تحتمس الثالث سيد المعارك السبعة عشر

تحتمس الثالث سيد المعارك السبعة عشر

الملك... المحارب... الفاتح... الامبراطور... نابليون الشرق... أحد أعظم حكام مصر القديمة في كل عصورها، ومؤسس امبراطوريتها الأولى في التاريخ، وصاحب أقصى حدود وصلت لها أرض الكنانة على مر الزمان... إنه الملك الأسطوري الذي لم يُهزم في أي حملة عسكرية خاضها وصانع أمجد سيرة حربية... هو الملك قصير القامة كبير القيمة، ذو الدهاء والصيت والنفوذ والحكمة، وأكثر ملوك مصر القديمة تأثيرًا وقوة: إنه حاكم الممالك وسيد المعارك «تحتمس الثالث».

 

لم يكن أحد يتوقع أن الأمير الصبي «تحتمس الثالث» ذو العشرة أعوام سيرث عرش أبيه الملك «تحتمس الثاني»، فقد كانت أم الصبي زوجة ثانوية لأبيه، في حين كانت الزوجة الرئيسية للملك «تحتمس الثاني» وأخته غير الشقيقة في ذات الوقت هي الملكة القوية «حتشبسوت»، ولأن الأخيرة كانت ابنة ملكة وزوجة شرعية عكس زوجها وابنه فقد كانت مسيطرة على مقاليد الحكم، ومع اعتلال صحة «تحتمس الثاني» ووفاته في العقد الرابع من العمر، أصبح «تحتمس الثالث» ملكًا رغمًا عن عمته وزوجة أبيه «حتشبسوت»، ولمدة سبع سنوات كاملة كان «تحتمس الثالث» حاكمًا صوريًا للمملكة المصرية، في حين كان البلاط ورجاله والبلاد بأسرها تحت أمر الوصية «حتشبسوت»، بعدها أعلنت عن نفسها ملكة حقيقية للبلاد وأقصت الوريث الحقيقي ليختفي عن الأنظار ويتوارى تمامًا لمدة أخرى قاربت الثلاثة عشر عامًا... وقد أظهر لنا التاريخ على مر عصوره أحداثًا متكررة شبيهة بتلك الأحداث يكون بطليها وريث شاب يخفق في الاحتفاظ بعرش أبيه، ومخضرم قوي وطامع في السلطة ينجح في إقصاء الوريث، لتنطفئ أضواء الأحداث من على الأخير للأبد، وتصبح موازين القوى في يد حاكم جديد تسري به دماءً ملكية جديدة... ولكن ما حدث مع «تحتمس الثالث» كان مختلفًا واستثنائيًا.

عودة العرش وانتقام جزئي 
كان في قصة إقصاء «تحتمس الثالث» أنه بالفعل اختفى من سجل الأحداث التاريخية طوال أكثر من عشرين عامًا من سيطرة وحكم الملكة «حتشبسوت»، وبعد موتها بصورة طبيعية دون مؤامرات عاد العرش من جديد له، حيث لم تنجب «حتشبسوت» إلا الأميرة «نفرورع» والتي توفيت شابة خلال عهد أمها، ومن المحتمل أنها كانت زوجة للملك المعزول وقتها «تحتمس الثالث»... ومع وصوله مجددًا للحكم وهو في عنفوان شبابه بعد عقدين من انطفاء مصباح سيرته، ولدت أسطورته كملك عظيم نفض تراب العزلة من حوله لينطلق محلقًا في سماء المجد... وكان أول ما قام به «تحتمس الثالث» أن قام باحتساب فترة حكمه منذ وفاة والده (حوالي عام 1500 قبل الميلاد تقريبًا) وأعلن عدم اعترافه بفترة حكم «حتشبسوت»، وأنه بذلك يعد خامس ملوك الأسرة الثامنة عشرة بالدولة الحديثة وليس سادسها، وقد قام «تحتمس الثالث» بالانتقام منها بتحطيم غالبية تماثيلها بمعبدها الشهير في الدير البحري بالأقصر، كما قام بمحو اسمها من على كثير من آثارها ووضع اسم والده بدلًا منها، وتشير بعض النظريات إلى أنه قام بذلك في أواخر عهده وليس في بدايته لانشغاله بتوطيد ركائز عرشه العائد، وأنه تعمد طمس سيرتها كملكة حاكمة وليس كزوجة ملكية، ولكننا على الرغم من ذلك نجده انتقامًا جزئيًا وبه بعض الرأفة، فقد كان بمقدروه محو سيرتها تمامًا من على كل آثارها وهدم معبدها وتماثيلها بالكامل، أو نسبه إلى نفسه كما كان يفعل بعض الملوك، أو كما تم بعد ذلك في سيرة الملك «أخناتون» وتدمير آثاره وعاصمته التي أنشأها بالكامل ومحو اسمه من سجل الملوك... ومع نظرية وجود موميائها من ضمن المومياوات الملكية المكتشفة وتواجد قبرها الذي كان يحوي تابوتها بوادي الملوك دون إتلاف، فهذا يضع أمامنا الخصال الحميدة بشخصية «تحتمس الثالث» والتي تليق بملك ذاق طعم الظلم لسنوات عديدة، ولكنه احترم موت خصومه فلم يحرمهم من رحلتهم بالعالم الآخر وترك سيرتهم دون طمس كامل.

