مناعة العربيّة الذّاتيّة إزاء النّكوص الحضاريّ هل تكفي وحدها؟

مناعة العربيّة الذّاتيّة إزاء النّكوص الحضاريّ  هل تكفي وحدها؟

إن كانت اللُّغة - أيّ لغةٍ - تُعين الإنسانَ، من ضمن أبرز وظائفها الاستعماليّة، في إعادة ترميز العالم وتسمية أشيائه وموجوداته ليتمكَّن من نقلها من مستوى الوجود العينيّ المرئيّ البدئيّ غير المُفكَّر به إلى مستوى الوجود البديل: الوجود المنطقيّ السّيميائيّ المُرمَّز والمفكَّر به، فإنَّ لغة «الضّاد» ، اليوم، لا تكاد تقوى - في ميدان التّداول الحضاريّ والتّقنيّ والثّقافيّ - على مجاراة نظيراتها من لغات الأمم الأخرى الَّتي يتصدَّر أهلها قائمة الدّول المتقدّمة والمتطوّرة عالميًّا، ولا سيّما في ظلّ سطوة العولمة والفضاء الرّقميّ والذّكاء الصّناعيّ وما تُحاول فرضه من هيمنة الدّولة الواحدة على كلّ الصّعد!

 

وأنّى لها أَنْ تُجاري لغاتِ الأمم المتقدّمة ونحن نرى الأكاديميَّ العربيَّ يتخلَّف عن أن يصحبها معه إلى قاعات التَّدريس، فيتركها خارجًا كأنّها لسانٌ كليلٌ تكاد رياح البادية تلفحه وتُجفّفه؟! وكيف لها أَنْ تجتذب المصطلحات العلميّة ونحن نرى المهندسَ الميكانيكيَّ العربيَّ يفرُّ منها حين يدخل إلى مصنعه الحديث (الَّذي صنَّعه الآخر الغربيّ!!)، فيركنها خارجًا كبضاعةٍ باردةٍ لا تكاد تُفيده في تشغيل تقنيّاته وتسمية آلاته وأجهزته الرّقميّة؟! ثُمَّ أنّى لها أَنْ ترتدي معطف الطّبّ الحديث النّاصع البياض ونحن نرى الطَّبيبَ العربيَّ يقطع عنها أمصال المرونة العصريَّة ويحشرها في غرفة الإنعاش والنّسيان حين يدخل إلى غرفة العمليّات الحديثة ضابطًا إيقاع عملها بلسانه البديل: الإنجليزيّ أو الفرنسيّ؟! بل أنّى لها أَنْ تُحلّق فوق أكواخ فقراء أوطاننا ونحن نرى قبطانَ الطّائرة العربيَّ يُودّعها تاركًا إيّاها على رصيف الانتظار كما يترك ذويه في صالة الوداع والاستقبال؟! لَكَأنَّها لا تصلح لغير وداعه العاطفيّ وتحرير صرخةٍ مكتومةٍ في صدر أمّ حنونٍ، أو التَّحليق بتنهيدةٍ محبوسةٍ في قلب حبيبةٍ خانتها جسور المسافات، حتّى إذا جلس خلف قمرة القيادة كاد يبتر لسانه الأصيل مُستعيضًا به آخرَ أجنبيًّا يُمكّنه من الإقلاع والطّيران فوق سحابٍ غير منظورٍ!!
