صيف العالم الساخن حديث في مظاهر الأزمة البيئية وأسبابها

صيف العالم الساخن حديث في مظاهر الأزمة البيئية وأسبابها

البيئة هي الإطار الذي يحيا فيه الإنسان مع غيره من الكائنات الحية، يحصل منها على مقومات حياته من مأكل وملبس ومسكن، ويمارس فيها مختلف علاقاته مع بني البشر، مثلما تشمل مجموعة من المكونات الحية وغير الحية الدائمة التفاعل مع بعضها البعض مؤثرة ومتأثرة.
عَرّفها مؤتمر ستوكهولم عام 1972م بأنها: «مجموعة من النظم الطبيعية والاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها الإنسان والكائنات الأخرى». كما عرفها اجتماع بلغراد سنة 1975م، الخاص بالتربية البيئية، بأنها عبارة عن «العلاقات الأساسية القائمة في العالم الطبيعي والفيزيائي وبينه وبين العالم الاجتماعي - الاقتصادي الذي من صنع الإنسان». وبهذا يتسع مفهوم البيئة ليشمل مختلف جوانب الحياة الإنسانية البيولوجية والفيزيائية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. 

لم يعد خافيًا أن البيئة التي يعيش فيها الإنسان، ويستمد منها كل مقومات حياته، أصبحت تتعرض للانتهاك والاستنزاف عن طريق الاستغلال المفرط وغير العقلاني، مما أدى إلى ظهور مشكلات بيئية تهدد سلامة الحياة البشرية. ولقد أظهر المشاركون في مؤتمرات الأمم المتحدة للبيئة البشرية، منذ مؤتمر ستوكهولم بالسويد عام 1972م، وعيًا بأن بقاء الجنس البشري، أصبح محفوفًا بأخطار متزايدة بسبب تصرفات الإنسان الخاطئة في البيئة.

