النرجسية في الشعر العربي بين الحاجة النوعية والفائض الكمّي

النرجسية في الشعر العربي  بين الحاجة النوعية والفائض الكمّي

  جاء في الميثولوجيا اليونانية أنّ نرجس، ابن إله الأنهار كفيسوس وحورية المروج ليريوبي، نشأ بين المياه الجارية والمروج الخضر، ومنحته الآلهة جمالاً لا يُقاوم راح يزداد على الزمن، حتى إذا ما أصبح في ريعان الشباب أحبّته جميع العذارى وأُعجبن به لكنه لم يبادلهنّ الحبّ والإعجاب، وأوغل في التكبّر والغرور.  ومن هؤلاء حورية رائعة الجمال تعلّقت به فأعرض عنها وأذلّها. 

 

وحين شكت أمرها لربّة الحب والجمال أفروديت، قرّرت معاقبته على غروره، حتى إذا ما خرج للصيد واستبد به العطش ويمّم شطر غدير ليشرب، رأى جمال وجهه على صفحة الماء، فأدركته لوثة العشق، ولبث يحدّق في ذلك الوجه حتى تحجّرت عيناه ومات. غير أنّ الآلهة ما تلبث أن تعيده إلى الحياة، على شكل زهرة النرجس، ذات المنظر الجميل والطابع الحزين.
 
المصطلح والمؤشّرات
من هذه الأسطورة، اجترح عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد مصطلح النرجسية، فراح يُطلق على كلّ محبٍّ لنفسه، متكبّر على غيره. وبات النرجسي ذلك المعجب بالذات، المحتقر للآخر. على أنّ فرويد يميّز بين حدّين اثنين للنرجسية؛ إيجابي هو شرط ضروري لنمو الشخصية، وسلبي هو أقرب إلى العقدة المستعصية على الحل. وبين الحدّين تتموضع درجات مختلفة، لكلٍّ منها أعراضها ومفاعيلها. وبهذا المعنى، لا يخلو من النرجسية إنسان، ولا ينأى عنها مجتمع. وهكذا، تتراوح النرجسية بين الحاجة النوعية الضرورية لنموّ الشخصية والفائض الكمّي الذي يستدعي المعالجة السريرية.
لعلّ أعلى درجات النرجسية هي تلك التي تصيب الفنّانين، على اختلاف فنونهم، ومن هؤلاء الشعراء. ففي كلٍّ منهم نرجس، صغير أو كبير، يؤثّر في نصوصهم وسلوكياتهم، بشكل أو بآخر. وبذلك، تتّخذ النرجسية تمظهرات نصّية وسلوكية، تختلف من شاعر إلى آخر، ومن شعر إلى آخر، وهو ما ينطبق على الشعر العربي، فنقع فيه على أنواع من النرجسية مختلفة، تتراوح بين الشكلية والفردية والقَبَليّة والذكورية والوطنية وغيرها، ما نلقي عليه الضوء في هذه العجالة، من خلال شواهد شعرية مستلّة من مختلف العصور الأدبية. على أنّه  لا بدّ من الإشارة، قبل ذلك، إلى أنّ عالم النفس النمساوي أوتو كيرنبرغ يحدّد مؤشّرات قياس النرجسية بأحد عشر مؤشّرًا، هي: الإعجاب بالذات، تضخيم الإنجازات، المبالغة في المصائب، الفخر بالآباء، الطموح المَرَضي، حُبّ الظهور، احتقار الآخر، ادّعاء المثالية، سرعة الغضب، عدم التعاطف مع الغير واستعراض القوة. هذه المؤشّرات، جلّها أو بعضها، تتوافر في النرجسيين، بدرجة أو بأخرى. غير أنّ درجات توافرها في الشعراء هي الأعلى.
 
