يوتوبيا.. وفوبيا مانديلا لاند.. قلم: أشرف أبو اليزيد

يوتوبيا.. وفوبيا مانديلا لاند.. قلم: أشرف أبو اليزيد

عدسة: سليمان حيدر

في التاسعة صباحًا ذات يوم صيفي كان موعدُنا مع الطائرة التي ستتجه بنا إلى دبي ؛ حلقة الوصل بين مطار الكويت الدولي ومطار جوهانسبرج في جنوب أفريقيا. حين انتصف النهار بدأت طائرتنا الثانية رحلتها من الجزيرة العربية إلى تخوم القارة الأفريقية، وعلى خلاف الغبار الذي تركناه رمزًا للصيف بشطآن مدن الخليج العربية، كانت السواحل الأفريقية، ونحن نحلق فوق الأراضي الصومالية وما بعدها وصولاً إلى سواحل كينيا، تُظهر في مرآة السماء الصافية تلك الجغرافيا البرية للقارة السمراء: الصحراء. الجبال. الهضاب. المراعي. جنبًا إلى الوديان التي كانت أنهارًا قبل أن تجففها السنوات. بعد منتصف الرحلة ـ التي استمرت ثماني ساعات وربع الساعة ـ كان الظلام قد حل، وكأنه يذكرني بلون القارة التي نجتاز سماءها على ارتفاع 40 ألف قدم، بدرجة حرارة خارجية وصلت إلى 68 درجة تحت الصفر، كما تشير شاشة المعلومات. لكننا مع اقترابنا من مطار جوهانسبرج، كانت أنوار المدينة تشبه أشجارًا من النور، تطرز بساطًا لانهائيًا. سألتُ نفسي، هل أضاءت الحرية البلاد التي عانت طويلاً، كما فعلت الكهرباء في الظلام الذي حجب الرؤية في الساعات الأخيرة؟ لم تكن الإجابة بسهولة السؤال، لأنه كان علي أن أكتشف في أيام قليلة ماذا حل بالبلاد التي تحتفل بمرور 16 عامًا على غروب نظام الفصل العنصري.

كأنني على موعد معه، كان نيلسون مانديلا في الطائرة التي أقلتنا إلى بلاده. قضيت بصحبته أكثر من ساعة ونصف الساعة من خلال الفيلم الذي قام ببطولته الممثل مورجان فريمان ويسجل أيام مانديلا الأولى بعد وصوله سدة الحكم حين فاز بأول انتخابات حرة في جنوب أفريقيا، كأول زعيم أسود يحكم وطنه. كان الفيلم مثل حكاية خيالية، يرصد مثاليات ذلك الرجل الاستثنائي. استعان مانديلا على قسوة 26 عامًا في سجنه بجزيرة روبن آيلاند.. بالشعر ليكسر الحجر. استمد عزيمته من الإلهام ليحقق به الأحلام.

لكن الفيلم الذي شاهدته في السماء لم يكن سوى تمهيدٍ لواقع على الأرض. لأنني حين وصلتُ، وأنى وليتُ البصر والسمع وجدت كلمات مانديلا، وصور مانديلا، وآثار مانديلا، وتذكارات مانديلا، وتماثيل مانديلا. أدركت حينئذ أنني في «مانديلا لاند». حتى في حمى انشغال البلاد باستقبال كأس العالم بعد أسبوعين لم يكن هناك من ينسى دور مانديلا بإحضار تلك الأيقونة الذهبية إلى ملاعب القارة الأفريقية للمرة الأولى، وربما للمرة الأخيرة في حياتنا!

في مطار جوهانسبرج الذي يتمطى كدودة عملاقة اتجهنا إلى أحد مكاتب الاستعلامات، كان يقف بالمكتب شابٌ أسمر طويل القامة واسع الابتسامة، نسأله عن الفنادق المتاحة، ونحن نقطع حواره مع رجل يكبره سنا أبيض البشرة. على عادة ما نتخذ في السفر من أماكن للإقامة تتيح الانتقال في أركان المدن الأربعة سألناه عن فندق يكون في قلب المدينة. نظر إلينا الرجل الأبيض بدهشة وقلق وسمح لنفسه بالتدخل: «لا أنصحكما بذلك. هذا هو الخطر بعينه». عاود الشاب عرض اختياراته. وقال لنا إنه بإمكاننا أن نستأجر فيلا في الحي الشمالي بالمدينة؛ (عرفنا بعد ذلك أنه أحد أحياء سُكنى البيض). ومادام أهل البلاد أدرى بشعابها، فقد استقررتُ مع زميلي المصور سليمان حيدر على اختيار ما اقترحه الشابُ، خاصة بعد أن عرفنا أن صاحب الفيلا سيكون سائقنا ودليلنا خلال فترة إقامتنا في جوهانسبرج. بعد قليل حضر سائق اسمه كينيث، أقلنا إلى الفيلا، التي لا تبعد سوى 15 دقيقة عن المطار. في الطريق قال لنا كينيث إن الفيلا التي سنقطن بها تبعد عن قلب المدينة بنحو ساعة، إن لم يكن هناك زحام!

في الحي الشمالي

المكان الذي قصدناه متسع الشوارع، وعلى جانبي الطرق الجانبية فيلات مُسَوَّرَة. حين وصلنا غايتنا أدار السائق جهاز التحكم ليفتح بوابة تعبر بها السيارة مدخل الفيلا. بعد قليل جاء صاحب الفيلا، هيكتور. وهو شاب أسمر بدين. بعد حديث استمر إلى منتصف الليل، قسمنا أيام الإقامة على الرحلات الداخلية في جوهانسبرج وما حولها. بدأت أشعر بالاطمئنان. الحي آمن. هادئ. زال عني تخوف أثارته كلمات الرجل الأبيض في المطار، وقد أوحى إلي بأنني حللتُ أرضًا غير آمنة. أدرتُ مفتاح التلفزيون، كانت هناك مذيعة شقراء تقدم برنامجًا مثيرًا اسمه «الدرجة الثالثة». كان الموضوع الذي تدور حوله الحلقة يناقش سؤالا وحيدًا: «هل انتهى عهد الفصل العنصري؟» في المادة الفيلمية التي عرضتها شاهدت رجلا أبيض يوجه لكمة إلى المصور احتدامًا وغضبًا من سؤال وجهته إليه المذيعة وهو لا يزال يرتدي قميصا يحمل علم البلاد أثناء حكم الفصل العنصري. انتهى التسجيل، وأخبرتنا المذيعة أن الثائر العنصري ألقي القبض عليه ونال غرامة كبيرة!