وَلَربَّما سارع بعضُنا إلى لَوْم الأكاديميّ والمُهندس الميكانيكيّ والطَّبيب وقبطان الطّائرة مُتَّهِمًا إيّاهم جميعًا بقلَّة الوفاء لهُويَّتهم اللُّغويَّة الأمّ وبالتَّقصير نحوها، وذلك استنادًا إلى منطلقٍ قوميّ ودينيّ ووجدانيّ، إلّا أنَّ دراسة سياق تطوّر العربيَّة وتحوّلاتها التّاريخيّة تثبت لنا أنَّ التَّعاطيَ الاحتفائيَّ مَعَ لغة «الضّاد» استنادًا إلى تلك المنطلقات السابقة غير كافٍ وحده للحفاظ على مكانتها أو استرجاع ريادتها السّالفة، أو للتَّعويض من قصورها في الميدان الحضاريّ والثَّقافيّ والتّداول اللُّغويّ العالميّ؛ بل لا بديل من التَّعاطي معها من موقع «الحاجة إليها» و«الضَّرورة الحضاريَّة والثَّقافيَّة» في سياق الاستعمال الحياتيّ اليوميّ. فكيف نلوم هؤلاء والحال أنَّ العربيَّة تكاد لا تُجاري سرعة الثّورة الرَّقميَّة والتّكنولوجيَّة والصّناعيَّة الحاصلة عالميًّا؟! بل توشك نتيجة ذلك أَنْ تكتفي بألّا تُسمّيَ إلّا القليلَ من الأشياء والمسمّيات سواءٌ في المناهج التَّعليميَّة أم في المصنع الحديث، أم في المستشفى، أم في غرفة قيادة الطّائرة، أم في مجال التَّطبيقات الرّقميّة؟!
وفي هذا السّياق أيضًا، لا يجوز أيضًا أَنْ نلومَنَّ مجامعَ اللُّغة العربيَّة والمختصّين في مجال المُعجميَّة العربيَّة، ونُحمّلهم المسؤوليَّة كلَّها، أو أن نتّهمهم بالتَّقصير في توليد المصطلحات العربيَّة البديلة من المصطلحات الأجنبيَّة لتسمية معطيات العصر الحضاريَّة الوافدة إلينا من أربع جهات الأرض؛ فمهما اجتهد هؤلاء وضاعفوا جهودهم مُستثمرين ما تُوفّره العربيَّةُ لهم من مناعةٍ ذاتيّة تتأتّى من طواعيتها الفريدة في توليد الألفاظ الجديدة من طريق اللّجوء إلى آليّات «النَّقل المجازيّ» أو «الاشتقاق» أو «النَّحت» أو «التَّعريب»، فإنَّ سرعة تدفُّق منتجات الثَّورة الرَّقميَّة والتّقنيَّة الَّتي تضخّها إلينا دول العالم الحديث هائلة جدًّا جدًّا؛ ولا يخفى أنَّ تصديرها إلينا يتزامن مع تصدير كمّ هائلٍ جدًّا من المصطلحات الوليدة الَّتي تغزو لغتَنا يوميًّا؛ إذ يتدفَّق إلينا في كلّ ساعةٍ ما يُقارب الخمسين مصطلحًا تقريبًا وفق بعض الدّراسات، ومن ذلك على سبيل المثال المصطلحات القادمة إلينا من مجال الثَّورة الرَّقميَّة: الفايسبوك، السّلفي، الإنستغرام، التّيك توك، الماسنجر، التّيمز، التّرند...
ولذلك لا تكفي، لسدّ تلك الفجوة الفادحة، طواعيَّةُ لغة الضّاد وغنى آليّاتها التَّوليديَّة، كما لا تكفي مضاعفة جهود اللُّغويّين والمعجميّين ما دامت دولنا وشعوبنا العربيَّة - على تفاوتٍ بينها - تتموضع في موقع المُستهلِك أو المتلقّي الَّذي يحيا خارج الهمّ الإبداعيّ، وخارج المنظومة العالميَّة الَّتي يتنافس أقطابُها في الإنتاج الحضاريّ والرّقميّ والتّقنيّ والمعرفيّ، وما دامت قد رضيت قانعةً بموقع المتأثّر لا المُؤثّر مُستسلمةً لهجعةٍ طويلةٍ تُحرِق الأوقات كبخورٍ زائدٍ قرب لحود الموتى السّاكنين الهامدين! لأنَّ الرّهان في تجاوز العربيّة محنتَها وأزمتَها في التَّوليد الاصطلاحيّ معقودٌ على التَّطّور الإنتاجيّ العربيّ بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا في شتّى الميادين المعرفيّة والتّقنيّة والصّناعيّة والرّقميّة.