نرجسية الذات
في العصر الجاهلي، يتوجّه الشاعر الفارس عنترة بن شدّاد العبسي إلى حبيبته عبلة، بأبيات من معلّقته، هي أقرب إلى مطالعة دفاعية،  يفتخر فيها بصفات  تنتمي إلى منظومة القيم في ذلك العصر، من قبيل: الشجاعة، القوة، الذود عن الحوض، والكرم. ويقرن بين وصف الواقع والفخر، ويعبّر عن نرجسية فردية خاصّة تندرج في إطار النرجسية الجماعية العامّة:  
إنْ تُغدفي دوني القناعَ فإنّني
طَبٌّ بأخذِ الفارسِ المستلئمِ
وإذا ظُلِمْتُ فإنّ ظلمي باسلٌ
مرٌّ مذاقتُهُ كطعمِ العلقمِ
فإذا شربْتُ فإنّني مستهلكٌ
مالي وعرضي وافرٌ لم يُكْلَمِ
وإذا صحوْتُ فما أُقصّر عن ندًى
وكما علمْتِ شمائلي وتكرّمي 
ولعلّ هذا الاعتداد بالنفس يُشكّل تعويضًا عن إحساس الشاعر بالنقص لسواد لونه، وردًّا على ما يواجهه من عنصرية وتنمّر، وهو ما فعله بالسيف والشعر. وهكذا، نكون إزاء نرجسية إيجابية تحفظ كرامة الشاعر وتحرّره من عقدة النقص.
 
نرجسية الجماعة 
وإذا كانت نرجسية عنترة فردية تتناغم مع قيم الجماعة، فإنّ عمرو بن كلثوم يحيلنا إلى نرجسية الجماعة/ القبيلة التي يتماهى معها الأفراد، وذلك حين يفتخر في معلّقته بمآثر القبيلة وصفاتها، المتمثّلة بالكرم والقوة والمنح والمنع والترك والأخذ والعصم والعزم، وهي صفات تنتمي إلى منظومة القيم في الجاهلية:
بأنّا المُطعمون إذا قَدَرنا
وأنّا المُهلكون إذا ابتُلينا
وأنّا المانعون لما أردنا
وأنّا النّازلون بحيث شينا
وأنّ التّاركون لما سخِطنا
وأنّا الآخذون إذا رضينا
وأنّا العاصمون إذا أُطعنا
وأنّ العازمون إذا عُصينا 
وغنيٌّ عن التعبير ما تنطوي عليه هذه الأبيات من نرجسية قَبَلية سلبية، تُذكي أوار الصراع القَبَلي، وتحتكم إلى شريعة الغاب. غير أن تنازع القبائل السيطرة في فضاء صحراوي يندر فيه الكلأ والماء وتقلّ فيه الموارد من شأنه أن يبرّر هذه السلبية، ففي صراع الوجود البقاء للأقوى. 
 
نرجسية الشكل
وإذا كانت النرجسية أعلاه، بنوعيها الفردي والقَبَلي، تقترن بالفخر بالذات والقبيلة، فإنّ نرجسية الشكل مع عمر بن أبي ربيعة، في العصر الأموي، تأتي في إطار غزلي. ويعبّر عنها، بشكل غير مباشر، على ألسنة الجميلات، فهو معشوق بقدر ما هو عاشق وأكثر، وهو مطلوب بقدر ما هو طالب وأكثر. تذكره الجميلات في غيابه، ويتغزّلن به في حضوره:
بينَما يذكرْنَني أبصرْنَني
دونَ قيدِ الميلِ يعدو بي الأغَرْ
قالتِ الكبرى أتعرفْنَ الفتى
قالتِ الوسطى نعمْ هذا عُمَرْ
قالتِ الصغرى وقدْ تيّمْتُها
قدْ عرفْناهُ وهلْ يَخْفى القَمَرْ
وتبلغ درجة النرجسية حدّ عدم تورّع الجميلات عن استدراجه في موسم الحج، حتى ولو أفسد عليهن الطواف. ومع ذلك، نراه يتعزّز ويتأبّى ويتدلّل:
قالَتْ لِتِرْبٍ لها تُحَدّثُها
لَنُفْسِدَنّ الطوافَ في عُمَرِ 
قومي تصدّي لهُ ليبصرَنا
ثمَّ اغمزيهِ يا أختُ في خَفرِ
قالَتْ قدْ غمزْتُهُ فأبى    
ثمَّ اسْبَطَرَّت تَشْتَدُّ في أثَري
ولعلّ ما حظي به عمر في حياته، من تَرَفِ النِشأة وجمال الشكل وأهمَية الموقع، هي التي راحت تُغذّي نرجسيّته، ما عبّر عنها في سلوكه وشعره. غير أنّها، بطبيعة الحال، بقيت في درجة مقبولة، لا تخلو من عَبَثٍ وطرافة، ولم تبلغ درجة متقدّمة، كما هي الحال مع أبي الطيّب المتنبّي في العصر العباسي. 
 