في الإعلان الذي تلا البرنامج يخاطب المذيعُ أشخاصًا مختلفين، يدعوهم للتأمين على حياتهم، وهو يقول: «الشاب سيجد من يرعى والديه حين يغيب للأبد.. الرجل سيطمئن لأن مبلغ التأمين سيغطي نفقات تعليم ابنته اللغة الفرنسية حين لا يكون هناك لينفق عليها.. على الجميع أن يرحلوا ـ شبابا وناضجين ـ بعد التأمين على حياتهم، لأن - شركة ما - ستجعلهم يرحلون وهم مطمئنون في دنياهم الآخرة إلى أن مبلغ التأمين - الذي يصل إلى مليون راند ـ سيغطي النفقات التي قد لا يستطيع توفيرها وهو حي»!

كنتُ قد أخذتُ جريدة من الطائرة، والصحف هنا معظمها بالإنجليزية، وقليل منها بغير اللغة الاقتصادية للبلاد التي تعتمد 11 لغة رسمية هي لغات قبائلها. كان التحقيق الرئيسي يناقش قضية اغتيال أصحاب المزارع من البيض، وفي صفحة تالية خبر عن اعتذار إحدى الصحف لنشرها رسومًا مسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، زاعمة بأن أصحاب الديانات الأخرى لديهم حس فكاهة فيما يخص أنبياءهم، وأنها لم تقصد الإساءة لمشاعر المسلمين بالبلاد.

كان الليلُ قد انتصف، ولذلك حاولتُ النومُ، بينما نباح كلاب حراسة يتردد بين حين وآخر. قلتُ إن عيون الصباح ستكشف لي حقيقة ما تزعمه وسائل الإعلام. كنت أستغرب ما أقرأ وأشاهد وأسمع، فالبلاد ستستقبل جماهير ولاعبي كأس العالم بعد أيام، وإن لم تكن يوتوبيا من الأمان، فإنها ستكون مستنقعا لفوبيا من الخوف!

الطريق إلى «سو وي تو»

منذ قرن وبضع سنوات، ولدتْ جوهانسبرج. هنا ينطقونها دجوبرج. لكننا في تدويننا سنلتزم باسمها الرسمي. ولدت جوهانسبرج وفي فمها ملعقة من ذهب، لأن بناءها جاء ليخدم المنقبين عن المعدن النفيس (اكتشف الذهب في جنوب أفريقيا سنة 1871ميلادية). الآن لا يبقى على الطريق التي نمر بها من ذكرى للذهب في المدينة سوى تلك العنابر التي تشبه أقفاص تربية الدجاج والأرانب. «هنا عاش العمال الذين اشتغلوا عمرهم بالمناجم، لم تكن تلك المنطقة تسمح للنساء بالدخول إليها. إنها مناطق للرجال وحسب. الآن لا يوجد تنقيب عن الذهب داخل المدينة. لكن هناك عمليات تنقيب خارجها». كانت تلك عبارات هكتور وهو يشير إلى مجموعة من المكعبات الحجرية التي تشبه بيوتا بسبب تلك النوافذ الضيقة التي تشبه فتحات في زنازين.

لم تعد جوهانسبرج مدينة واحدة. ربما تكون بدأت مع الذهب، لكنها الآن تمتد مثل اخطبوط، فلها ذراع في كل اتجاه.

ونحن نغادر الحي كانت هناك ملاحظة أدهشتني. الفيلات الجميلة، سواء تلك المفردة، أو التي تشغل حيزًا في مجمع للفيلات، تعلو أسوارها الأسلاك الشائكة. الأسوار التي تحيط بها ليست سوى أعمدة من حراب. الأسلاك إما دائرية كما تراها في الخنادق والحروب، أو هي شرائط غالبًا ما ترى عليها إشارة أنها موصولة بالكهرباء. كان الهدوء والجمال اللذان يلفان الحي يخفي في قلبه خوفا غامضا. على الأرصفة رأيت علامة أزعم أنني أراها للمرة الأولى، دائرة يقطعها خط أحمر تعني ممنوع، أما الرسم فكان يمثل بائعًا على رصيف تحت مظلة. غير بعيدٍ من الإشارة كان هناك باعة مؤقتون، لكن حمى كأس العالم سمحت لهم بأن يبيعوا الأعلام والقبعات وصفارات الفوفوزيلا وسواها، لكن آخرين لم يكونوا يحملون شيئًا، سوى بعض الآلات التي تستخدم في الطلاء والنجارة والزراعة، إنهم عمال يسرحون من أجل مهنة وقتية.

قال هكتور: «في جنوب أفريقيا نحو 4 ملايين مهاجر من زيمبابوي وحدها. أغلبهم عاطلون يأتون بحثا عن أشغال دنيا. انظر، هاهم، رجال ونساء على حد سواء». على مر الأيام سنكتشف أن هناك معضلة في العلاقات بين جنوب أفريقيا وأفريقيا، حتى أن زيارة السيد زوما رئيس البلاد إلى هراري كانت وراء مساءلة له في الجمعية العامة. يعتقد زوما أن عليه دورًا لتأمين السلام في زيمبابوي ودارفور ومناطق أفريقية أخرى يتوقع أن يؤمن مع مشاركين له في الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة اتفاقات سلام تاريخية. كانت قضية استجواب زوما لزيارته إلى زيمبابوي تدور بينما الجماهير في ديربان، أحد موانئ جنوب أفريقيا على المحيط الهندي، تحيي العداء الفائز بماراثون جنوب أفريقيا، وكان عداء من زيمبابوي!

تعودنا على مشهد المهاجرين البؤساء، عاطلين وأجراء، ونحن نبتعد عن الأحياء الراقية، ونقترب من «سو وي تو». إنها مدينة لها لغتها الخاصة. لا يعيش بها سوى السود، ولا يقطن معظمهم سوى أكشاك تفتقر للحياة الآدمية، قوامها غرفة وحيدة أضيق من أن تتسع لعائلة، عليها أن تقضي حاجتها في حمام ملحق بها من الخارج. كان ظهورنا في «سو وي تو» غريبا ـ على الرغم من أننا لسنا من ذوات البشرة الشقراء ـ إلا أننا وسط منطقة لا يسكنها سوى السود. بدت لنا مظاهر الحياة البائسة في المهن البسيطة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

قرب طاولتين رأينا فتاتين تبيعان بعض الحلي التقليدية والأعمال اليدوية. تقدمت منا إحداهما وعرفتنا على نفسها: «اسمي سامانتا. أنا رسامة. هذه البطاقات الملونة بريشتي. أيضا أنا أطبع على القماش بالطباعة الحريرية». تأملت رسوم سامانتا. لو أنها ولدت في الطرف الآخر من المدينة، لو أنها لوالدين موسرين، ربما لكانت فنانة تشكيلية معروفة، تدرس في بريطانيا وتعرض أعمالها في باريس وتقتنى لوحاتها في نيويورك. لكن سامانتا قدرها «سو وي تو».