نهاية سلام حتشبسوت وبداية حروب تحتمس
اشتهر عهد الملكة «حتشبسوت» بالهدوء والسلام وعمل حملات كبرى للتجارة مع عدم نشوب أي معارك حربية تذكر، بسبب استقرار الوضع بالمنطقة بعد عهود من الحروب المجيدة التي خاضها أسلاف الملكة الأقوياء مثل «أحمس» و«أمنحتب الأول» وحتى أبيها «تحتمس الأول»... ولكن مع عدم وجود حملات عسكرية كبرى للمملكة المصرية لسنوات، ووجود ملك مريض (تحتمس الثاني) وملكة تسيطر ثم تجلس على العرش بلا منازع، فظهرت أطماع الممالك المجاورة والتي تحت السيطرة المصرية في الرغبة بالتحرر والعصيان وربما العدوان خاصة في آسيا، ومع تواجد فلول أقوام الهكسوس الذين خرجوا من مصر مع بداية هذه الأسرة في تلك الأصقاع، أصبحت الحدود الشرقية للمملكة المصرية في خطر أكيد... ويبدو أن الصورة التي انطبعت في أذهان الدول المجاورة أن مصر تحكمها ملكة مسالمة وولي للعهد أخضر العود لا يستطيع الحفاظ على عرشه... فكان لزامًا على «تحتمس الثالث» فور تنصيبه ملكًا أن يثبت للجميع سواء في الداخل والخارج أنه من سلالة ملوك عظام فاتحين، وقد أثبت ذلك بالفعل بعد حوالي عامين فقط من وفاة الملكة «حتشبسوت».

الحملة الأولى... بداية مبهرة
أن يبدأ المحارب الجيد سيرته بمناوشات وتدريبات بسيطة ثم مناورات ومعارك صغرى تحت إمرة قائد محنك، وقد تكون الهزيمة من نصيبه بعض الأحيان فهذا هو الأمر الطبيعي، بعدها يبدأ في معارك كبرى ليصبح قائدًا خبيرًا مر بكل أهوال الحروب... ولكن ما فعله «تحتمس الثالث» كان مبهرًا وعجيبًا، فأولى حملاته التي قادها بصفته ملك مصر المتوج هي معركة «مجدو» في العام 22 من حكمه... والتي تعتبر واحدة من أشهر المعارك الحربية في تاريخ مصر القديمة، وأول موقعة حربية في تاريخ العالم القديم يتبقي لها نص يصفها ببعض التفاصيل... فقد حارب «تحتمس الثالث» حلفًا كاملًا من الملوك والأمراء الواقعة بلادهم في أرض سورية بعد إعلانهم العصيان ضد السيادة المصرية منذ أواخر عهد «حتشبسوت»، بقيادة مملكة «قادش» وبإيعاز من أقوام الهكسوس المطرودة من مصر، ولقد نقش الملك المصري وقائع معركته الخالدة على جدران معبد الكرنك بالأقصر ودوّن بها انتصاره الساحق على أعدائه، ومقدار ما جلبه من غنائم ضخمة وعقده لأول مجلس حربي أعلى يعرف في التاريخ... ولقد وصل «تحتمس الثالث» بجيشه حتى شمال سورية وفرّ ملك «قادش» مهزومًا بعد أن أظهر «تحتمس الثالث» عبقرية حربية مذهلة أثناء المعارك وتقسيمه الجيش إلى جناحين وقلب لأول مرة في التاريخ العسكري المعروف... وهذا يثبت بصورة أكيدة أن الملك قد استغل فترة وجوده في الظل خلال سنوات حكم «حتشبسوت» في تدريبات عسكرية مكثفة وربما في حملات عسكرية تم طمس أحداثها أو فقدان نقوشها.  

