أوبنهايمر... سيرة قنبلة

 أوبنهايمر... سيرة قنبلة

سندخل عقل رجل حائر بين الفرحة والندم، سنشاهد ما يفكر فيه ويحلم به، سنرى اضطراب روحه بين السلام والحرب، وسنعرف من لمعة عينيه ماذا يريد، سنتعرّف على مشاعره الخالصة، سنتابع الماء والنار والانفجارات الهائلة داخل عقله، سنرتجف مع توتره وقلقه، وسنشفق عليه حين يغمره الحزن في لحظة انتصاره العظيم، سنعيش تناقضاته وجموحه، ولحظات انكساراته الداخلية، حين نشاهد فيلم Oppenheimer (أوبنهايمر) في مدة عرض تقترب من 3 ساعات، مستوحى من كتاب يتضمن السيرة الذاتية عن حياة روبرت أوبنهايمر المسمى «أبو القنبلة الذرية» الفيلم منتج في يوليو عام 2023،  إخراج: كريستوفر نولان، بطولة: كيليان ميرفي، إميلي بلانت، روبرت داوني، مات ديمون، موسيقى من تأليف الملحن السويدي: لودفيغ غورانسون.

 

بداية مميزة للفيلم مع سقوط قطرات مطر تصنع دوائر متباعدة، متلاصقة ومتلاحمة في الوقت ذاته، وأوبنهايمر ينظر للماء بعمق، يبدو عليه الشرود الكامل؛ شيء ما يدور داخل عقله، يستخلص عمق تفكيره من ماء الحياة، ومن دوائر الكون العجيبة التي تنتج من تساقط كرات المطر من أعلى، ومن الماء تخرج النار بلهيبها المتصاعد وانفجارها المعبِّر، والجملة تعترض الشاشة وسط اللهيب والنار وزعيق الموسيقى الموحية بالخطر وكأن الكون ينفجر (سرق بروميثيوس النار من الآلهة ووهبها إلى البشر وجراء هذا تم تقييده بالصخرة وتعذيبه إلى الأبد). 
طلة جاذبة للفيلم تنتهي بصمت قاطع وأوبنهايمر مغمض العينين، ثم يفتحهما فجأة فندرك أن النار والانفجار وقطرات الماء كانت داخل عقل أوبنهايمر، وحين نسمع أول كلمة في الفيلم: «دكتور أوبنهايمر» كأنه قد استيقظ من شروده في عمق الماء والنار، ركزت الإضاءة ببراعة على بقعة عين أوبنهايمر اليمنى اللامعة المضيئة، ورأينا نصف وجهه الأيسر مظلمًا، وكأن الكون مقسوم على وجهه بين الظلمة والنور، هذا الانقسام للإضاءة على وجه سنراه عبر مشاهد كثيرة في الفيلم بما يعني تعمُّد وقوع شخصية أوبنهايمر بين الأبيض والأسود، بين الشك واليقين، بين الحقيقة وعكسها، وهذا ما سيكشفه الفيلم مع المتابعة.

الماضي والحاضر
شريط الفيلم ينتقل عبر الزمن عن طريق تقنية الأبيض والأسود من جهة، والألوان من جهة أخرى؛ ليفرِّق بين المراحل الزمنية التي يخترقها الفيلم، وليعبِّر عن الانتقال الزمني بنعومة، استخدام الأبيض والأسود كان بارعًا في التعبير عن الزمن الحالي الذي تتكئ عليه الأحداث في استدعاء الماضي، في حين أن الذكريات المستعادة كانت تعرض بالألوان، بدا أن الحاضر بالأبيض والأسود لا لون له، وأن الأمور غائمة، لكن ماضي أوبنهايمر كان ملونًا وواضحًا بكل تفاصيله، ورأينا الماضي يمثل خطين متداخلين، خط ماضي أوبنهايمر نفسه، والذي يتم سرده كحكاية، وماض آخر يتم عبر الدخول في عقل أوبنهايمر واسترجاعه لما كان يحدث معه، وما كان يفكر فيه.
من المواقف التي تظهر اختلاط اللون الأبيض والأسود داخل عقل أوبنهايمر حين منعه المعلم من الذهاب لمحاضرة السيد نيلزبور، وجد أوبنهايمر سينايد البوتاسيوم المادة القاتلة؛ فحقن به التفاحة الخاصة بالمعلم، بدت لديه روح شريرة ظلامية، إلا أنه حين تذكَّر الأمر وهو نائم أسرع وأخذ التفاحة وألقاها في القمامة، وبان أنه في صراع بين الأبيض والأسود، بين الظلام والنور.

