزيد الشعر جمالًا لتآلف الكَرَم مع نفسية العربي. وهذا ما يُدخِل الشعر إلى منطقة الجمال برأيهم. إنّ جمال العادة الاجتماعية الموجودة في أعماق العربي كانت تزداد جمالًا عندما تُصاغ بشعرٍ جميل، وقتها ينسجم الذوق مع الطبع، ومعًا يدخلان حالة الجمال.  وكانت مفاهيم الجمال تأتلف أحيانًا كثيرة مع المتغيرات الاجتماعية، فقد كان كفار قريش لا يتضايقون من هجاء حسان بن ثابت الأنصاري حين يتّهمهم بالكفر، ويتضايقون حين يهجو أصولهم القبلية، وانقلبت الصورة حين دخلوا الإسلام، فصاروا يتضايقون من الشعر الذي وصَمَهم وعيَّرهم بالكفر سابقًا. لقد اختلفت أذواقهم الجمالية بالنسبة إلى الشعر عندما دخلوا الإسلام وتغيرت نظرتهم إلى الكون.
ولشدة سطوع خصوصية الجمال في الشعر العربي لم يستطع الإسلام الذي حاول إزاحة العرب عن ينابيع الشعر وموارده في مواقع كثيرة، فقد جاء في القرآن الكريم: «والشعراءُ يَتَّبِعُهمْ الغاوون»، وجاء في الحديث الشريف: «لئنْ يملأ أحدُكم جوفه قيحًا خير من أن يملأه شعره»، ومع ذلك ظلّ المسلمون يَرِدون مناهل الشعر لخصوصية جماله، فالرسول العربي أمر حسان بن ثابت أن يهجو كفار قريش «وقال له: «أهجُهم وروح القدس معك». وأعجب الرسول بجمال قصيدة كعب بن زهير حين قال في قصيدته المشهورة «بانت سعاد» أمام رسول الله:
فقلتُ خلّوا سبيلي لا أبًا لكمُ
    فكلُّ ما قدَّر الرحمن مفعولُ
كلُّ ابن أنثى وإنْ طالتْ سلامتهُ
    يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ
نُبِّئْتُ أنّ رسول الله أوعدَني
    والعفو عند رسول اللهِ مأمولُ
إن الرسولَ لسيفٌ يُستضاءُ به
    مهندٌ من سيوف الله مسلولُ
ولشدة إعجاب الرسول بهذه القصيدة ألقى بردته على الشاعر كعب بن زهير. وبدأت جمالية الشعر رغم خصوصيتها المتوارثة تأخذ أبعادًا إسلامية، وأضيفت جمالية الإيمان وروحه إلى الشعر كما نرى في شعر حسان بن ثابت الأنصاري في مديح النبي محمد:
نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ
    من الرسلِ والأوثانُ في الأرضِ تُعْبَدُ
فأضحى سراجًا مستنيرًا وهاديًا
    يلوح كما لاح الصقيلُ المهنّدُ
وواضح في البيتين المذكورين أن روح الإسلام واضحة بَيِّنة فيهما، وذلك من خلال تشبيه الرسول بالسراج المستنير المؤدي إلى الهدى، وواضح في البيتين أيضًا الفخر بالموروث السابق المتجلي بالشجاعة حين شبّه الرسول بالسيف المهند، فكان الجمال منتميًا بالمعنى إلى نور الإيمان وبالمعنى أيضًا منتميًا إلى ميراث متحدر من مرحلة ما قبل الإسلام، ومنتميًا أيضًا إلى صياغة فنية مترفة تتجلى بتركيبة جمالية اللغة التي تمتاز بمزج جمال الفكرة بجمال الصياغة. وأكّد الدين الجديد ما سبقه من قيم أخلاقية جميلة، وحين سئل الخليفة عمر بن الخطاب عن أفضل شعراء الجاهلية قال: قائلُ «من ومن»، ويقصد زهير بن أبي سلمى وحِكَمه، وسبب هذا التفضيل في رأي عمر بن الخطاب أن حِكَمَ زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة: «أمن أمّ أوفى دمنةٌ لم تَكَلَّمِ» كانت متفقة في معظمها مع فكر الرسالة الجديدة