أزمة خطيرة
فلا أحد ينكر أن البيئة في زمننا المعاصر في أزمة، خطيرة العواقب والآثار... فمشكلات البيئة أصبحت تهدد الإنسان والحيوان  والنبات في الأرض والبحر والجو، وتمثل الأمطار الحمضية، وتلوث المحيطات، وثقب الأوزون وتسرب الشعاع النووي، وتلوث مصادر المياه، وتلوث الهواء، وتلوث الغذاء والدواء، والتلوث الإشعاعي، والتلوث الكيميائي، والتلوث النووي، وإحراق الغابات، ونقص الموارد الطبيعية، وارتفاع مستوى مياه البحر، وتزايد عنف الأعاصير، وارتفاع درجة حرارة الأرض، وزحف الصحراء، وزيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون في الهواء، وتراجع الأصناف الحيوانية البرية والبحرية... أهم ملامح الأزمة البيئية العالمية، التي تهدد كوكب الأرض بأكمله، ولا تقتصر على منطقة جغرافية أو عمرانية معينة، وكلها ظواهر تعود إلى النشاط البشري غير الرشيد.
يشير كل من أولريش براند وماركوس فسن، في كتابهما «نمط العيش الامبريالي: استغلال الإنسان والطبيعة في الرأسمالية العالمية»، إلى أن نمط العيش الامبريالي المترسخ بعمق في المؤسسات السياسية والاقتصاد، وفي الثقافة والعقليات، وفي توجهات الجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية ذات الصلة ومصالحها، وكذلك في الممارسات اليومية، هو أحد الأسباب الرئيسة وراء فشل الجهود الدولية للحد من خطورة الأزمة البيئية. فهو يرتكز على مفارقة تقع في بؤرة ظواهر أزمات مختلفة، وله تأثير أكثر حدة في ظواهر الأزمات، مثل تغير المناخ وتدمير النظم البيئية وإفقار الكثير من الناس وتدمير الاقتصادات المحلية.
حدد المؤلفان أربع مراحل للتطور التاريخي لنمط العيش الامبريالي، وهي: الرأسمالية المبكرة والاستعمار الأول حتى نهاية القرن الثامن عشر، يتبع ذلك مرحلة الرأسمالية الليبرالية والاستعمار المتزايد حتى الإمبريالية التاريخية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ المرحلة الثالثة تبدأ بالفوردية بعد الحربين العالميتين، والتي وضعاها في خمسينيات القرن الماضي وسبعينياته؛ فيما تبدأ المرحلة الأخيرة مع العولمة الرأسمالية النيوليبرالية والتي تستمر إلى يومنا هذا، الذي يعرف استمرار السياسة الإمبريالية. 
في كتابها «هذا يغير كل شيء: الرأسمالية مقابل المناخ» تؤكد الكاتبة الكندية نعومي كلاين؛ بأنه من دون اتخاذ إجراء جاد من شأنه الحد من الانبعاثات الغازية العالمية، فلن يعود ثمة وجود للعالم الذي نعرفه ونحبه. وتشير إلى أن السبب من وراء ذلك؛ وجود قوى هائلة تدفع في اتجاه الحفاظ على الوضع الراهن، وهي تلك القوى التي تجني المال من ضخ الاستثمارات في الطاقة؛ إذ إن التكسير الهيدروليكي الخطير يباع باعتباره الإجابة، وذلك على الرغم من الدليل الواضح على المخاطر التي يسببها بالنسبة إلى الأرض والمياه والهواء. وكتبت كلاين أن الأزمة البيئية؛ في جوهرها هي أزمة ولدت من رحم الاستهلاك المفرط لدى أثرياء العالم. 
لقد غلا الإنسان المعاصر في استغلاله للطبيعة وانتهاكه لخيراتها، فبالرغم من ازدهار العلوم الطبيعية على كافة أنواعها وتقدم التقنية في خدمة الإنسان، فإن تأليه الرغبات... أدى إلى اغتصاب الإنسان للطبيعة، أي إلى استثمار الطبيعة وتطويع قواها لإشباع الرغبات دون وازع أخلاقي، ودون معيار يعلو على الطبيعة والرغبات معًا ويخضعهما لقيمه وأوزانه، فكان تلويث الموارد الطبيعية ونهب الثروة الأرضية بلا حساب مما أدى بدوره إلى قلب توازن الطبيعة في كثير من الحقول. 
وترجع أسباب هذا الغلو في استغلال الطبيعة بالإضافة الى الأبعاد الاقتصادية والأهداف الرأسمالية، فإنها تؤول في نهايتها إلى بعد ثقافي، تفسيره علاقة الصراع والسيطرة المميزة للعلاقة القائمة بين الإنسان والبيئة في الحضارة المعاصرة، والتي ما لبثت تكرسها الفلسفات المادية السائدة، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، والتي انشقت عن فكرة الجدل، جدل الطبيعة وجدل الإنسان، التي قال بها هيجل، وطورها من بعده ماركس. 
القول أو الأخذ بفكرة جدل الطبيعة وجدل الإنسان القائمة على مبدأ الصراع، وضع الإنسان المعاصر بفلسفاته: الليبرالية، الوجودية، الماركسية... في وضع حرج، فعملت هذه الفلسفات على إيجاد قنوات لتصريف هذا الصراع: فقالت بالصراع في جدل الطبيعة، ونفت الصراع في جدل الإنسان.
فكان أن ساد مذهب الفصل بين الإنسان والطبيعة واعتبار كل ما يحيط بالإنسان خادمًا للإنسان وموضوعًا له، فتم النظر إلى الكون نظرة مادية عدائية، تقتضي إخضاع الكون لبطش الإنسان وإحكام سيطرته عليه، على أساس أن الطبيعة آلة وجب تفكيكها... فأصبح مبدأ الصراع هو الذي يحكم حركة الإنسان المادي في علاقته بكل ما يحيط به. 
نعتقد أن جذور ذلك الفصل القاضي بمبدأ الصراع، الذي قامت على أساسه الحضارة المعاصرة، تعود إلى الفكرة اليونانية التي تعتبر أن الإنسان خارج عن الطبيعة، وبسيادة ذلك المذهب واقترانه بمبدأ ندرة الخيرات الطبيعية وعجزها عن تلبية حاجات الإنسان، ولد لدى الإنسان ضرورة التنافس للحد من تلك الندرة، ولأن كان حقل هذا التنافس هو البيئة الطبيعية، مصدر كل الموارد، فلابد إذًا من السيطرة عليها، ومن ثم الدخول معها في صراع لتأمين إشباع تلك الحاجات.