على بُعد خطواتٍ من سامانتا يوجد شاهد معماري تشبه قمته جزءًا من مئذنة سامراء الملوية. تحت قبة الشاهد الأسطواني، التي تصلها بالسماء نافذة تشبه علامة (+) وقف عازف على نايه يقدم ألحانا حزينة. درنا حول مائدة أسطوانية حجرية، على طرفها وضع العازف طبقا ليضع زوار المكان بعضا مما يتيسر لهم من النقود. لم أصدق أن المكان الذي شهد توقيع اتفاق نهاية الفصل العنصري تحول إلى غرفة لعازف بائس.

في مواجهة سوق شعبية تجد فيها كل ما سيذكرك بجنوب أفريقيا، أدغالها وحيواناتها، رسومها ومشغولاتها، كان هناك نصبٌ تذكاري أمام ساحة كبيرة يجري فوق حصاها نهر من مياه يعلوه جسرٌ. كانت الساحة خالية إلا من مارة يعدون فوق الجسر، ومصور يعرض علينا أن يصورنا أمام النصب. شكرناه ونحن نشير لآلتي التصوير اللتين نحملهما. كان الميدان، والنصب، تحية للشهداء من الطلاب الذين تظاهروا ضد الفصل العنصري. في ذلك اليوم خرج الأولاد إلى مدارسهم دون أن يخبروا آباءهم بعزمهم على التظاهر. لم يعد أحدٌ حيا من المظاهرة. سالت دماء الصبية، برصاص الشرطة العنصرية. لا أدري هل كان خيالا أم أنه ظل الحصى في النهر. كنت ألمح لونا أحمر لايزال يسيل تحت الجسر الصغير.

يضيف هكتور: اسم هذا الحي المدينة مختصر لاسم ساوث ويست تاونشيبس. أي أن «سو» ترمز للجنوب، و«وي» للغرب، و«تو» للمدن (تاونس) التي اجتمعت تحت مظلة هذه المدينة السمراء.

مرة أخرى، وليست أخيرة سيظهر لنا مانديلا. قال هيكتور: «ليس كل ما في سو وي تو أسود. الآن سنتجه إلى شارع عاش به اثنان حصلا على جائزة نوبل للسلام. هذا الشارع في سو وي تو ستجدانه في موسوعة جينيس للأرقام القياسية، وأما المكرمان بجائزة نوبل فهما نيلسون مانديلا، والقس ديزموند توتو. عبرت السيارة بنا منزل القس توتو. لايزال يسكنه، من حين لآخر، لذا لايصرح لأحد بزيارته بغرض الفرجة. قبل أن نعود لبيت نيلسون مانديلا مررنا ببيت زوجته الثانية، ويني مانديلا، وعرفنا أنها تقضي هذا الصيف بإسبانيا. عدنا إلى بيت نيلسون مانديلا الذي تحول مزارًا، ولايزال يضم تذكاراتٍ كثيرة. على جدار الواجهة يخفي الأسمنت موضع رصاصات أطلقتها الشرطة حين جاءت لاعتقال ويني مانديلا. رائحة المكان بالصور الكثيرة لمانديلا، وأولاده الذين رحلوا، وابنته التي تزوجت أميرًا من سوازيلاند، وزوجته، وأمه، أعادتني لحياة مانديلا الحقيقية. كنا قد وصلنا إلى الشجرة التي شهدت مولد أبنائه. كانت الشجرة قد انحنت مثل كهل آلمته السنون. جلستُ قليلا أتذكر أيام مانديلا، قبل أن يعود إلى هذا المنزل إثر إطلاق سراحه في 11 فبراير 1992م.

كان نيلسون مانديلا يحلم، وكنا نؤمن بحلمه. كان زعيما حقيقيا لديه طموح، وكان أملنا أن تصيب عدوى طموحه كل الزعماء. كان يريد أفريقيا جديدة، وكانت تلك إرادتنا كلنا. كان مانديلا يخطط لعالم مختلف لما بعد الحرب الباردة، والفصل العنصري، والاستعمار. وكان ذلك أهم ما نحلم به.

في متحف آخر هو (Apartheid Museum) يسجل سنوات الفصل العنصري كانت عمارة المكان تعيد لنا صورة الحياة القاسية التي عاشها أبناء البلاد. نعبر البوابة إلى غرفة مليئة باللافتات الحقيقية التي أعيدت إلى الحياة: إنها اللافتات التي كانت تسمح للأوربيين فقط بممارسة حياة تحظرها على سواهم. كثيرة هي البطاقات المُكبرة التي تمثل مواطنين جنوب أفريقيين كان عليهم أن يعاقـَبُوا إذا عبروا إلى مناطق غير مجازة لهم. في واجهة المكان الذي سجنت فيه البطاقات تجلس لجنة تحدد العقوبات لمن يخالف أوامر الشرطة.

وهي تكاد تبكي وقفت فتاة سمراء تتأمل البطاقات، ربما تبحث عن أحد أفراد عائلتها وراء التاريخ والأسوار والقيود. كانت تلك نقطة في التاريخ لابد أن لها جذورًا.

يومٌ في حياة الزولو

كان سكان «البلاد» من الخوي خوي، الذي يمزجون في حياتهم بين الرعي والقنص، مع البوشمن، الذين كانوا رعاة خُلصًا. كانت الجماعتان قريبتين حتى كاد التمييز بينهما في علم الإناسة (الأنثروبولوجي) أن يكون صعبًا. لكننا نحكي هنا عن تاريخ 40 ألف سنة خلت! سنعبر القرون لنصل إلى بداية التقويم الميلادي فيكون المشهد الأنثروبولوجي أكثر وضوحًا حين يسرد علينا العلماء كيف اتصلت جماعة الخوي خوي بقبائل البانتو ـ التي تمارس الصيد وجمع الثمار ـ ليمارسوا معًا الرعي وليهاجروا جنوبًا من المكان الذي جمعهم معًا ـ بوتسوانا اليوم ـ إلى رأس الرجاء الصالح.

التعايش بين الجماعتين على امتداد قرون الألف الأولى للميلاد أفضى بنا إلى جماعات مستوطنة. لم ترع هذه الجماعات الحيوانات في حظائر وحسب، بل بدأت بزراعة الشعير وتعدين أدوات القنص، وصناعة الفخار. وبدأ عصرٌ ظهرت فيه القرى التي تجمع أبناء هذه الجماعات. في القرن الميلادي الثالث ظهر ما عرف باسم كوا زولو ناتال. وهذه صورة لنشأة الزولو الذين انتشروا بين المقاطعة الشمالية، وجوتنج، وفري ستيت.