وعليه، فإنَّ هذه النَّتيجة تُشرّع أمامنا نافذة الكلام على إشكاليَّة ضعف المؤسّسات العربيّة الرّسميّة وما يرتبط بهما من المؤسّسات الاقتصاديَّة والصّناعيَّة والاجتماعيَّة والتَّعليميَّة والثّقافيَّة...؛ إذ إنَّ اللُّغة - مهما عظمت جماليَّتُها وارتقت آليّاتُها التَّوليديَّةُ الدّاخليّة لاستيعاب معطيات العصر الحضاريَّة والفكريَّة وهضمها بغير عسرٍ - تبقى مرآةً صادقةً تُرينا الوَجْهَ الضّامر لتلك المؤسّسات من دون مساحيق تجميليَّةٍ زائفةٍ؛ فاللّغة - بلا شكّ - تضعف متى ضعف أهلوها، وتتوهَّج متى قدحوا شرارة إبداعاتهم وابتكاراتهم الرّائدة! 

مشروعية الاختلاف
وإنَّه لَمِنَ المعلوم لدينا أنَّ محاولة الارتقاء بالمنظومة الفكريَّة العربيّة الفلسفيّة أو السّياسيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو الدّينيّة أو النَّقديَّة تبقى مرهونةً بما تنتهجه الدّولةُ من نظامٍ مؤسّساتيّ يجب أن يرتكز إلى ديناميكيَّة الفكر التَّعدُّديّ الَّذي يعترف بمشروعيَّة الاختلاف بكونه حقًّا مكتسبًا قانونًا، والَّذي يستند إلى ديمقراطيَّة الانتخاب، وحرّيَّة التَّأويل والنَّقد ضمن بنيةٍ فكريَّةٍ وثقافيَّةٍ شاملةٍ تُكرّس مفهوم المواطنة والانتماء الوطنيّ على قاعدة «الحقّ والواجب»، لا على قاعدة الولاء السّياسيّ أو الدّينيّ المطلق للفرد أو الحزب أو النّظام ولاءً خارج منظومة المساءلة والشّفافيّة، ويكون كفيلًا بتكريس الأحاديَّة المعرفيَّة والسّلطويّة، ومن ثمَّ قَتْل روح الإبداع الثَّقافيّ والأدبيّ والفلسفيّ والتّأويليّ بسهم زيف القداسة، وطعنة التَّكفير والممنوع والمحظور.
أضفْ إلى ذلك أنَّ الدَّولة الَّتي لا تحرص على استثمار طاقات شبابها وتنميتها قبل حرصها على بناء الحجر محكومٌ عليها بالعجز الحضاريّ والانحدار الثَّقافيّ والارتكاس العلميّ والتَّقوقع في بوتقة الاستهلاك مادّيًّا وفكريًّا؛ ولذلك لا بديل - في سبيل تطوير لغتنا الأمّ ورفدها بالرّوح العلميَّة المعاصرة - من تكريسها لغةً تعليميَّةً في تدريس العلوم الإنسانيَّة كما في تدريس العلوم التَّجريبيَّة على السّواء ضمن نظام تعليميّ متطوّرٍ يتخفَّف من التَّلقين والحفظ والتّكرار، وتكريسها لغةَ بحثٍ واستكشافٍ ومغامرةٍ في المختبرات العلميَّة ليتخلَّص المتعلّم العربيّ من محنة التَّشتُّت اللُّغويّ الَّذي يدفعه إلى ازدواجيَّةٍ مقيتةٍ: ازدواجيَّة التَّفكير بلغةٍ والتَّعبير عن أفكاره بلغةٍ أخرى، ولا سيَّما إذا لم يتمكَّن هذا المتعلّم المسكين من إتقان اللُّغة الأجنبيَّة الَّتي يُدرَّس بها العلوم التَّجريبيَّة، أو إذا كان معلّمو العلوم الإنسانيَّة يتوكَّؤون على اللَّهجات المحكيَّة كثيرًا في قاعات التَّدريس بدلًا من الفصحى، وهو الأمر الَّذي ينتج منه غالبًا «أمّيَّةٌ مقنَّعةٌ» تتمثَّل في تراجع مهارات المتعلّمين في مجال القراءة والكتابة والمشافهة باللُّغة العربيَّة!
