«بدايات» القاص المغربي إدريس الخوري

«بدايات» القاص المغربي إدريس الخوري

  لقد شكّل الراحل إدريس الخوري مع زميليه محمد شكري ومحمد زفزاف «ثالوثًا أدبيًا» مغربيًا يشبه في كثير من الوجوه ثالوث «أوسكار وايلد» و«ت. س. إليوت» و«آرثر رامبو»، سواء على مستوى الحياة الشخصية المتمردة على السائد التي اختاروها أو على مستوى الكتابة النازعة إلى الواقعية في شكلها الجارح والفج أحيانًا، لكن بإبداعية واقتدار.
  وإذا كان محمد شكري ومحمد زفزاف قد حظيا بشهرة تجاوزت حدود المغرب، فإن شهرة الخوري أو«بادريس»، كما يناديه أصدقاؤه وقراؤه، ظلت دونهما رغم أنه لا يقل عنهما حضورًا وإبداعية. لذلك ارتأينا هنا تسليط الضوء على أحد إصداراته القصصية الموسومة بـ «بدايات».

 

تمثل «البدايات» (1980)، الإصدار القصصي الثاني لإدريس الخوري، بعد مجموعتيه «حزن في الرأس والقلب» (1973)، و«ظلال» (1977)، لتواكبه مسيرة قصصية وصحفية حافلة. وتشمل «البدايات»، الممتدة على 142 صفحة من القطع المتوسط، فضلاً عن تقديم بقلم الكاتب، عشر قصص متفاوتة الطول، أقصرها (نارسيس) لا تتجاوز صفحتين ونصفًا، فيما الأطول (الأيام الرمادية) تمتد إلى أكثر من ثلاث وأربعين صفحة، تليها قصة «من كل حدب وصوب» بأربع عشرة صفحة. ويأتي موقع قصة «البدايات» التي عنون بها الكاتب إضمامته في المرتبة ما قبل الأخيرة. وتدور حول شخص مخمور اعتقلته الشرطة ليلاً، على سبيل الاحتياط، ليجد نفسه بين معتقلين آخرين. وراء كل واحد منهم حكاية - يحكيها لـ«أصدقائه» - كانت سبب حجزه على ذمة التحقيق: حيث الأحلام المجهضة والتسكع بالليل و... ما أن تتوطد الألفة بين بطل القصة وباقي المعتقلين، بعد ليلة من البوح، حتى يطلق سراحه صباح اليوم التالي، مادامت «حالته عرضية». وبدلاً من أن يفرح بإرخاء سبيله فإن أسئلة حارقة ستصيبه بغصة، وهو يفكر في مآل هؤلاء المعتقلين ومآل آخرين في غياهب السجون عن حق أو باطل.
وأبطال قصص الخوري في هذه المجموعة، التي ترصد وقائع وأحداثًا تعود إلى الفترة الممتدة من 1967 إلى 1979، كما في سواها من مجاميعه الأخرى، السابقة واللاحقة، هم في أغلبهم من الفئات المهمشة البئيسة: فهم إما طلبة يناضلون بالشعارات ضد «القهر والكابوس» (قصة الشمس فوق رؤوسنا ونحن نهبط الدرج)، وإما مدرسون مسحوقون يطاردهم البؤس ورجال السلطة (قصة الليل)، أو شواذ وصعاليك وصحفيون يدفنون همومهم في الخمرة والمتع العابرة، ويعيشون ليلهم في البحث عن «الامتلاك» (قصة نارسيس، وقصة من كل حدب وصوب، وقصة بعد الظهيرة، وقصة البدايات)، أو«فقهاء» مرتزقة بتلاوة القرآن، أو عشاق خائبون تحول دون تحقيق ارتباطهم فوارق اجتماعية وثقافية (قصة الأيام الرمادية). إنهم، باختصار، مهزومون، أو هم «أبطال بلا بطولة»، كما وصف لوكاش «الأبطال الإشكاليين» الباحثين، في مجتمع منهار، عن قيم أصيلة بأساليب غير أصيلة.