بعد ذلك بقرون ستتجه الهجرات القبلية إلى الجزء الشرقي من جنوب أفريقيا، لتكون مستعمرات قروية، ولتبتدع في القرن الخامس عشر ثورتها الصناعية، وليبدأ عصر تصنيع الحديد، والتنقيب عن الذهب والبحث عن النحاس، وقد كانا على عمق يصل إلى 25 مترًا في باطن الأرض. اليوم يميز الأنثروبولوجيون بين ثلاث قبائل في تلك البقعة من البلاد؛ الزولو، والسوازي، والكوسا (تنطق الكاف قريبة من حرف الخاء). عرفتُ أن هكتور من قبيلة الزولو، وأن زوجته أيضا من الزولو، لكنها ليست من العائلة نفسها، أما ابنتهما فقد كان اسمها سميحة، أو كما ينطقانها سميخة! عرض علينا هكتور أن يضمن برنامجنا زيارة للقرية التي ظل بها حتى تزوج، وكانت فرصة لنا للتعرف عن كثب على حياة الزولو.

وصلنا القرية فاستقبلنا عدد من الراقصين التقليديين، بزي شعبي باذخ الألوان، وأغاني فولكلورية عالية الصخب، وأداء حركي استثنائي السرعة. الفتاة التي اصطحبتنا إلى داخل قرية تضم أربع قبائل أخرى، ويجمع بينها محيطٌ واحد من الأدغال، أرشدتنا إلى المسرح الذي يقع في مقدمة القرية، حيث عرض فيلمٌ يلخص قصة الحياة والحضارة في جنوب القارة.

زرنا الزولو، ومنهم صناع الحراب، وزرنا القبائل الأخرى التي تمارس حياتها، ومنهم ملك يتخذ ثلاث زوجات الواحدة منهن تبلغ ضعفه حجما أو أكثر، بلا مبالغة. في نهاية الجولة قدمتنا الفتاة إلى قائد المجموعة، الذي دعا زعيم القبيلة بالقرية لتوسط مسرح آخر إلى يمينه قارع الطبلة العملاقة، وخلفه ويساره مجموعة من العازفين الآخرين. بدأت الحفلة الراقصة التي اختتمت ـ تحية لكأس العالم ـ برقصة الديكسي الشهيرة. حين حضر موعد الطعام، تقدمنا هكتور إلى مائدة حافلة عليها أطباق لحوم التماسيح والنعام والدجاج والأسماك. كانت ثمار القرع بين ما طهي من طعام مع السبانخ. أما الأرز فكان منتفخًا على غير العادة. اكتفى سليمان بالخضراوات، وفعلتُ مثله بعد أن أضفت قطعًا من صدر النعام، أما هكتور فلم يدع شيئًا إلا وأصاب منه القليل والكثير.

في طريق العودة إلى جوهانسبرج لم نخرج عن الأجواء التقليدية حين عرجنا على سوق السحرة والمشعوذين. فكِّرْ في أي شيء غريب وستجده: هنا قردٌ محنط. هيكل عظمي لذئب. جلد ثعبان. ذيل لحيوان بري. رأس ثور منزوع العينين. صخور ملونة. ربطات أعشاب برية. الكثير من المساحيق والعديد من الأواني البلاستيكية. زجاجات تحوي سوائل. هنا ستأتي زوجة تشكو من زوجها فتعد لها الساحرة ما يعيده إليها. هنا سيأتي رجل ليشتري شيئًا يجعل قلب رئيسه في العمل يلين له. لم نكن نريد شيئًا سوى التقاط بعض الصور.

على ناصية السوق كان يقف شاب ضخم الجثة جعله هكتور مسئولا عنا حتى لا تهاجمنا الساحرات ولا يتعرض لنا المشعوذون. نقده ما أراده، ولكننا حين انتهينا طاردتنا نسوة صورنا «محلاتهن». كن يرغبن في مكافأة إضافية، حين رفض هكتور أخذت المرأة تحدق بنا جميعًا واحدًا تلو الآخر، وكأنها تقرأ تعاويذ. حين كانت تقابلنا مشكلة على الطريق كنا نتذكر لعنة تلك الساحرة ونضحك، لأن هكتور قال لنا إن سحرها لن يسافر معنا، فهو محدود جغرافيًا بجوهانسبرج وضواحيها. كانت تلك حياة يومية لآلاف السنين، ولم تستطع الحياة الجديدة في جنوب أفريقيا أن تغير منها شيئًا.

وقفة تاريخية

كان انتشار الإسلام في الشمال الأفريقي ودول البلقان قد حول سبل التجار الأوربيين إلى جحيم، مما جعل الإسبان والبرتغاليين يبحثون عن دروب بحرية للوصول إلى الهند، بعيدًا عن موانئ البحر المتوسط الذي أصبح في القرن الخامس عشر ميلادي بحيرة إسلامية. ولذلك تركزت آمالهم في رأس الرجاء الصالح، حول ذيل القارة السمراء، ليكون ملاذهم لتأمين تجارة التوابل، أهم بضاعة في العصور الوسطى. وقد شهد العام 1487م وصول الغرب الأوربي إلى جنوب القارة الإفريقية للمرة الأولى. كان بارثلميو دياز وصحبه في حملة من 3 سفن قد دار حول الرأس، الذي سماه دياز «Cabo da Boa Esperança» وترجمتها رأس الرجاء الصالح. بعد ذلك بعشر سنوات دار فاسكو دا جاما حول المكان نفسه، قبل أن ينجح في الوصول إلى الهند في العام 1498م. هكذا بدأ البرتغاليون بتوجيه الأنظار نحو ذلك الكنز الملاحي، الذي سرعان ما اجتذب إليه ملاحين أكثر سطوة، وشهد القرن السادس عشر الميلادي صراعًا بريطانيًا هولنديًا على الرأس الذي صعد على الخارطة الملاحية كمحطة نظامية بين المحيطين، الأطلنطي والهندي. في العام 1624 الميلادي تحطمت أمام صخور جبل الكيب المعروفة باسم جبل المائدة سفينة تابعة لشركة الهند الشرقية الهولندية، وقد بنى بحارتها المنعزلون على الجزيرة التي تقبع قبالة الجبل قلعة آوتهم لمدة عام، قبل أن تنقذهم قافلة هولندية أخرى.

لم يكن الهولنديون ينوون «احتلال» الكيب وما حولها، لكنهم أرادوا تأمين مسار تجارتهم، وهذا ما جعل تأمين التجارة يتحول إلى احتلال رسمي، بعد وصول جان فان ريبيك إلى خليج المائدة (نسبة إلى الجبل المطل عليه والذي يشبه مائدة نسبة إلى استواء رأسه!) في السادس من أبريل سنة 1652م. تزدهر التجارة، وتتسع بما يجعل من جان فان ريبيك يسعى للبحث عن عمالة تكفيه، فـ«يستورد» من موزمبيق، وجاوة ـ في إندونيسيا ـ ومدغشقر عبيدًا، وها هم يبنون مستعمرتهم الأولى في جزيرة «روبن آيلاند».