وهذا بدوره يُحفّزنا على الحديث عن جدوى الاهتمام بالإنفاق على البحث العلميّ والاستثمار في مجاله بوصفه فرصةً سانحةً لمدّ جسورٍ نحو مستقبلٍ مختلِفٍ؛ لأنَّ الرّهان على الإنتاج العلميّ والبحثيّ هو المقدّمة الضّروريَّة للنّهوض والانتقال إلى منظومة الإنتاج الرّقمي والتّقنيّ والمشاركة في إنتاج ثورة الذّكاء الصّناعيّ، ومن ثَمَّ فهو المقدّمة اللّازمة للعبور من «كهوف الشَّرق»، ومن «مستنقعاته» إلى «الشَّرق الجديد» على حدّ تعبير الشّاعر «خليل حاوي»، وللعبور من ليل الاجترار إلى شمس الرّيادة في الإنتاج والابتكار، إلى شمس عربيّة تُشرق قبل شمس الشّروق الوقتيّ بمسافةٍ لا تُقاس بالسّاعات والأيّام، بل بالطّموح والحلم والتَّخطيط والإرادة... ومتى ابتكرنا وسائل وتقنيّاتٍ ومعارف جديدةً، ابتكرنا بالتَّزامن معها أسماء جديدةً ومصطلحاتٍ وليدةً تولد من رحم لغتنا وحضارتنا الأمّ؛ وخير دليلٍ على ذلك ما تركته العربيَّةُ، في العصور الذَّهبيَّة السّالفة، من أثرٍ في سواها من لغات العالم كالفارسيَّة والهنديَّة والتّركيَّة والإسبانيَّة والفرنسيَّة والإنجليزيَّة.

تحرير «العربية»
إذًا، إنَّ أهمَّ الشّروط العمليَّة لتحرير لغتنا العربيَّة من سطوة التَّبعيَّة اللُّغويَّة المهيمنة الوافدة من «هناك» - من الخارج الإمبرياليّ المستفحل خطره شططًا - تبقى مرهونةً بتحرُّر القرار العربيّ الوطنيّ السّياديّ من قيود الهيمنة الاستعماريَّة الجديدة الَّتي تجهد لتكريس نمطٍ عيشٍ أحاديّ، وثقافةٍ أحاديَّةٍ، ولغةٍ أحاديَّةٍ تُعزّز طغيان المركزيَّة الغربيَّة في العالم.
وفي الختام، أجدني غير مدفوعٍ إلى إقفال هذا المقال بلغة الإرشاد والوعظ من قبيل: «يجب أن»، و«ينبغي»، و«يلزم»...، أو التَّحريض على العناية بلغة «الضّاد» من منطلق الواجب الدّينيّ أو القوميّ؛ لأنَّ هذا العصر إنّما هو عصرٌ تضاءلت فيه جاذبيَّة المبادئ العلويّة السّامية لمصلحة جاذبيَّة النَّفعيَّة وإغراء المصالح الماديَّة الآنية؛ وعليه فلا بديل من العمل على تحرير المواطن العربيّ من مستنقعات الذّلّ والخوف والارتهان للتّلقين، واحترام كرامته الإنسانيَّة طريقًا حتميّةً إلى استعادة العربيَّة ريادتَها ومكانتَها بين لغات العالم بوصفها حاجةً وضرورة استعماليّة، ومفتاحًا للولوج إلى فضاء العلم والتَّقدُّم والابتكار، وممرًا إلزاميًا كي لا تبقى لغةَ عبادةٍ طقسيَّةٍ تربطنا بالخالق وحده من دون أن تمدّ جسور التّواصل إلى «المخلوق الآخر»؛ وإلّا فإنَّها ستنكفئ على ذاتها لتكون لغةً لـ«أهل السَّماء» هناك وغدًا فحسب، وليست لغةً لـ«أهل الأرض» هنا والآن في زمننا السَّريع الَّذي يعدنا بأن يأتي على كلّ عاجزٍ صامتٍ ساكنٍ واهنٍ يابس الأحلام والإرادة فيذروه كالهشيم مع الرّياح!! ■