عتبة التقديم
بغض النظر عن التمثلات التي قد يكونها الكاتب عن كتابته، والتي يبغي حمل الناس على اعتناقها، فإن تلقيات النص وتآويله (بالجمع) تخضع لآليات أكثر تعقيدًا، لذلك فإن مساحة ما يدركه الكاتب من كتابته، مهْما علا سقفها، تبقى متواضعة، وهو بالتالي، غير مؤهل، وليس من مهامه، كما يرى لوسيان غولدمن، استنفاد معاني ودلالات نصوصه، من دون أن يؤخذ هذا التوصيف على محمل التنقيص من وعي الكاتب مادام القارئ بدوره لا يتلقى النصوص إلا عبر أطر مرجعية تحجّم فعل القراءة بشكل أو آخر.
فانطلاقًا مما سماه أمبرتو إيكو بجدلية «النص الكسول» و«القارئ النموذجي»، بمعنى انطلاقًا من أشراط الحامل الأيقوني الستاتيكي للنص في مقابل ممكنات التأويل التي تسمح بها القراءة (القراءات)، وبصرف النظر عن حيثيات أخرى، سنتعامل مع الخطاب المقدماتي الذي صدّر به إدريس الخوري مؤلَّفه بقدر من الحذر، مادامت «مناصات» من هذا القبيل، لا تتغيا توجيه القراءة وتأطيرها، وحسب، وإنما قد ترمي إلى صرف النظر عن بعض القراءات الممكنة، في لعبة ميتانصية تصبح بفعلها العتبات والتصديرات جزءًا عضويًا من النسيج الإبداعي للنص. ولعل الكاتب، وهو يستهل «شهادته» حول الكتابة، يتقصّد إنزالها من علياء القداسة والميتافيزيقا إلى دنيا «النميمة» الاعتيادية، ما لم نقل المبتذلة».  في البدء كانت النميمة، هكذا يفتتح الكاتب «شهادته» (في تناص تعارضي مع المقولة المأثورة عن السيد المسيح عليه السلام: «في البدء كانت الكلمة». رغم أن ما كلّ كلام نميمة، ويضيف: «كل كتابة نميمة، وكل نميمة بشر وكل بشر فان!»  نازعًا عنها صفة «الصدق» وربما «الواقعية المباشرة»، والحال أن واقعيتها إذ تحفر مجراها التشخيصي ما تلبث أن تهوي إلى القاع النفسي لأنها مجرد «وسيط بيننا وبين الواقع» وكل تأسيس بها أو عليها هو من باب «الاحتمال الممكن»، لكنه احتمال لصيق بالزمان والمكان، أي بالتاريخ والجغرافيا، يحمل رؤية مأساوية للعالم، «رؤية سياسية» - على الأرجح - لا تقبل الصمت والمهادنة. ذلك أن الكاتب في تلك المرحلة المطبوعة بالصراع الأيديولوجي مع السلطة كانت له أوهام طوباوية. بحيث كان «يكتب قصته وينتظر أن يتغير المجتمع بعد قراءة قصته».

