منطقة الراحة من القدم إلى القمة

منطقة الراحة من القدم إلى القمة

في المول... أقبلت علي من بعيد مرحّبة بحفاوة شديدة أثارت استغرابي... فمَن هذه السيدة التي تحتضنني بعنف! قالت: «ما عرفتيني! أنا نجوى صديقتك في الثانوية»، تذكرتها من اسمها غير المتداول في حياتي وحييتَها بمقدار يكفي شخصيتي... تغيرت هيئتها فلم أرها منذ 20 عامًا، «كيف حالك؟ والله كبرنا وتغيرنا» هكذا رددت باستغراب، قالت: «لزوم الحياة العصرية، تعالي لنجلس وأحكي لك ما فاتك مني، مشغولة؟» ابتسمتُ بوِد: «أبدًا... فلا مسؤوليات تلاحقني».
اختارت أحد الكافيهات لنجلس عليه. طلبت الكابتشينو المفضل لدي وقطعة من حلوى التوت، وبظرافة سمجة قالت: «لا داعي للحلوى فأنا حلوة كفاية» ضحِكت وأكملت: «أخاف أن يزيد وزني مع عدم التزامي بالأندية الرياضية وانشغالي في أعمالي يهرسني هرسًا ويدفعني للجوع دائمًا، وأخاف أن أشيع الدمار على عمليات التجميل التي قمت بها»، أجبتها بأني لا أكترث فأنا أسير على ما تهوى نفسي، فوجبة العشاء بالثامنة مساءً ووجبة الفطور بالثامنة صباحًا. وجاءتني بضحكة: «كم أنت بسيطة... تلبسين حذاءً رياضيًا ويومك مفتوح بلا انشغالات وتأكلين ما تشائين بانتظام». 
أووه إنها دقيقة وتحلل الأمور سريعًا، فبادرتها بالسؤال: «وأين تعملين الآن؟». فقالت: «تخرجت بتخصص إعلام، فعملت في البنك وتزوجت المدير ولِي ولدين وابنة، فتحت مشروعي الخاص وهو محل لبيع منتجات التجميل، وهو ساعدني في إنشاء مركز للتدريب على القيادة والإدارة والتنمية الذاتية». باستغراب قلت: «وهل أكملت دراستك بتخصص علم النفس، أم الإدارة؟». ردت سريعًا: «لا يا عزيزتي... فهذه الأمور لا تحتاج إلى شهادة جامعية، فبمجرد أن تلتحقي بدورتين وتأخذين شهادات معتمدة من مركز أوربي ستكونين مؤهلة لممارسة التدريب... وماذا عنك؟».  «أنا حاليًا في منطقة الراحة باختياري... فبعدما تخرجت من الجامعة توظفت بإحدى المؤسسات، تزوجت وأنجبت توأمًا واكتفيت بهما... وهما حاليًا يدرسان في الجامعة، والآن أنا متقاعدة منذ 3 سنوات وجالسة معك». 
«لا تفعلين شيئًا...». 
«لا أفعل شيئًا...».
نهرتني: «اخرجي من منطقة الراحة هذه فأنت تؤذين نفسك، إنك تركنين للركود والضياع والزهايمر وما يعيق تطورك الذهني والشخصي، ما هذه السلبية؟! حياة لا يوجد فيها أي جديد ولا تغيير». أجبتها: «ولِم أخرج منها أنا؟ فأعيش حياتي بكل امتنان وهناء، ولِم أركض وراء شيء سيشقيني».
حارت بعقلها وأجابت: «ليس كافيًا، يجب على المرء إثبات ذاته وقدراته وتسخير طاقته لخدمة الناس والمجتمع ليكون بمكانة مرموقة في القمة وسعادة وراحة».
ابتسمتُ بهدوء لأخفف حدة توترها المشدود كالقوس: «لا أحتاج للسعي وراء النجاح الذي يتوقف بمجرد تحقيقه، ولن يتوقف... وهل سأقضي عمري كله ألهث وراء الأشياء للوصول لِقمَة تلو الأخرى. طيب... أنا وصلت لهذا، فلماذا لا نقتنع بالتصالح مع النفس والرضا».
وبعد هذا الحوار الثقيل على قلبي حوّلت مجرى حديثي بالسؤال: «كيف حال زوجك والأبناء؟» صمت هبط عليها، وترقب يجلس بجانبي، ملأت صدرها بهواء الدنيا كلها وزفرته حارًا... فقالت: «هم بخير... ولكني لست كذلك» أمَلت رأسي جانبًا باستنكار بادٍ على وجهي، فأردفت: «بعد طلاقي من زوجي بسبب تدخله الزائد في تفاصيل حياتي وجل شؤوني الصغيرة والكبيرة، بدأت أنفر منه ولا أتحمله، انفصلنا بهدوء وبقى الأطفال معه... كم أشتاقهم»! ■