تبديد الموارد الطبيعية
وعلى هذا الأساس فإن الحضارة المعاصرة، مهدت منذ بداية خطواتها الأولى لإقامة علاقة مسيطر (الإنسان) بمسيطَرٍ عليه (بيئته الطبيعية) كما يشير عماد الدين خليل؛ أو علاقة فاتح براضخ على حد تعبير روجيه جارودي، وذلك باعتمادها على مستوى من التطور العلمي والتقني... مما سمح للحضارة المعاصرة بأن تطور بالدرجة الأولى آلتها العسكرية العتيقة إلى جانب التطور التقني الإنتاجي، الذي استعاضت بمقتضاه بالآلة عن الإنسان، ومن تم خففت عنه المشقة في ميادين شتى، مكنته بذلك من قطع أشواط عملاقة تجاه الغاية التي رسمها لعلاقته ببيئته... وهو العامل الذي لم يزده إلا غرورًا بنفسه وافتتانًا بعقله... فطفق يبدد الموارد الطبيعية المتجددة وغير المتجددة منها بشكل خاص في الإفراط في إنتاج الكماليات ووسائل الرعب والدمار، متناسيًا أنه بصنيعه ذاك لا يبدد ولا يدمر إلا نفسه، لأن الإسراف في ذلك النوع من الإنتاج الذي لا يمت لطلبات الإنسان المادية الأساسية بصلة، والتكالب عليه لتكديس الأرباح، ليس إلا تدميرًا للبيئة مصدر عيشه، والذي من أبرز مظاهره، الجفاف والتصحر، التلوث الضوضائي، النفايات الصناعية والغازية، والإشعاع والتغيرات الكيميائية، وتلوث الهواء والمياه، وثقب طبقة الأوزون التي تحمي البيئة من أذى الأشعة فوق البنفسجية، تسخين درجة حرارة الأرض... وإلى غير ذلك من التغييرات التي انعكست على المناخ ككل.
أمام هذا الوضع تزايد شعور الإنسان المعاصر، بخطورة الأزمة البيئية التي تهدد البشرية جمعاء، ولا تستثني في تهديدها أحدًا، الأمر الذي دفع العالم إلى عقد عدة مؤتمرات عالمية قصد تدارس سبل تجاوز هذه الأزمة أو على الأقل الحد من آثارها... من تلك المؤتمرات (مؤتمر ستوكهولم 1972م- بلغراد 1975م- تيبلسي 1977م- موسكو 1987م- ريودي جانيرو 1992م، دورة الجمعية العامة الاستثنائية المكرسة للبيئة بنيويورك 1997م، مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة بجوهانسبرغ 2002م، مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة يريو دي جانيرو 2012م، بالإضافة إلى قمة المناخ العالمية الثالثة والعشرين...). كما خصصت الأمم المتحدة يوم 5 يونيو من كل سنة يومًا عالميًا للاحتفاء بالبيئة، وظهر في أوربا تيار سياسي يعرف «بالخضر» يجعل من مهمته السياسية المطالبة بالمحافظة على البيئة. أكثر من هذا ظهر على المستوى المعرفي علم جديد Ecology علم التوازن الطبيعي يهدف - بدوره - إلى دراسة الظواهر البيئية للحد من الأزمة البيئية. لكن كل هذه الجهود قد فشلت في وضع حد للتدهور البيئي العالمي، والأزمة لا تزداد إلا استفحالاً، وذلك لأن هذه الجهود تؤطرها فلسفة مادية لا تلتفت إلى ما هو ديني وأخلاقي قصد الاسترشاد به. 
ويشير مراد هوفمان إلى أن علم التوازن الطبيعي، الذي أنشأه الغرب، قد وضع مقصدًا آثمًا لهذا العلم البريء؛ هو كيف يساعد الإنسان في استغلاله لقوى الطبيعة، فالإنسان المعاصر مصرٌّ على الاستغلال حتى للعلم الذي وضعه هو لحمايته من الاستغلال.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، لماذا فشلت كل هذه الجهود في الحد من خطورة الأزمة البيئية؟ ولماذا تعد الإجراءات المتخذة غير كافية، على الرغم من ازدياد مستوى الوعي بخطورة الأزمة البيئية؟  
في كتابه «رأسمالية الكوارث: كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية»، (وهو الكتاب بالمناسبة التي يأتي متضمنا للعديد من الحكايات عن الجشع الغربي الذي تنعكس أثاره المدمرة على البيئة والإنسان). يورد أنتوني لوينشتاين في مقدمة هذا الكتاب، تحذيرا ليورغن راندرز، أستاذ استراتيجية المناخ بكلية التجارة النرويجية، من التأثير المدمر للنمو السكاني والاقتصادي في عالم محدود المصادر... وكانت الحجة الأساسية لدى راندرز تمثل تحديًا للقواعد المتأصلة للرأسمالية. وبحلول العام 2015، بات راندرز متشائمًا بشأن قدرة النظام الرأسمالي الحالي على الحد من الآثار المدمرة لظاهرة التغير المناخي، أو حتى بشأن ما إذا كان لدى هذا النظام أي اهتمام بهذا الأمر. 
وعن ذلك كتب قائلاً: «إرجاء اتخاذ إجراء عالمي حيال التغير المناخي ينطوي على تكلفة فعالة... من المربح أن ندع العالم يذهب إلى الجحيم... ونتيجة لهذا، فإن عددًا من المشكلات طويلة الأجل لن تحل، حتى إذا كان من الممكن حلها، حتى وهي تسبب زيادة في الصعوبات لدى جميع الناخبين بشكل تدريجي». 

حوار حضاري
بناء عليه أعتقد أنه لا سبيل أمام البشرية اليوم، للحد من خطورة الأزمة البيئية؛ إلا بتدشين حوار حضاري بين مختلف المكونات الثقافية للعالم، حوار يتأسس على الرصيد المشترك بين الحضارات، ويستند إلى القيم والمبادئ المشتركة بين الأمم والشعوب. فبالحوار والحوار وحده ولا شيء غير الحوار يمكن العالم من بلورة ميثاق بيئي يغلب المشترك الإنساني عن الجانب الاقتصادي كما يغلب المصلحة العامة عن المنفعة الشخصية. ويمكن من اقتراح حلول علمية تهم البيئة وتدابير عملية لتفادي الوضع البيئي الخطير. إننا لا نملك القدرة على تغيير الماضي، لكن نستطيع تغيير الحاضر والمستقبل بالحفاظ على البيئة وعدم استنزاف ثرواتها، وطريق ذلك هو الحوار ولا شيء غيره ■