الصوغ الحكائي
لعل أهم خاصية تميز قصص «البدايات» هي جنوحها للبساطة والوضوح، متنا وبناء ولغة، وهي بهذه السهولة موجهة لشرائح متعددة من القراء المفترضين والفعليين. فالخوري لا يميل ظاهريا، في هذه المجموعة، إلى التعقيد ولا إلى «المواضيع الكبرى»، لأن ما يهمه هو «المعيش اليومي» في دقائقه الصغرى التي عادة ما لا ينتبه إليها الآخرون، يعيد اكتشافه بعين «الرائي» التي لا تكتفي بظواهر الأشياء بل وببواطنها بالأساس. كما أنه لا يركن إلى النهايات المثيرة والمفتعلة. وعلى عكس كثير من كتاب القصة الذين يبتزون قراءهم بالتحبيك المبالغ فيه، فهو يتعمد إضعاف الحبكات وتشذيرها في «نميمة» عميقة ودالة، ذلك «أن العنصر الدال في القصة يكمن، أساسًا، في موضوعها، في اختيار حدث واقعي أو متخيل له هذه الخاصية الغامضة المتمثلة في أنه يشع منه شيء يتجاوزه». من ثم يتحول حدث بسيط كمقالة في جريدة أو خبر عادي أو جلسة في مقهى أو اعتقال احتياطي لشخص نكرة... إلى «اختزال قاس للشرط البشري» أو «رمز حارق لنظام اجتماعي أو تاريخي». وعليه فإن القول بالبساطة والوضوح والتركيز على الجزئيات لا يتناقض مع الانشغال العميق بالهموم الكبرى. هاهنا تغدو «البساطة» واجهة خادعة لقول يتجاوز المصرح به إلى قضايا وجودية أعمق، يتم تلمس ذلك في الحوارات والتعقيبات والاستطرادات المحسوبة، سيما وأن الفترة فترة هزيمة عربية نكراء (1967) تلاها انتصار مسروق (1971). يقول السارد في أحد المونولوغات «الحديث عن يونيو الذي يوجد هنا والذي يوجد هناك، السقوط الإنساني الذي لايفيد لاجئًا فلسطينيًا... الراديو جد متواطئ... إنه لا يريد قول الحقيقة التي تغيب عنها الشمس... الراديو لا يزال يذيع أغاني بليدة للعائلات البليدة...» (قصة الشمس فوق رؤوسنا ونحن نهبط الدرج، ص.9). وحتى نكون منصفين فإن هذه الإشارة إلى «القضية القومية» تكاد تكون الوحيدة في المجموعة، والحال أن وقع الهزيمة حاضر بكثافة في خلفية النصوص، وحين تغدو الهزيمة نفسية، لا مجرد هزيمة عسكرية، هزيمة جماعية وفردية في آن، بحيث من الصعب علاج تداعياتها الخطيرة. يصير الصمت عنها وعدم تسميتها - حين لا مفر - بمثابة «رُقيَة» أو تعويذة لتلافي الاصطدام بها هي الثاوية في الدواخل. لهذا وسواه نجد شخوص «البدايات» مهزومة، محطّمة، في معيشها وخطابها، كما لو كتب عليها أن تؤدي ثمن النكسة نيابة عن الذين تسببوا فيها.
وتسير الحكاية لدى إدريس الخوري في اتجاهين: فهي إما حدث يتم تبئيره وإبراز أبعاده بشكل مركز وسريع، كما هي الحال في بعض القصص محدودة القصر (الليل، الرجال لا يتشابهون، جنازة، بعد الظهيرة، البدايات)، وإما حالة (أو وضعية) تتخذ شكل نواة قابلة للتوسيع والإركام، أي للتشريح والتحليل من زوايا متعددة، مثل قصص (الشمس فوق رؤوسنا، الأيام الرمادية، من كل حدب وصوب...). ومع ذلك فإن هذا التقسيم لا يمنع من وجود نماذج قصصية تزاوج بين هذا الاتجاه وذاك (قصتا ليل ونارسيس...)، لأن الكاتب لا يركن إلى نمطية مسبقة في الكتابة القصصية تستند إلى جاهز شكلي أو أطروحي، علمًا بأن قصص المجموعة، وكما أسلفنا كتبت في فترات زمنية متباعدة، مما يدعو إلى الاحتراس من اعتبارها «أضمومة» ترابطية، كما حدد ذلك روني أودي، إلا تجاوزًا،لأن ذلك يقتضي تفاعلاً ذا طابع توتري بين القصص المتضمنة في كتاب، فضلًا عن تقاطع الأحداث والأمكنة والشخوص، فيما نحن، هنا، إزاء، مجموعة متجاورة من النصوص، لا تنتظمها صلات مكانية ولا «حدثية» وإن التقت في الرؤية المؤطرة: رؤية رافضة ومتمردة.