نرجسية الشعر
يشكّل المتنبي ذروة شعرية في تاريخ الشعر العربي لم يستطع شاعر تجاوزها، حتى الآن، سواء في العصور الأدبية السابقة له أو اللاحقة به، ومعه تبلغ النرجسية ذروتها، فيجمع بين الذروتين. وقد كان له من قوّة الشخصية والاعتداد بالذات وحدّة الموهبة وجرأة الطموح ما غذّى تلك النرجسية الشعرية، فهو ما مدح أحدًا إلا ومدح نفسه معه، ولم يكن يتورّع عن فعل ذلك في حضرة الممدوح، سواء أكان واليًا أو أميرًا، غير عابئ بما يمكن أن يترتّب على فعله من نتائج. فها هو، في حضرة سيف الدولة الحمداني، يرفع نفسه فوق الجميع، بمن فيهم الممدوح، يتباهى بأدبه، يفخر بشجاعته وفروسيته وشعره وشرفه:
سيعلم الجمع ممّن ضمّ مجلسنا
بأنّني خير من تسعى به قَدَمُ
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ
أنام ملءَ جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرّاه ويختصمً
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
وهكذا، يجمع المتنبي بين نرجسية الذات ونرجسية الشعر، وهو ما نراه في كثير من قصائده ممّا لا يتّسع المقام لقوله. على أن المفارق في سيرة المتنبي الشعرية هو أن نرجسيته التي كانت سببًا في شهرته في حياته كانت هي نفسها السبب في مماته؛ فإذا صحّت الرواية المتعلّقة بمقتله، من أنّه، حين همّ بالهرب، لدى تعرّض فاتك بن جهل الأسدي له، غرب بغداد، قال له ابنه: «أتهرب وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني    
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ»،
فعدل عن الهرب وقال لابنه: «قتلتني بهذا»، وهو ما حصل بالفعل، يكون قد ذهب ضحيّة تلك النرجسية. 
 