موسيقى الماء
تدخل الكاميرا لعقل أوبنهايمر مرات عديدة، فرأينا خطوط الماء التي يراها أمام عينيه تنزلق على الزجاج الناعم، فتتحول داخل عقله لومضات كهربائية قوية ونجوم بأعداد هائلة وشظايا تضيء وتلتحم وتتفرق، أضواء كهربية كجاذبية المغناطيس، مع موسيقى تشبه زمجرة السماء، وعواصف خفية داخل رأس أوبنهايمر، شظايا زجاج وصوت أمواج بحر متلاحمة، داخل رأسه، وحين يقبض على رأسه تختفي الانفجارات وتصمت الموسيقى وأصوات الرعد والعواصف وأمواج البحر.
تحقَّق في داخل أوبنهايمر ما قاله له المعلم بأن علم الجبر مثل قطعة الموسيقى، فكان ينظر للماء ويسمع موسيقى الماء، ينظر للسحب ويسمع موسيقى السحب، وكأن لكل شيء في الكون موسيقى، يرى اللوحات فيسمع الموسيقى، يقرأ الشعر فيستمع للموسيقى، يرى شظايا النار تدخل السماء فيسمع الموسيقى، يشاهد الانفجارات فيسمع الموسيقى، وتتجمع ذرات الكون داخل عقله ويتفتَّت الكون لذرات وهو يحطِّم الكؤوس الفارغة في ركن غرفته كأنها شظايا بلور، واللهب العميق ينتشر داخل عقله، وقطع الزجاج المكسور وصوته يحدث متواليات ضوئية في عمق تفكيره وهو يكتب المعادلات، ترتعش في ذهنه أضواء كهربائية ويبتسم حين يرى ما يشبه الدوران حول الذرة، دوائر من الضوء المرتعش، وهو يكتب بفرح على السبورة معادلاته وكأنه يحول الموجات التي داخل عقله لمعادلات تسبب له فرح الاكتشاف. 

 لمعة فاتنة في العين
الممثل كيليان ميرفي والذي قام بدور أوبنهايمر بتميز فائق، استطاع تأدية الدور بإحكام؛ فعبَّر عن صفة العَالِم المتوتر الذي يجعل المُشاهد يتخيَّل داخل عقله قنبلة ستنفجر في أي لحظة، ولم يغب هذا التقمُّص الحساس عن كيليان ميرفي طوال مدة عرض الفيلم، فرأينا أفكار أوبنهايمر التي تدور في أعماقه تظهر في عينيه، وحركات يده، براعة تمثيلية مميزة إلى جانب هذه اللمعة الفاتنة في عينه اليسرى والتي حرصت الكاميرا على رصدها بمهارة، مع الاختيار الجيد لقَصَّة الشعر في مختلف المراحل العمرية، والتي بدت في أيام شبابه بها كثير من الإهمال المتعمَّد لإظهار أن ما تحت الشعر، المخ، هو المهم، إلى جانب الإضاءة لنصف وجهه الأيمن التي زادت غموض الشخصية، وكأن عينيه تبرقان من ضوء كهربائي يعتمل داخل عقله، كانت ابتسامته وحركات يده وتعبيرات وجهه تقول إنه يتحدث لغة خاصة بوجهه ونظرات عينيه، بدا طوال الفيلم متيقظًا، متوقدًا، بروح عالم خالص، تشع من داخله طاقة علمية، وكأنه تلبس شخصية أوبنهايمر.
ظهرت براعة كيليان ميرفي في تصوير الحالة النفسية لأوبنهايمر حين كان في الاجتماع وسمع أن (القنبلة الهيدروجينية أقوى ألف مرة من القنبلة الذرية، إنها سلاح إبادة جماعية، هدفها الوحيد سيكون المدن الكبرى)، كان الحوار يدور حوله وهو في تركيز ذاهل، ينظر للخريطة وبدت في عينيه دمعة حزن تشبه اللمعة وكأننا نرى ويلات الدمار والحرب تخرج من عقله، والحوار متصاعد عن أثر القنبلة الهيدروجينية، وأصوات الدقّات في الخلفية تتصاعد كأقدام أحذية جنود في معركة شرسة، تريد الإبادة الجماعية لعدو مخفي، وحين أغمض عينيه وفتحهما توقف كل شيء، وبدا متوترًا تظهر عليه علامات رعب خفي من آثار القنبلة.