ومع الأخلاق العربية التي بُعِث الرسول العربي لإتمامها: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وهكذا كانت كل فترة تحمل حسًّا جماليًا من عصرها دون أن تتخلى عن الموروث الشعري القديم، لأن الشعر كان في حقيقته تاريخ العرب. إنّ قصيدة الفرزدق في مدح «زين العابدين علي بن الحسين» أعجِبَ بها المؤمنون لقدسية الأفكار الإسلامية التي تحملها، ولم يُلْغِ تطرفها السياسي روعة الحس الإسلامي الموجود فيها، وجماليتها الإسلامية أتت من أسلوبها الصياغي المعتمد على الألفاظ الإسلامية حيث يقول الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
    والبيت يعرفه والحلُّ والحرم
ما قال لا قط إلّا في تشهُّدِهِ
    لولا التشهد كانت لاءهُ نعمُ 
يكاد يمسكه عرفان راحته
    ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلمُ
وفي العصر العباسي دخلت مقاييس جماليّة جديدة منسجمة مع طبيعة تلك المرحلة اجتماعيًا، فقد بدأت المدن تأخذ معنى حضاريًا أبعد من مرحلة البداوة والزمن الطللي، وتغير اللباس والطعام وانتشر كل ما يلائم طبيعة المدينة، وكان أبو نواس الحسن بن هانئ أبرز تعبير عن الحس الاجتماعي الجديد والمتأثر باجتماعيات الحضارات الأخرى في العصر العباسي الأول. إنّ انتفاء الظاهرة الطللية والحياة البدوية من مدن العراق جعل أبا نواس يستجيب لجماليات الحياة الجديدة الوافدة إلى المجتمع العربي من التمازج الحضاري الجديد، لقد سخر أبو نواس من الوقوف على الأطلال الدارسة:
قل لمن يبكي على رسمٍ دَرَسْ
    واقفًا ما ضرَّ لو كان جلسْ
وقال أيضًا:
يا ربعُ شغلُكَ إني عنك في شَغَلي
    لا ناقتي فيك لو تدري ولا جملي
وابتهج أبناء المدن لشعر أبي نواس المعبر جماليًا عن حياتهم الجديدة، حين دعا إلى معاقرة اللذات في مقاهي بعداد، حيث آمنَ بواجب ائتلاف الجمال مع دواعي الوضع الاجتماعي الجديد. 
 استعار ألفاظ الحضارة الجديدة لتستقيم الصلة بينه وبين عصره، وهذا من مكوّنات الجمال الأولى، ولنتأملُ ألفاظ ابن المعتز وهو يصف القمر:
أنظرْ إليه كزورقٍ من فضّةٍ
    قد أثقلتْه حمولةٌ من عنبر
إنها ألفاظُ عصره، ومنه استوحت قبولها جماليًا من المتلقين.
ومن أقوى عناصر الجمال في الشعر العربي قديمه وحديثه الظاهرة الغنائية المنبعثة من الصياغة الفنية، وهذه الغنائية التي بلغت مستوى عاليًا في شعر البحتري هي التي جعلت الآمدي في موازنته يميل لتفضيل البحتري على أبي تمام، رغم عبقرية أبي تمام التي خرجت على الأساليب القديمة في التعامل مع النص الشعري. ولذا قال القدماء: «أراد البحتري أن يُشعِر فغنّى». وهذه الظاهرة تستحق دراسة وحدها.
إن الشعر هو التاريخ الوجداني للعرب منذ القديم، ولذا اهتموا به، وتلمسوا معالم جماليته في نتاجهم الشعري كما رأينا. ومهما أحصى النقاد من عناصر التكوين الجمالي في الشعر تظل جمالية الشعر عصية على الحصر، لأنه يسبق اللغة أثناء ولادته، ولكون جمالية الشعر فوق الحصر نسب الأقدمون الوحي الشعري للجن في وادي عبقر. وقالوا: «لن يترك العرب الشعر حتى تترك الإبلُ الرغاء» ■