ماكس باكمان «صورة ذاتية»

ماكس باكمان «صورة ذاتية»

ماكس باكمان هو من أكثر الرسامين الذين ثابروا على رسم صورهم الذاتية في تاريخ الرسم الأوربي. وبفعل هذه الفئة من اللوحات لا يتردد نقاد كثيرون في تصنيفه كثاني أهم رسام في النصف الأول من القرن العشرين إلى جانب بيكاسو.

فهذا الفنان الألماني المولود عام 1884م، اضطر في العام 1937م إلى الهجرة والإقامة بشكل غير قانوني في أمستردام بهولندا. وبصفته «فنانًا منحطًا» بالمقاييس النازية، لم يكن بإمكانه عرض أعماله، ولا تلافي ملاحقة الغزاة النازيين بعد اجتياحهم لهولندا. ولهذا، وعلى الرغم من أنه لم يكن «مطلوبًا» بالمعنى الدقيق، فإنه ظل طوال سنوات الحرب يرسم سرًا، ولا يطلع أحدًا على أعماله باستثناء حفنة قليلة من الأصدقاء الأوفياء الذين كانوا يتحدون خطر زيارته تحت جنح الظلام.

في صورته الذاتية هذه التي رسمها عام 1944م، جمع باكمان التعبير عن بؤس الحياة في المنفى، ومعاناته لانفصام في الشخصية كان يزداد حدة بمرور الوقت.

فأول ما يستوقفنا في هذه اللوحة هو مشهد البذلة السوداء التي يرتديها الرسام، وذراعه اليسرى الضخمة التي تلامس عند الكوع الطرف الأسفل من اللوحة وترسم زاوية حادة وضخمة تتقدم المشهد ككل. وفي مقابل سواد البذلة، هناك اللطخات البيضاء الغليظة التي رسم بها المساحات المضيئة على الوجه وياقة القميص وكمه، وحتى أصابع يده اليمنى، وبأسلوب تغلب عليه الخطوط المستقيمة، مما يجعل من صورة هذا الإنسان أشبه بتمثال مصبوب من الإسمنت، لا تخفف من قسوته وصلابته بعض الألوان الزاهية مثل الأخضر الفاتح في الخلفية، أو البني الفاتح في الستارة. بل على العكس، فهذه الألوان الزاهية تجعل الرجل يبدو كأنه جالس عكس الضوء وبعيدًا عنه.

وعندما نتأمل قسمات الوجه نلاحظ كل تعاسة هذا الرجل وصبره، من خلال الخطوط والقسمات التي تبدو مستعارة من قسمات الأقنعة الإفريقية، وأيضًا من خلال طغيان اللون الداكن وكأن الرجل لم يحسم أمره فعلًا حول ما إذا كان يجب أن يرسم وجهه بوضوح أم لا.. هل يترك الآخرين يرونه أم لا؟

نادرًا ما كان باكمان يخرج من محترفه في أمستردام، ولكنه كان يرغب دائمًا في تأكيد حضوره من جهة، وانفصاله عن المجتمع من جهة أخرى. فقد حذف نفسه أو حُذِف من الحياة العامة التي تتزعمها سلطة تهدد أعماله وحتى حياته. ولكنه كان يرغب دائمًا في تأكيد وجوده بالنسبة إلى من تبقى له من أصدقائه. فصاغ صورته في لوحاته كشخصية ذات حضور قوي وصارخ من جهة، ومنعزلة عن العالم والضوء من جهة أخرى. وهذا ما يتجلى بوضوح في صورته الذاتية هذه، المستقرة اليوم في متحف الفن الحديث في ميونيخ كواحدة من أفضل الصور الذاتية التي رسمها فنان في النصف الأول من القرن العشرين.

 

 

 

عبود عطية   




ماكس باكمان: «صورة ذاتية»، (95 × 60 سم)، 1944م، متحف الفن الحديث في ميونيخ