زهور الزعفران على ذرى الأطلس

زهور الزعفران على ذرى الأطلس

الزعفران نبتة نبيلة من أشهر الأعشاب الطبيعية وأكثرها قيمة في العالم، لما تشمله زهوره من مكونات مفيدة تستعمل في الأغراض الغذائية والتجميلية والطبية، لهذا ما فتئت أسعار خيوطه الذهبية الرفيعة ترتفع في جل بلدان العالم، نظرًا لقلة البلدان التي تنتجه ومنها المغرب الذي يحتل الرتبة الرابعة في تصديره بعد إيران والهند وإسبانيا. تكمن القيمة الكبيرة التي تكتسيها زهور الزعفران في فوائدها المتعددة، وفي ندرتها وصعوبة زراعتها ومشقة جني مياسمها، إذ تحتاج إلى مهارات كبيرة في كل حالات التعامل معها، لأنها زهور حالمة وشديدة الحساسية، وتمتاز بأنفة الخيول وكبريائها، ويمكن لأي خطأ بسيط أن يفسدها، ولا جرم في ذلك ما دامت تلقب بزهور «الذهب الأحمر» الذي هو الزعفران.

 

 إن للزعفران امتدادًا عميقًا في التاريخ، وتعود أصوله إلى بلاد فارس والهند وغيرهما من البلدان الآسيوية، حيث ازدهرت زراعته وإنتاجه، وقد انتقل عبر الطرق البحرية التي اشتهرت في العصور القديمة بنقل مختلف السلع الآسيوية إلى عدد من الأسواق العالمية. وقد امتدت هذه الطرق مسافات طويلة على سواحل بلدان آسيا كاليابان والصين والهند حتى وصلت إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومن هنا دخل الزعفران إلى المغرب الذي يقع في منطقة جغرافية تعتبر نقطة استراتيجية بين إفريقيا وأوربا والمشرق العربي ويطل على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، ومنه انتقل إلى الأندلس خلال فترة الحكم العربي الإسلامي لشبه جزيرة أيبيريا. 

الزعفران في المطبخ
لقد اشتهر المطبخ العربي باستخدام التوابل ذات النكهات الطبيعية التي تجعل صنوف الطعام سيمفونيات بديعة من الذوق الرفيع، يثريها الزعفران برائحته الزكية ولونه الذهبي الذي يلهم ربات البيوت في مختلف البلاد العربية، فيبدعن أصنافًا من الأطعمة الشهية واللذيذة. وهكذا صار الزعفران سيد التوابل في البيت العربي من المحيط إلى الخليج. ففي المغرب يستعمل في تحضير الشاي الأخضر وتتبيل طواجين لحوم البقر والخروف والضأن والدجاج وغير ذلك من الأصناف التي يناسبها هذا التابل النفيس، وذلك لا يتأتى إلا بمعرفة وخبرة الطباخات والطباخين المهرة. كل هذا جعل من الزعفران عنصرًا أساسيًا وقيمة مضافة للطبخ الذي يعد جزءًا من التراث الغني الذي تعتز به البيوت العربية في كل أرجاء الوطن العربي.

الزعفران والتجميل
يمتاز الزعفران بخصائص غذائية وتجميلية وطبية معتبرة، لهذا وجد طريقه إلى عالم الجمال والعناية بالبشرة، لاحتوائه على مركبات طبيعية تفيد في تنقية البشرة وتفتيحها، فالاستخدام المنتظم للزعفران يمكن أن يساعد في تقليل البقع الداكنة على الجلد، كما يساعد على مكافحة الشيخوخة المبكرة، ويحارب ظهور التجاعيد، عند مزجه مع الزبادي أو زيت الزيتون أو العسل. ونظرًا لكونه غنيًّا بالفيتامينات والمعادن الضرورية لصحة الجلد، فإنه مغذٍّ جيد للبشرة ويساعد على ترطيبها. وللإشارة فقد عمدت العديد من الشركات المنتجة لمواد التجميل إلى تسويق مراهم ذات أساس من الزعفران. 