ودَّعنا هكتور، وانطلقنا إلى كيب تاون. بالرغم من قوة الرياح الاستثنائية وصلنا إلى مطار كيب تاون بعد أقل من ساعتين على مغادرتنا لجوهانسبرج. المضيف الجوي المرح الذي يرتدي قميص كأس العالم بدلا من الزي التقليدي، وسط حمى استقبال جنوب أفريقيا للبطولة الأولى في كرة القدم، جعلنا ننسى اهتزاز الطائرة التي حملت إلى أعرق مدن جنوب أفريقيا كل الأجناس. أوربيات متبرجات، ومسلمات منقبات، أفارقة مهجنين، وصحفيين عربيين، وسكانا للبلاد ولدوا بها، يرثها آباؤهم، لكنهم اليوم محكومون بزمرة مانديلا من المجاهدين الأحرار.

حتى العام 1745الميلادي، لم يكن عدد البيض في «البلاد» قد تجاوز الألف نسمة. كانت شركة الهند الشرقية الهولندية قد سمحت لبعض المواطنين ببناء مساكن ومزاولة الزراعة، لكن قبضة الشركة خفت بعد أن زاد عددهم، ثم هاجر هؤلاء ليتخففوا للأبد من سيطرة شركة الهند الشرقية الهولندية عليهم. عبر هؤلاء نهر أوليفانت وصولا إلى نهر السمك الكبير. مارسوا عزلتهم، وسط أعمال الزراعة، حول أكواخ الطين التي شيدوها لسُكناهم. وإذا كانوا يسمون في الماضي Trekboers ومعناها مزارعون رحَّل، فقد عرفوا لاحقا باسم Boer وقد انقطعت بهم السبل ، بسبب عزلتهم، عن التمدن الذي طال الأوربيين في القرن الثامن عشر، بفضل الثورة الفرنسية، وأفكار التحرر، والديمقراطية. وشكل هؤلاء «البوير» النمط الأفريقي للحياة، ثقافة ومسلكًا. وهو القرن نفسه الذي شهد اضمحلال القوة الهولندية، ونمو السطوة البريطانية، التي توجت في العام 1795 الميلادي بغزو البريطانيين للكيب، حتى لا تقع رأس الرجاء الصالح بأيدي الفرنسيين المنتشين بالثورة، وهناك أسس التاج البريطاني مستعمرة قوامها 25 ألفًا من العبيد، يحكمهم عشرون ألفا من البيض، ويساعدهم 15 ألفا من قبيلة الكوسان، وألف ممن كانوا أرقاء سودًا قبل أن ينالوا حريتهم.

أصبحت السطوة في الكيب للبيض وحسب، وبدأ التمييز على أساس لون البشرة يتحقق على أرض الواقع. وبالرغم من أن البريطانيين سلموا المستعمرة للهولنديين في العام 1803 الميلادي، إلا أنهم، كرد فعل على الحروب النابوليونية، قرروا تأمين الكيب ضد الفرنسيين، فاستعادوا كيب تاون بعد ثلاث سنوات إثر هزيمتهم للهولنديين. وتم تسليم المستعمرة بشكل دائم للبريطانيين في الثالث عشر من أغسطس سنة 1814ميلادية. وما هي إلا سنوات وبدأت الهجرات الإنجليزية تشكل المجتمع الجديد في كيب تاون بداية من الشرق في العام 1820 الميلادي. أراد البريطانيون أن يتوسعوا ليكونوا منطقة وسطى بين البوير المزارعين الرعاة والكوسا. ثم بدأت الحروب تشكل وجه الحياة بين القادمين والسكان الأصليين. وفي العام 1824م يبدأ الملك موشوي شوي يعلن عن قيام كيان جديد لشعب الباسوتو. في ثلاثينيات القرن التاسع عشر ينتصر محاربو البوير على الزولو في معركة نهر الدماء. تتأسس في العام 1838م جمهورية البوير وبعدها بست سنوات ينتصر البريطانيون على الكوسا إثر مذبحة القطيع الكبرى.

في العام 1860م يصل الهنود إلى الترانسفال حيث أسس البوير جمهوريتهم. بعد ذلك بثماني سنوات يضم الاحتلال البريطاني أرض الباسوتو إلى مستعمراتهم (هي اليوم مملكة ليسوتو). في العام 1869م يُكتشف الألماس في كيمبرلي قرب جوهانسبرج. وفي العام 1871م يُكتشف الذهب في الترانسفال الشرقية. في العام 1877م يُلحق البريطانيون جمهورية البوير بمستعمراتهم. في العام 1881م ينتصر البوير على البريطانيين وتصبح الترانسفال تُعرف للمرة الأولى باسم جمهورية جنوب أفريقيا. بين الهنود الذين جاءوا إلى الناتال نتعرف على موهانداس غاندي، الذي سيقود بلاده لاحقا للثورة البيضاء، ثورة الملح، ضد الاحتلال البريطاني. في العام 1897م يضم الاحتلال البريطاني مملكة الزولو إلى مستعمراته. بين عامي 1899 و1902م تشتعل المعارك بين الإنجليز والبوير.

سيتسوتو وإليزابيث.. قصة امرأتين

في كيب تاون كانت دليلتنا سيدة شابة اسمها سيتسوتو. ولدت سيتسوتو ودرست في حي سو وي تو، الذي يمثل قلب جوهانسبرج النابض، لكنها بعد أن اجتازت سن المراهقة أرادت أن تجرب محيطا مختلفا. لم تكن الأم تريد لابنتها الصغيرة سيتسوتو أن تغادر سو وي تو، لكن مع إلحاح سيتسوتو، أرسلتها إلى كيب تاون، فخالها قسيس هناك، سيتولى رعايتها لو احتاجت إلى هذه الرعاية. في كيب تاون تتعرف سيتسوتو على زميل لها في الجامعة، وفي قمة جبل شابمان يتفقان على الزواج. بعد التخرج عملت سيتسوتو في جوهانسبرج، ولكن الزواج يجعلها تترك العمل لتأتي إلى كيب تاون، عملت عامين، وابتسمت الحياة لابنة سو وي تو في كيب تاون. لكن سيتسوتو، حين أنجبت ابنتها الوحيدة أولو، لم تستطع أن تعودَ للعمل بعد إجازة الوضع، لقد درست الإعلام والصحافة في كيب تاون، لكنها لا تستطيع أن تلحق بعمل دائم. تحب الحياة في كيب تاون، لكنها لا تنسى أن لها أمًّا وشقيقة كبرى في جوهانسبرج. قالت لي سوتو: «أريدُ أن أضع حدًّا لرغبتي المتأرجحة بين العيش في كيب تاون والعودة إلى جوهانسبرج. هنا كل شيء جميل، لكن لا يستطيع زوجي وحده أن يغطي نفقات العائلة، وأنا بلا عمل دائم، بالرغم من سعيي اليومي بين الشركات التي تعمل في مجال تخصصي. أحيانا تكون هناك امرأة كسول بيضاء توكل لي بعض الأشغال التي تعجز عن إنجازها لأقوم بكتابتها، لأنها تكره الكتابة وربما لم تدرس بالرغم من أنها تشغل الوظيفة التي كنتُ أعملُ بها قبل أن أنجب أولو».