شيء لم يحلم به أحد 
حين بدأ أوبنهايمر التدريس لم يحضر لفصله في البداية سوى طالب وحيد، وفي تلك اللحظة التي استغرب فيها زميله من أنه سيقوم بالتدريس لطالب وحيد، قال أوبنهايمر جملة الفيلم التي تكشف أعماق شخصيته: «إنني أدرس شيئًا لم يحلم به أحد هنا، لكن بمجرد أن يعرفوا قدراتك العلمية سينجذبون أكثر»، بدا أنه واثق من خياله وما يطرحه، وقال الجملة بثقة، وقد تحقق ما  تخيله عبر أحداث الفيلم المتلاحقة.
في مشهد دال يؤكد اهتمام وانهماك أوبنهايمر بما يدور داخل عقله حتى أنه يتجاوز كل ما يحيطه من أحداث، فقد كان يسير مع فتاته في الطريق، ورأى صديقه يجري باهتمام وهو يحمل جريدة، فجرى وراء صديقه وترك فتاته وحدها تنظر له في استغراب، وكأنها غير موجودة معه، وكان الأمر  الذي جرى إليه أوبنهايمر في غاية الأهمية، وكان منشورًا في الجريدة، لقد فعلاها، هان وستراسمان في ألمانيا، إنهما شطرا نواة اليورانيوم، فجّراها بالنيوترونات، إنه انشطار نووي، لقد فعّلاها، شطرا الذرة، وهنا نسمع من أوبنهايمر للمرة الأولى كلمة قنبلة.

الوجه دليل الزمن
صوت الحوار بين أعضاء لجنة مراجعة أوبنهايمر كان يمثِّل دخولًا ناعمًا وخروجًا مميزًا  من وإلى ماضي الأحداث، فمع جملة الحوار تنتقل الكاميرا لمشهد في الماضي، تمثّل الجملة انسحابًا ودخولًا في الوقت ذاته، بحيث يظل صوت الجملة يتردد بين الزمنين مما لا يُشْعِر المشاهد بغرابة الانتقال عبر الزمن، فيندمج الماضي في الحاضر بنعومة ويتسرب الماضي لنا دون إزعاج.
على الرغم من أن الحوارات في الفيلم كانت مساحتها كبيرة، إلا أن الحوار كان يحمل توترات وانفعالات خاصة، وتصاعدًا دراميًا للأحداث، كان الحوار محملاَ بالقضية التي يدور حولها الفيلم، وكان القطع والتداخل الزمني عبر الاسترجاع والتقدم في الأحداث يزيد الأمر تشويقًا.
يسير الفيلم في خطين، أحدهما داخل عقل أوبنهايمر ويبحث في عواطفه وأفكاره، وهو ما يدور في الزمن الماضي الذي تم تصويره بالألوان، والآخر عن طريق التحقيق في انتماءاته السياسية، وهو ما يدور في الزمن المتأخر والذي تم تصويره بالأبيض والأسود، عن طريق التحقيق معه.
لعب المكياج دورًا بارعًا في تصوير المراحل العمرية المختلفة التي مر بها أوبنهايمر، ففي كل مرحلة بدا متناسبًا تمامًا مع فترة عمره بداية من مرحلة الشباب وتطوره للرجولة، وظهور شعر أبيض في رأسه، نجح المكياج في استخدام قصات شعر تنقل أوبنهايمر لمراحل عمرية مختلفة دون الإحساس بالإزعاج، حتى أن المشاهد يدرك من وجه أوبنهايمر عن أي المراحل العمرية يتحدث الفيلم.

توتُّر جسد المشهد
في اللحظة الحاسمة في الفيلم والتي ظللنا نلهث وراءها، لحظة تفجير القنبلة في التجربة الأولى، كان الفيلم في غاية التوتر، وبدا ذلك على الجميع، لحظات توتر متقنة وبديعة، مع موسيقى في الخلفية تُعزِّز الحالة، واليد التي توضع على زر إطلاق القنبلة ترتعد، ولون الزر أحمر يشير للدم والموت، ونظرات العيون المرتعدة. 
هذا المشهد المتماسك هو قلب الفيلم وحكاية القنبلة، الثواني تمر وهي تشد الأعصاب وتجعل القلب يرتجف، وقال أوبنهايمر: «تلك الأمور قاسية على القلب» وكان أوبنهايمر على الرغم من اللحظة الحاسمة قادرًا على التحكم في إدارة من حوله، وتسكين رعشات الأيدي؛ حتى تتم المهمة بنجاح، والموسيقى في الخلفية تُوَتِّر الروح، لحظة قاسية ومرتعدة في الفيلم كان يتم التحضير لها منذ البداية، ليصل المشاهد لقلب المراد، وتتساقط الثواني ويزداد التوتر، ببراعة المشهد تقتنص القلب والعقل والعين لمتابعة قنبلة ستفجر الآن، الجميع ينبطحون على مسافة بعيدة في انتظار الانفجار والعد التنازلي يتوالى مع دقَّات القلب (خمسة عشر، أربعة عشر،...) والكاميرا تتلفَّت تتابع ارتجاف الجميع ويتوتَّر جسد المشهد.
وكان الانفجار العظيم على الشاشة بلا صوت، انفجار من شدته انكتم الصوت واختفى، نار وانفجارات متوالية واشتعال وحِمَم حمراء دامية، تجري كنهر ناري لا ينقطع تدفقه، دخان يتصاعد نارًا للسماء بكثافة، وكانت فرحة بنجاح تجربة الدمار، القنبلة، واختفت النار في السواد وقال أوبنهايمر: «الآن أصبحتُ الموت، مدمِّر العوالم». 
لحظة فارقة في كشف شخصية أوبنهايمر التي تسعى للعلم وتكره الدمار، فهو لا يزال بين الأبيض والأسود، فقد كان يرى ‫بمجرّد‬ أن تُستخدم القنبلة، ‫فإنّ‬ الحرب النوويّة ولعلّ كلّ حربٍ، ‫ستغدو‬ لا يُمكن التفكير بها، وكأنه يريد أن يقول إن استخدام الدمار من أجل السلام، وبدا مرتجفًا وهو يستمع لخبر إسقاط القنبلة على هيروشيما، فقد كان هذا بعيدًا عن مراده، كان المقرر أن تسقط القنبلة على ناجازاكي فقط، وحين عمهم الفرح كان أوبنهايمر يمسح دموعه المخلوطة بين الفرح بنجاح التجربة والحزن بالدمار الذي أحدثته، وبدأت الأقدام العسكرية العنيفة الغاشمة تدق في رأسه طبول الحرب.‬‬‬‬‬‬