اللغة والأسلوب
فكما هو الشأن في صوغ الحكاية تنماز لغة الخوري في «البدايات» بطابعها السلس والبسيط، المضلل أحيانًا. فهي تخلو من الإنشائية التي تقوم على المعاضلة والتقعر البلاغي. لغة محكية، أو أدنى. لكن هذا لا يعني أن الكاتب لا يولي بالا للاشتغال على اللغة. فلئن كان المعجم لديه - بما هو قاموس وألفاظ - عاديًا، فإن أسلوبه ينحت له مجرى ذا خصوصية لا تُدحض. يمكن توصيفها انطلاقًا من مستويين:
- مستوى الذات الكاتبة التي تعي أن الأسلوب هو الإنسان، كما قال بوفون.
- مستوى المحيط الجيوثقافي الذي يمنح الجغرافيا بعضًا من الحق في تلوين العمل الإبداعي والثقافي ووسمه بميسهما الخاص.
والمستويان معا يجعلان من إدريس الخوري (ومن كتابته) أصلاً لا صورة. إذ معه سيحس القارئ بأنه إزاء كاتب له بصمته المائزة لا كفرد فقط وإنما كذلك ككاتب يقدم منتوجًا له نكهة جغرافية خاصة. وما يضفي على أسلوب الخوري مذاقه المتفرد هو توظيفه للدارجة المغربية، في مقامات تواصلية بعينها، تسبغ على العبارة رونقًا وبهاء، وتقوي المعنى وأثره. صحيح أن استعمال الدارجة، في الكتابة القصصية، قد لجأ إليه كثير من الكتاب العرب، بدرجات متفاوتة، ولمسوغات مختلفة. والخوري حين يلجأ إلى هذا الإجراء فإنما ليمنح العبارة قوة لا تمتلكها، لا بالعربية ولا بالفصحى، وإنما بتضافرهما معا. لذلك فهو لا يكتفي بتأثيث الحوارات بدوارج تضفي عليها قدرًا من الواقعية، وإنما يبتغي شحن الملفوظ، مفردة أو عبارة، بأقصى دلالاتها الممكنة. من ثمة فهو لا يقترض من معجم ساكن بل ينحت معجمه الشخصي من متن دارج مفترض له صلة بتاريخ ومكان معلومين.
فعلى صعيد المعجم نجد، مثلاً:
مكلّخ (شديد البلادة)، يخنزر (يمعن التحديق بحشرية)، الوجوه المزنّكة (الوجوه المحتقنة)، ماعَرْتْ (ماعرفت، كما تنطق مرخمة)، المرقة (المرق)، ربعة (أربعة)، الهدرة (الكلام)، مزيان (جيد)، دهاز (جهازالعروس) يشوف (يرى)، غوفالة (الشّعر)، قرعة (قنينة)، الدراري (الأولاد)، الماكلة الشايطة (فضلات الطعام)، الأنفاس الخانزة (الأنفاس الكريهة)، إلخ.
وحين يدخل المعجم في تركيب الجملة يغدو ضاجًا بالدلالات والإيحاءات، من ذلك، مثلاً:
ميئوس مني خلوق (أنا ميئوس مني أصلاً)، ماشي شغلنا (لايهمنا)، هاد الشي فشي شكل (هذا أمر محير)، رمقها بالخَف (رمقها بنظرة خاطفة)، بالريق الناشف (بمشقة الأنفس)، خليني عليك (دعني وشأني)... وغير ذلك كثير.

السخرية
لا يمكن الحديث عن كتابة إدريس الخوري، في «البدايات» وفي سواها من أعماله، دونما تطرق إلى محفل السخرية. حيث «مفارقة الواقع تدفع... إلى التهكم والاستعلاء على تفاهات الحياة العابرة»، ويتخذ هذا المحفل سمات متعددة ومتباينة. فهو إما سخرية من نفاق اجتماعي تمثله فئة من الفقهاء المُرائين، وإما من مسلك فردي، كما هي حال الحاج موسى الذي «يفكر كيف يتخلى غدًا عن صلاة العصر والقدوم إلى الدار الكبيرة عند حادة لمعاشية «ولا غرابة في ذلك، مادام» الحاج موسى أحسن مرتل للقرآن، وأحسن إمام مسجد، وأحسن شرّاب للخمر، وأكبر مدمن للكيف وأشهر تابع للغلمان في الحي» (القصة ذاتها، ص38).
لكن التهكم يأتي بأشكال أخرى، كأن ينحو منحى أسلوبيًا، كما في الأوصاف والتشابيه التالية: «غامضون جدًا كالسورياليين»، أو هزءًا من التفاصح والمعاضلة على غرار هذا الحوار: «قالت الزاهية لعبدو وهما معًا في تلك الغرفة الضيقة:
هل الحرية موجودة؟
نعم.
أين؟
في المرناة فقط، في المصداح فقط.
ما معنى هذا الكلام؟
إنه كلام باللغة العربية سمعته في تجمع شعري بمدينة صحراوية، يقال إن المرناة هو التلفزيون والمصداح هو الميكروفون» (قصة الأيام الرمادية، ص 53).
   وهكذا فإن المفارقة والتشخيص و«التدريج» (من الدارجة) آليات يلجأ إليها الكاتب لإبراز وانتقاد بعض التناقضات التي تطبع تصرفات الناس في مجتمعنا.
من خلال هذا الاستعراض السريع لبعض خاصيات الكتابة القصصية في «البدايات» نستنتج بأن إدريس الخوري:
- يكتب القصة في انسجام تام مع تصوره الميتاحكائي الشخصي.
- ينتصر في كتابته للفئات المنبوذة، من وجهة نظر «المثقف العضوي» بالمعنى الغرامشي.
- يميل إلى السهل الممتنع في تشييد عوالمه الحكائية، في القول ومقول القول.
- يخلق داخل اللغة - فصحى ودارجة - لغته الخاصة به.
- يلتقط الحالات والظواهر الاجتماعية والثقافية الموبوءة وينتقدها بقدر عال من التهكم والسخرية.
كل هذا وسواه يجعلنا نؤكد على القيمة الحقيقية لهذا الكاتب المتفرد في تجربته الإبداعية ■