العثور على عمل في مجال الإعلام ليس هينا في ظل منافسة شرسة في مجتمع لايزال يحمل سمت الماضي. لا تكاد تشعر في كيب تاون أنك بجنوب أفريقيا. ليس هناك من أثر لمانديلا إلا في جزيرة روبن، وحديقة النباتات، حيث يزين تمثال نصفي له حوضا للزهور زاره حين كان رئيسًا للبلاد.

ذهبنا لرؤية عائلة سيتسوتو. في البيت شاهدنا ألبومي صور يقدمان حفلين لزفاف سيتسوتو، الأول حفل غربي أقامته عائلتها لها في سو وي تو بجوهانسبرج، أما الثاني فكان مراسم على طريقة الزولو والكوسا أشرفت عليه عائلتها الجديدة وأقيم في كيب تاون، بملابس تقليدية، لم تستطع خلاله العروس رفع عينيها من على الأرض إلا لتأكل طعام اللحم والأرز الذي أعدته لها حماتها، على عكس الحفل الغربي الذي بادلت فيه زوجها كولان القبلات علانية!

في إحدى الجولات قادتنا أقدامنا إلى أحد شواطئ كيب تاون. يبيع الصيادون السمك بالمزاد، ينادون بأعلى صوت، تكاد أصواتهم تمس أجنحة النوارس التي تحلق فوقهم. هناك التقيت ليز، أو إليزابيث، التي ولدت لعائلة من المستعمرين. التقيتها في سوق شاطئي تبيع الأشغال الفنية. قالت لي أعيش في كيب تاون، وأشعر بنفسي هنا، بالرغم من أنني ولدتُ في بريتوريا. أصمم بعض الصناعات، لكنني أعاني من سرقة الصينيين لأفكاري. يأتي أحدهم ومعه كاميرا، يلتقط صورًا، ثم يعود للسوق بعد فترة وقد أغرقه بتقليد للمنتج الذي ابتكرته. تناولت ليز قطعة من الفخار المصنوع باليد لبعض الأيقونات الجنوب أفريقية، ثم قارنتها بأخرى مصنوعة من المطاط. كان التقليد المطاطي بديعًا، وقد لا يكلف عُشْر تكلفة الصناعة اليدوية. لدهشتي قلتُ لها وأنا أتأمل أشغالها إنني اشتريت بعض الأكواب التي صممتها من مطار جوهانسبرج. قالت إن شقيقها يروج لمصنوعاتها محليا ودوليا. فهي لا تذهب إلى دجوبرج لأنها تشعر بأنها مدينة متعصبة. عالية الصراخ. حين عرفت أنني عربي قالت إنها ذهبت بمنتجاتها للمشاركة في معرض بمدينة دبي، والتقت هناك بسيدة مصرية، علمتها عبارة لاتزال تذكرها: «إن شاء الله».

هبت عاصفة شديدة كادت تطيح ببعض أغراض باعة المشغولات التقليدية المعروضة قبالة البحر، صرخت ليز في خادمة سوداء أن تنتبه كي لا يتحطم شيء. تبادلنا التحية مع ليز وانطلقنا على الرمال البيضاء وأنا أستعيد قصة سيتسوتو التي تبحث عن عمل في وطنها لتبقى بجوار ابنتها وزوجها فلا تجد، وقارنتها بقصة ليز التي تتنقل بحرية وكأن بشرتها البيضاء جناحان يعبران بها الخرائط بيسر. تساءلتُ؛ ألا تختصر قصة سيتسوتو وليز الحياة في كيب تاون؟

جوجوليتو ولانجا .. ضحايا وضاحيتان

بعد جولتنا في كيب تاون، لم تستطع سيتسوتو أن تخفي عنا رغبتها في أن نرى الجزء الآخر من كيب تاون. أرادت أن نرى جزءًا عزيزًا عليها. هكذا خرجنا من قلب المدينة إلى أطرافها عبرنا بين ضاحيتين هما جوجوليتو، ولانجا.

كان اليوم هو الأحد، وقد اعتاد المكان الذي يعيش به السود والملونون استقبال الجميع ـ من أنحاء كيب تاون - وخاصة يومي السبت والأحد - لتتحول الضاحية إلى كرنفال شعبي. ترتدي الفتيات أفضل ما لديهن. هناك طقس تجتمع حوله العائلة والأصدقاء حيث يتم شراء اللحم وشواؤه. وسط دخان الشواء يمكنك أن ترى وجوهًا من كل الأجناس، والأعمار. الكل يرقص، ويغني، ويشرب، ويأكل، وأصوات الأغاني في مسجلات السيارات تصدر ضجيجًا كبيرًا. قالت سيتسوتو: «إنهم يحاولون أن ينقلوا أجواء سو وي تو إلى هنا. صحيح أنني لا أحب أن آتي بشكل منتظم، لكن الحياة صاخبة هنا في حدها الأقصى».

في أحد بيوت جوجوليتو، ومعظمها من الصاج والخشب، التقينا بعائلة بسيطة، كان الفتى على عجلة من أمره للخروج، تبعناه فإذا به يتجه إلى كوخ من الصفيح يدير فيه صاحبه عدة ألعاب فيديو، انهمك الفتى مع صحبه في اللعب، والصراخ أمام الكاميرا. على مرمى البصر كانت هناك مقبرة جوجوليتو، وأعتقد أن الحياة البائسة لأهل الحي لا تبعد كثيرًا عن حياة القبور. وعدتهم الحكومة في إطار كأس العالم بأنهم جميعًا سيحظون ببيوت في 2010، ولكن كانت الأكواخ أكبر من عدد الب يوت التي استطاعت الحكومة استكمالها. قال رجل يشكو: «ربما ننتظر كأسًا أخرى للعالم حتى نسكن بيوتًا».