أنا أسقطتُها 
ظهرت على وجه الممثل كيليان ميرفي علامات مميزة في إظهار مشاعر متضاربة بين الفرح والحزن، كانوا يصفقون له وكان الصمت داخله، كأنها تكرار للحظة التي تم فيها تجربة تفجير القنبلة، وكأن الفرحة من الأمريكيين بمحو هيروشيما وناجازاكي تماثل انفجار قنبلة أخرى، وكانت الإضاءة المحيطة مماثلة للحظة إضاءة تجربة القنبلة، وكأن الموقف يمثل قنبلة أخرى من موقف الإنسان من دمار أخيه الإنسان بهذه الفرحة الغريبة. 
كانت كلمات أوبنهايمر وسط الجموع تفجِّر قنابل وهم يصفقون وهو لا يسمع أي صوت، وبدأ يمر بين التصفيق وهو يرى ضحكهم بكاء، ويرى على الأرض بمخيلته الجثث المحترقة، تغوص فيها قدمه المشاركة في التفجير، لقد كان يرى ما لا يرون، كانت نتائج القنبلة أمام عينيه، حتى إنه لم يكن سعيدًا حين رأى صورته على غلاف مجلة التايم، فقد شعر أنه المسؤول عن الأرواح التي أزهقت في هيروشيما وناجازاكي، وقال أوبنهايمر للرئيس إن القنبلة ليست اختراعه، أراد أن يبرئ نفسه فقال له الرئيس: «‫أتظن‬ أن أحدًا في هيروشيما أو ناجازاكي يعير أهميّة لمن القنبلة؟‫ إنهم‬ يكترثون بمَن ‫أسقطها‬ وأنا أسقطتُها، ‫لا‬ علاقةَ لكَ بهيروشيما، أراد الرئيس أن يريح ضمير أوبنهايمر، لكنه كان يتألَّم وبدا عليه الحزن حين تم الإعلان عن نتائج القتلى في هيروشيما وناجازاكي».‬‬‬‬‬‬‬‬

دمرنا العالم
كان لقاء أوبنهايمر مع ألبرت أينشتين في نهاية الفيلم مميزًا وناعمًا على الرغم من قصر مساحته،  فالندم على اختراع القنبلة كان يملأ الأفق، ويسيطر على أوبنهايمر وأينشتين، وعلى الرغم من القضية الشائكة التي يتحدثان فيها إلا أنها بدت سلسة وسهلة للمتلقي بالحسابات المعقدة التي صنعها تيلر، وكان الأمر يدور حول القنبلة التي يمكن أن تفجّر العالم، صاحب ذلك انفجارات في ذهن أوبنهايمر، شاهدناها على الشاشة وشعرنا بخطر القنبلة، وأنها ستسبب خراب العالم، وقد أحسن المخرج حين أدار الحوار بين أوبنهايمر وأينشتين في مساحة خضراء تحيطها المياه والأشجار، مما يجعل المشاهد يرفض تدمير وتلويث العالم، وانتهى الفيلم بجملة خالصة (أعتقد أننا دمرنا العالم)، مما يجعل المشاهد يدرك هول الحرب والخراب الذي يمكن أن يصل إليه العالم إذا استخدمنا العلم في تدمير إخوتنا في الإنسانية ■