الزعفران والطب 
يتميز الزعفران بعدة خصائص علاجية، مما جعله يلقى اهتمامًا سواء لدى المتخصصين في الطب البديل، أو الشركات الصيدلية المصنعة للأدوية. فإضافة إلى احتوائه على مركبات علاجية، فهو غني بأخرى وقائية، مثل مضادات الأكسدة التي تساعد على تحييد الجذور الحرة المسببة للأمراض المزمنة، كما أنه مضاد طبيعي للالتهابات المختلفة التي تصيب أعضاء الجسم، ويعد علاجًا تقليديًّا لمشاكل الجهاز الهضمي كعسر الهضم وانتفاخ الأمعاء. وحتى لا ندخل في مجالات التخصصات الطبية، فما يمكن قوله هو أن الزعفران نبات طبيعي له فوائد كثيرة في مجالات الطبخ والتجميل والطب، ويستحسن الاسترشاد بتوجيهات الأطباء والمتخصصين في علوم التغذية لمن يرغب في الاستزادة من المعلومات حول الزعفران، كما يجب استهلاكه باعتدال، لأن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وتلك هي سنة الحياة.
 
تالوين عاصمة الزعفران المغربي
تتربع مدينة تالوين على جبال الأطلس الكبير في جنوب المغرب، وتتفرد بإنتاج أجود أنواع الزعفران، حيث يتجند أهاليها للعمل في زراعته في شهر يوليو، وعندما يزهر في أواخر أكتوبر وبداية نوفمبر تتكلف النساء بجني زهوره التي تتفتح لفترة قصيرة لا تتعدى أسبوعين، ويواكب تلك العملية حذر شديد، إذ يجب جني المياسم الدقيقة يدويًا بدقة متناهية للحفاظ على سلامتها نظرًا لحساسيتها وقلتها وندرتها، إذ تنتج كل زهرة  خيوطًا قليلة،  ويتطلب الأمر عددًا كبيرًا من الزهور لإنتاج كمية قليلة من الزعفران الخالص الذي يسجل حضورًا مهمًا في مجال تجارة التوابل النفيسة، ويعد رواجه الواسع شهادة على جاذبيته القوية لكونه من كنوز الطبيعة التي تجود بها مناطق جبال الأطلس الكبير، وبخاصة في جهة سوس ماسة ومنطقة درعة تافيلالت.

إرث ثقافي وحضاري
تعد مدينة تالوين عاصمة الزعفران الذي تؤثث زهوره حقول القرى المجاورة لها في فصل الخريف، ويتكون مزارعوه غالبًا من مجموعات عائلية، كل عائلة تملك حقلًا أو أكثر. وتقوم قواعد العمل على قطف كل زهرة بعناية لاستخراج مياسمها القرمزية الثلاثة التي تشكل جوهر زهرة الزعفران. وتتم هذه العملية في سباق مع الزمن، حيث يجب جني الزهور في فترة إزهارها القصيرة للحصول على زعفران عالي الجودة.
ليس زعفران تالوين مجرد مادة للاستهلاك، بل إنه إرث ثقافي وحضاري متأصل في النسيج الاجتماعي للمنطقة، تتوارثه الأجيال أبًا عن جد، وتتم زراعته وحصاده في أجواء من العمل الجماعي الذي يضفي على المنطقة إحساسًا بالوحدة الاجتماعية والأهداف المشتركة والتضامن وقوة الانتماء. وقد دفعه كل ذلك إلى شهرة عالميّة، كما أن ظروف المناخ والتربة الفريدة في تلك المنطقة ساهمت في إضفاء النكهة الطيبة والرائحة الزكية واللون المميز للزعفران المنتج هناك، مما جعله يصنف ضمن الأنواع النادرة، لذلك يحرص أهالي هذه المنطقة على الاحتفال بموسم حصاده، حيث ينظم المسؤولون كل سنة مهرجان تالوين الدولي للزعفران الذي يقصده الزوار من جميع أنحاء العالم، فتنظم خلاله أنشطة وعروض يشارك فيها المثقفون والفنانون والأدباء، وتلقى فيها القصائد الشعرية باللغتين العربية والأمازيغية، إلى جانب معارض للمنتوجات المحلية ومنها الزعفران الخالص الذي يشتريه الزوار مباشرة من المنتجين المحليين. كل ذلك يجسد التناغم بين الإنسان والطبيعة في هذه المنطقة ■