في مفترق الطرق الذي يفصل بين الضاحية والطريق العام عرفنا أن هذا الميدان هو الذي ولدت عنده شرارة المظاهرات في كيب تاون ضد نظام الفصل العنصري، وقبل أن نغادر الحي كان هناك نصب لسبع من الشباب قتلوا خلال إحدى تلك المظاهرات. الحياة في حي لانجا أفضل، فالأكواخ أقل، والبيوت على بؤسها أكثر. لكن الجريمة تشتعل وتلتهم نارها صبا وفتوة الأجيال الصغيرة. إنهم يبحثون عن عمل فلا يجدون، لذا يهربون إلى هنا ويروجون المخدرات، ويسرقون، تحت إمرة شبكات منظمة للجريمة. تذكرت بيوت الحي الذي سكناه في جوهانسبرج. كانت البيوت هنا لا تكشف عن مثل ذلك الخوف، لكنني عرفت السبب، فكل البيوت في كيب تاون تتمتع بأنظمة أمنية على مدار الساعة. شركات الحراسة تؤمن حماية إلكترونية للمنازل. كان الأمن الذي رأيناه خادعًا. كان الخوف مختبئًا خلف دوائر كهربائية مغلقة. إنه سجن كبير تتحكم به أزرار تدار بالكهرباء وأجهزة التحكم عن بُعد. ومرة أخرى رأينا الفوبيا خلف قناع اليوتوبيا.

كل الطرق تؤدي إلى روبن آيلاند

صف طويلٌ لا ترى نهايته. إنهم ركاب العبارة التي تتسع لمائتين وستة ركاب. بعد نحو 20 دقيقة توسط ثلاثتنا أنا وسليمان وسيتسوتو الركاب، وخضعنا معهم لتفتيش دقيق كأننا نصعد إلى متن طائرة تتجه إلى مطار أوربي.

انطلقت العبارة التي تحمل اسم «حريتي» بسرعة بالغة، لا تسبقنا سوى النوارس التي تحلق عند الأفق. بعد نصف ساعة أبطأت العبارة من حركتها، وتوقف الفيلم الذي تعرضه عن تاريخ الجزيرة. كنا قد وصلنا. لدهشتي كان على متن السفينة رجلٌ ملتح بصحبة سيدتين منقبتين، لا شك أن إحداهما زوجته، وقد تكون الأخرى ابنته. هل يقطع هؤلاء المسافة لزيارة الجزيرة وعالم سجن مانديلا. تبددت دهشتي حين عرفت أن الثلاثة ومعهم شخص آخر، كانت وجهتهم «كرامات»، وهو ضريح يضم رفات أحد الأولياء الذين يحظون بزيارة عشرات المسلمين على مدار الأسبوع. قبة الضريح الخضراء والمنارتان الضئيلتان اللتان تشبهان عمودين عند زاويتي المدخل تجعل المكان يشبه مسجدًا، وهو ما دعا الفتاة السمراء المرشدة لضيوف الجزيرة تصحح المعلومة لفرنسي اعتقد أن المكان مسجدٌ.

ألف طائر بطريق، ومائة وعشرون نوعًا من النباتات، وطريق واحد، ومدرسة بها أستاذان أحدهما ناظر المدرسة، وبضعة بيوت يسكنها نحو 200 شخص، وضريح لولي مسلم، وسجن، ومكتب بريد، ومستشفى، ومتجر وحيد. هذه هي معالم ومشاهد جزيرة آيلاند. لكن حكايات الذين جاءوها هي التي جعلتها إرثا عالميا.

قالت لنا المرشدة: «أرجو ألا يأخذ أحدٌ شيئًا من الجزيرة، ولو حصاة، فهي تراث عالمي ينبغي الحفاظ عليه كما هو. حين وقفنا ببوابة السجن تقدم منا رجل مدور الوجه، يرتدي نظارات طبية، وقميصًا وسروالا بني اللون، وحذاءً شديد اللمعان. عرفنا بنفسه. كان تاندومات أحد زملاء مانديلا في محبسه. كنا نقف مع شخص له حكايته الخاصة، مثلما كان شاهد عيان على أيام مانديلا في السجن.

«كنتُ في التاسعة عشرة حين انضممتُ لإحدى حركات المقاومة في سو وي تو. وقد عرفتُ أن درك الفصل العنصري يبحث عني، فهربتُ من البلاد بأوراق مزورة. خمس سنوات قضيتها بين ليسوتو وأنجولا وزيمبابوي، وحين عدتُ تم الإبلاغ عني، فقبضوا علي، وحوكمتُ لتهم ثلاث، الخروج بأوراق مزورة، والعودة للبلاد بأوراق مزورة، والانضمام إلى حركة محظورة. كانت فترة ما قبل المحاكمة جحيمًا. فعلوا بنا ما أعجز عن سرده. والأقسى أنهم أحضروا رفاقنا من الفتيات والنساء وأذاقوهن مر العذاب بألوان لا يسعني اليوم استعادتها. وحين حوكمت قضوا علي بالبقاء في روبن آيلاند سبع سنوات، وقادوني بسيارة مع آخرين مكبل اليدين من جوهانسبرج إلى كيب تاون (1393 كيلو مترا). ثم حملتنا القوارب إلى روبن آيلاند، حيث تم تسليمنا إلى محطة استقبال جردتنا من أسمائنا، وأصبحنا أرقامًا»، كان تاندومات يمسك بنموذج مُكبر لإحدى البطاقات. لم يكن فيها للشخص سوى بصمتي إبهامه، واسمه الذي ودعه ورقمه الذي سينادى به.

توقفتُ كثيرًا أمام زنزانة مانديلا، وكأنني أسمع صوته يتلو القصيدة التي ألهمته احتمال 26 سنة في زنزانة يكاد يلمس الواقف بها بيديه طرفي الجدار.

أعادتنا «الحرية» إلى شاطئ كيب تاون، مررنا في طريقنا لقلب المدينة بأحد قصور الرئاسة الذي يستقبل الرئيس زوما وزوجاته الثلاث. بدا أنه أكبر من جزيرة روبن آيلاند. ربما يحاول الجميع أن يعوضوا أنفسهم عن مرارة الأمس. لكن المرارة لاتزال باقية على الألسن والوجوه. تذكرت تاندومات. كان ذو الأربعة والعشرين ربيعًا قد تحول بعد سنوات السجن والحرية إلى مؤرخ. يستعيدُ الصور وهو يحدث نفسه أكثر مما يحدثنا: «هنا كنا ندرس. هنا كنا نقضي حاجتنا. هنا كنت مع الرفاق نكسر الأحجار خلال فترة الأشغال الشاقة. هنا كان المحتجزون في الحبس الانفرادي يعيشون فلا يكلمون أحدًا، ولا حتى حراسهم». كنتُ في دهشة من عودة تاندومات للعمل كمرشد في السجن الذي اقتطع سنواتٍ من حريته. ربما يكون ذلك سلامًا مع النفس. همست سيتسوتو بأن تاندومات يجد نفسه محظوظا لأنه أمَّن لنفسه عملا دائمًا. صحيح أن كثيرًأ من رفاق الزنازين بالأمس انضموا اليوم إلى الحكومة الجديدة، بمن فيهم الرئيس الحالي، يعقوب زوما، لكن من بين هؤلاء أيضا من لا يجدُ عملا.