حملات تفقد أحوال وجلب جزيات وتوسع 
المعلومات عن الحملات الثانية والثالثة والرابعة قليلة لتهشم النقوش الخاصة بها، وكانت لتفقد الأحوال في سيناء وتأمين السيادة المصرية في أراضي سورية وأجزاء من بلاد آشور والحصول على الجزيات ومنها الأحجار النفيسة والأخشاب الفخمة، وهي مؤرخة بالتوالي في الأعوام 24 و25 و26 من حكم «تحتمس الثالث»... وفي العام 29 من حكمه تمت الحملة الخامسة وكانت على ساحل فينيقيا (سواحل بلاد الشام المطلة على البحر المتوسط) لإطفاء ثورات قامت هناك، وجعل الساحل قاعدة لأعماله الحربية استعدادًا للهجوم على «قادش»... وفي العام 30 وهي حملته السادسة قام الملك المصري بمحاصرة «قادش» والاستيلاء عليها والوصول لمدينة «أرواد» وتأديبها لعدم دفع الجزية... وفي العام 31 قام بحملته السابعة بتأمين سيطرته على الساحل الفينيقي وتأديب بلدة تدعى «انراثو».

أعظم الغزوات وأقصى الحدود 
على نقوش معبد الكرنك بالأقصر ولوحة بجبل «بركال» جنوب النوبة في السودان ترك لنا «تحتمس الثالث» وصفًا لواحدة من أمجد حملاته في العام 32 من حكمه وهي الحملة الثامنة، حيث زحف الملك حتى «حلب» بسورية واستولى على مدينة «كركميش» ليصل إلى نهر الفرات ويعبره بقوارب صنعها قرب مدينة «جبيل» ليغزو أراضي بلاد ما بين النهرين ومملكة «ميتانيا» القوية، ويستولي على أراضي شرق الفرات ويضع لوحته هناك بالقرب من لوحة جده الملك «تحتمس الأول»، ليصل إلى أقصى حدود شرقية لمصر القديمة... كما ذكر في نقوشه أنه قضى على قطيع كامل من الفيلة عند الفرات وقام باصطياد حيوان وحيد القرن مدونًا أوصافه بدقة بنقش في معبد «أرمنت» بالأقصر، ولأول مرة يبعث ملك «ميتانيا» برسول محمل بالهدايا الثمينة إلى «تحتمس الثالث» بعد أن تيقن من وجود تهديد مصري حقيقي لمملكته من قِبل محارب عتيد برتبة ملك.

تثبيت قواعد المجد وجني الثمرات
 قام «تحتمس الثالث» بحملته التاسعة في العام 34 من حكمه لزيادة استتباب سلطانه في الشرق والجنوب، حيث وصل للأراضي السورية  وتأكد من استقرارها ثم اتجه جنوبًا قرب بلاد «كوش» ليأسر أبناء أحد الأمراء الذين حاولوا العصيان ضد السيادة المصرية... وبعدها بعام (في العام 35) قام حزب من أمراء ممالك في بلاد ما بين النهرين بمعارضة النفوذ المصري هناك فسحقهم «تحتمس الثالث» بحملته العاشرة في مكان يدعى «أرينا» وقام بتحصيل الجزيات من تلك المناطق... وخلال العامين 36 و37 من حكمه قام بالحملتين الحادية عشرة والثانية عشرة وكانتا خالصتين لجلب الجزيات... وفي العام 38 من حكمه قامت ثورة في إحدى مدن جنوب لبنان فأخمدها «تحتمس الثالث» في حملته الثالثة عشرة وأحضر العديد من الأسرى والجزيات من بلاد «بونت» و«قبرص» ومدن آشورية وأخرى في أقاصي جنوب مصر... وفي العام 39 من حكمه قام بحملته الرابعة عشرة لتأديب قبائل بدوية بالحدود الشمالية الشرقية وجلب جزيات من الشام والنوبة، بالإضافة إلى حملته الخامسة عشرة في العام 40 من حكمه وكانت لجلب الجزيات فقط.