نرجسية المعرفة  
وإذا كان إقبال المتنبي على الدنيا وسعيُهُ المحموم إلى السلطة واعتداده بالنفس تفسّر لنا نرجسيته العالية، فإنّ نشوء النرجسية عن الإعراض عن الدنيا والزهد فيها واعتزال الناس تجعل من الصعوبة بمكان تفسيرها، في حالة شاعر كبير آخر في العصر العباسي هو أبو العلاء المعرّي، إلّا إذا اعتبرناها تعويضًا عن سجونه الثلاثة التي يقبع فيها:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيثِ
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون الجسم في الجسد الخبيثِ
وإذا اعتبرناها نرجسية المعرفة والتفوّق العقلي والجرأة الأدبية التي يعبّر عنها المعري بالقول:
وإنّي وإن كنت الأخير زمانُهُ
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ
وإنّي جوادٌ لم يُحَلَّ لجامه    
ونضوٌ يَمانٍ أغفلته الصياقلُ
ولي منطقٌ لم يرضَ لي كنه منزلي
على أنّني بين السماكين نازلُ
ينافس يومي فيَّ أمسي تَشَرُّفًا
وتحسد أسحاري عليَّ الأصائلُ
إلى ذلك، تتعدّد أنواع النرجسية وتختلف عبر العصور، فيسقط بعضها بمرور الزمن، وتحل محلّه أنواع أخرى. ولعل هذه الحركية ترتبط بمنظومة القيم وطبيعة الحياة الآخذة في التطوّر من عصر إلى آخر. ففي العصر الحديث، على سبيل المثال، نقع على نوعين جديدين لم تعرفهما العصور السابقة، هما النرجسية الذكورية في إحدى سقطات الشاعر السوري نزار قباني، والنرجسية الوطنية في إحدى تجلّيات الشاعر اللبناني سعيد عقل، وهو ما نبيّنه أدناه.
على الرّغم من إطلاق لقب «شاعر المرأة» على الأوّل، وقيامه بـ»أيْقَنَة» المرأة ووقف معظم شعره عليها، فإنّه يرتكب خطيئة بحقّ المرأة والشعر في قصيدة «الرسم بالكلمات»، حين يجعل من نفسه زير نساء أو فاتحًا مغوليًّا أو جزّارًا ساديًّا، ما يُصدّر عن نرجسية ذكورية مستهجنة لا تتناسب مع سيرة الشاعر ومضامين شعره: 
كلُّ العصور أنا بها فكأنّما
عمري ملايين من السنواتِ
لم يبقَ نهدٌ أسودٌ أو أبيضٌ
إلّا زرعت بأرضه راياتي
لم تبقَ زاويةٌ بجسم جميلةٍ
إلّا ومرّت فوقها عرباتي
فصّلت من جلد النساء عباءةً
وبنيت أهرامًا من الحلماتِ
لعمري إنها إحدى شطحات نزار الشعرية القليلة غير الموفّقة. فالشاعر الذي جعل من المرأة أيقونة لا يحقّ له أن يحوّلها إلى أرض مستباحة تُرتكب فيها المجازر. ولعل كثيرَهُ الشعري الجميل في المرأة يشفع له قليلَهُ البشع في هذه الأبيات.
في المقابل، تنحو النرجسية مع سعيد عقل منحًى وطنيًّا في بعض شعره، فيتغنّى بوطنه، ويباهي به العالم، ويُغالي بأهله، ويجعل من لبنان جنّة أرضية:
لي صخرةٌ عُلّقت بالنجم أسكنها
طارت بها الكتب قالت تلك لبنانُ
أهلي ويغلون يغدو الموت لعبتهم
إذا تطلّع صوب السفح عدوانُ
من حفنةٍ وشذا ارزٍ كفايتُهُ
زنودهم إن تقلّ الأرضُ أوطانُ
هل جنّة الله إلّا حيثما هنئت
عيناكَ كلُّ اتّساعٍ بعدُ بهتانُ
فأين لبنان اليوم  من تلك الجنة بعد أن حوّله تجّار السياسة والوطنية إلى جهنّم وغدا أهله الذي كانت زنودهم أوطانًا يتسوّلون جواز مرور إلى أوطان الآخرين؟
وعودٌ على بدء، النرجسية ظاهرة عالمية، قلّما يسلم منها إنسان أو يخلو منها مجتمع. هي حاجة نوعية حين يتعلّق الأمر ببناء الشخصية المتوازنة، الواثقة بالذات، المتفاعلة مع الآخر، المتناغمة مع المجتمع. وهي حالة مَرَضية حين تزيد عن حدّها، وتتحوّل إلى فائض كمّي يرهق صاحبه، ويخلخل علاقته بالذات والآخر والمجتمع. غير أنّه، لا بدّ من الاعتراف، في ختام هذه العجالة، أنّ ذلك الفائض الكمّي كثيرًا ما تحوّل إلى حاجة نوعية، وتمخّض عن لُقًى والتماعات في الفنون المختلفة، وفي مقدّمتها الشعر ■