يقاوم تاندومات فوبيا السجن الذي حرمه سنوات شبابه بيوتوبيا حرية التجول به كهلا. نتجه إلى المحيط ونأخذ نفسًا عميقا ونحن ننظر إلى السحاب الذي يبدو كخبز أبيض على صحفة جبل المائدة المستوية. وكان هناك سؤال لايزال يتردد في الهواء: هل انتصرت اليوتوبيا على الفوبيا في مانديلا لاند؟.

كان تاندومات أحد زملاء مانديلا في محبسه، يحكي لنا عن أيام مانديلا في السجن. وفي الفيلم الذي قام ببطولته مورجان فريمان نعرف أن قصيدة من الشعر ألهمت الزعيم الأفريقي ليقاوم، القصيدة كتبها الشاعر ويليام إرنست هينلي (1849 1903) وتقول كلماتها: من آخر الليل الذي يضعني في كفنه، كما لو كنت في هوة سحيقة، من قطب لآخر، أشكر الآلهة، التي وهبتني نفسًا لا تُقهر، حتى حين سقطتُ في قبضة الأسر، فلم أجفل، ولم أصرخ، رغم ما كان يعصف برأسي، حيث كنتُ أرى خارج هذا المكان، الغضب والدموع، يلوحان في الأفق، تحت رعب الظلال، لكنني بعد هذي السنين الطوال، لم أعد خائفا، ولا زلت أبحث، ولم يكن مهما كيف كان الباب ضيقا، كما لم يكن يعنيني كم كلفتني العقوبات، فأنا سيد قدري، وأنا قائد روحي.

 

 

أشرف أبو اليزيد
  




صورة الغلاف





هكذا تبدو جوهانسبرج من الطابق الخمسين في برج أفريقيا أعلى قمة في القارة السمراء، مكعبات أسمنتية، يخفي علوها الشاهق في حيها التجاري وجهها الآخر في حيها الفقير. من علٍ تبدو الصورة شاملة، لكنها ليست كاملة!





خريطة جنوب أفريقيا، وتمثال عملاق لمحررها نيلسون مانديلا، في ميدان يحمل اسمه بالحي الراقي في جوهانسبرج





أبطال الصورتين هم أبناء البلاد من السود، لكن الموقعين يختلفان، ففي ملاعب الجولف نشأت قوة جديدة من رجال الأعمال الأثرياء





في واجهة المكان تجلس لجنة تحدد العقوبات لمن يخالف أوامر الشرطة، والفتاة السمراء واجمة كأنها تبحث عن أحد أفراد عائلتها وراء التاريخ والأسوار والقيود





في متحف (Apartheid Museum) نعيش سنوات الفصل العنصري، تحمل البوابة صور مانديلا في وجوهه التي تصور سني عمره، وتعيد عمارة المكان ذكرى الحياة القاسية التي عاشها أبناء البلاد





في سوق السحرة والمشعوذين، لا تزال سطوة الغيبيات تحيا، هنا قردٌ محنط وهيكل عظمي لذئب. هناك جلد ثعبان وذيل لحيوان بري ورأس ثور منزوع العينين مع صخور ملونة وربطات أعشاب برية بجانب الكثير من المساحيق والعديد من الأواني البلاستيكية وزجاجات تحوي سوائل





هنا ستأتي زوجة تشكو من زوجها فتعد لها الساحرة ما يعيده إليها. وهناك سيأتي رجل ليشتري شيئا يجعل قلب رئيسه في العمل يلين له





في القرى الفولكلورية لا تزال القبائل ـ مثل أبناء قبيلة الزولو ـ تمارس حياتها التقليدية.. مشهد لعازف على الجيتار وسيدتين تصنعان الحلي التقليدية





قناع خشبي، خرج من طقسه الفني، إلى فضاء آخر حيث يفقد وظيفته الإثنية ليصبح ديكورا في منزل ما خارج الحدود!





ابتسامة شابة، لفتاة قبلية ترتدي عقدها الملون المصنوع من حبات الخرز





صورة تلخص المشهد، كانت استضافة كأس العالم مثل نقطة مضيئة في تاريخ القارة السمراء، كانت عقدًا ملونا في جيد فتاة جنوب أفريقيا، كانت رسوما طريفة على فوهتي المدخنتين في عاصمة الذهب والألماس، لكن الدخان لا يزال يعتمر في الصدور، بعد أن ذهبت ألوان القشور!





في السادس عشر من يونيو 1992 أزاح الدكتور نيلسون روليهلاهلا مانديلا الستار عن ذلك النصب التذكاري الذي يوثق انتفاضة الشباب في 16 يونيو 1976 ضد سلطات الفصل العنصري وراح ضحيتها الفتى هيكتور بترسون وصحبه. عن ذلك النصب لا تزال المياه تحمل اللون الأحمر





جبل المائدة، وهو يقف شامخا فوق مدينة كيب تاون العريقة، كما يبدو من سفينة (الحرية) التي أقلتنا إلى جزيرة روبن





النوارس ترحب بمرتادي شواطئ كيب تاون





الفرق الشعبية تعزف لمرتادي شواطئ كيب تاون في ميناء المدينة





مسجد في كيب تاون بتصميم غير تقليدي.. ضريح «كرامات»، الذي يضم رفات أحد الأولياء الذين يحظون بزيارة عشرات المسلمين على مدار الأسبوع، ويقع في جزيرة روبن آيلاند





لم تعد الوجوه التقليدية للقبائل الجنوب إفريقية إلا مجرد مشهد فولكلوري، مثل هذا الراقص والمغني والعازف على شاطئ كيب تاون





لم يكن هذا المشهد ممكنا قبل مانديلا، رسام أشقر يرسم وجهًا أسمر. لكن الحياة الحقيقية تستحق أكثر من مجرد بورتريه





كيب تاون، جنة خضراء للأغنياء فقط





فارق شاسع بين السفينة التي حملتنا إلى الجزيرة الشهيرة، التي سجن بها مانديلا ورفاقه، وبين المشهد الذي كان يمثل قدوم المعتقلين إليها





فارق شاسع بين السفينة التي حملتنا إلى الجزيرة الشهيرة، التي سجن بها مانديلا ورفاقه، وبين المشهد الذي كان يمثل قدوم المعتقلين إليها





كان تاندومات أحد زملاء مانديلا في محبسه، يحكي لنا عن أيام مانديلا في السجن





زنزانة مانديلا، هنا أمضى 26 سنة!





مورجان فريمان في دور مانديلا، رئيسا لجنوب أفريقيا، يتحدث إلى الممثل مات ديمون، في دور اللاعب فرنسوا بينار، في فيلم أخرجه كلينت إيستوود، باسم قصيدة هنلي (Invictus)