قادش مجددًا والسودان أخيرًا
في العام 42 من حكم تحتمس الثالث عاد ملك «قادش» للعصيان وإعلان استقلاله مرة أخرى، وكان يؤازره ملك «ميتانيا» القوي للحد من سلطان الملك المصري في تلك الأنحاء، فما كان من «تحتمس الثالث» إلا وقد شد الرحال وزحف محاصرًا «قادش» في حملته السادسة عشرة، واستولى عليها بكل سهولة لينهي آمال الممالك الآسيوية للنيل من أراضي امبراطوريته، ويسحق آخر قوة لبقايا الهكسوس المناهضين لمصر... وبنهاية هذه الحملة يختتم «تحتمس الثالث» حروبه في آسيا ويثبّت حدود مصر القديمة التي لم ولن تصل لأكبر مما وصلته في عهده، وتظل هيبة الملوك المصريين قائمة حتى فترة الملك «أمنحتب الثالث» بعد ذلك في عصر ذهبي للأسرة الثامنة عشرة والدولة الحديثة بأسرها... ويختتم المحارب العظيم غزواته في العام الخمسين من حكمه بالحملة السابعة عشرة والتي كانت جنوبًا في السودان، ومكث بها الملك وجيشه حوالي ثمانية أشهر (فترة معركة «مجدو» متضمنة زمن الذهاب والعودة كانت ستة أشهر فقط)، مما يدل على أن الأمر كان بالغ الخطورة والشدة، لتستقر الامبراطورية المصرية بعدها ويجلس الملك المخضرم «تحتمس الثالث» على عرشه دون حروب وحتى آخر أيام حياته الحافلة، وهي مدة قصيرة لم تتعد الأربع سنوات، حيث ذكر أحد قادة الملك في نقوش قبره أن الملك «تحتمس الثالث» حَكَمَ البلاد 54 عامًا.

حصيلة معترك حياة ونتائجها
عادة ما تؤثر قرارات المرء على نفسه ومن حوله من الأقربين لا أكثر، أما أن يصل تأثيرها إلى تغيير خرائط وأحوال الدول والممالك وكتابة التاريخ لأحداث جديدة فهذا هو الاستثناء... وما فعله «تحتمس الثالث» كان استثنائيًا وفريدًا، فعبقريته الحربية لم يصل إليها ملك مصري قط، واستراتيجياته التي انتهجها في حروبه سطّرت قواعد وخططا عسكرية لم تحدث من قبل، وتمت دراستها وتنفيذها في معارك لاحقة حتى في عصرنا الحالي، وكثيرًا ما تتم المقارنة بينه وبين «نابليون بونابرت» للتشابه بينهما في الدهاء العسكري بالفتوحات الحربية وقصر قامة كل منهما، لتنطبق عليهما المقولة القديمة: «كل قصير مكير»... كما قام «تحتمس الثالث» بتأسيس أول امبراطورية مصرية جاءت بقواعد وأركان ثابتة، وظلت امبراطورية وادي النيل قائمة بكل معني الكلمة لمئات السنين من بعده... أما عبقريته السياسية والاجتماعية فقد وصلت أوجها عندما أقام ما يسمى «كلية الأمراء» في طيبة، حيث كان تحتمس الثالث عند فتحه وسيطرته على الممالك المجاورة يبادر بأخذ الجزية ومعها أبكار أبناء الأمراء الحاكمين لتلك الجهات، ويُسكنهم في ضاحية فخمة من «طيبة» ليتعلموا ويدرسوا ويتم تنشئتهم بالروح المصرية الخالصة، وعند موت أي حاكم من تلك البلاد يتم تنصيب ابنه الذي نشأ بمصر مكانه، فيضمن الولاء للبلاط المصري وتستقر أرجاء امبراطوريته ولا تتفكك لأطول فترة من الزمن ■