الشجاعة التي خرجت من عالم الصمت والظلام

إنها هيلين كيلر من أشهر النساء الرائدات في القرن العشرين، التي شكّلت حياتها قصةً ملهمةً للكثيرين في تجاوز العقبات وتحقيق الأهداف والإصرار على النجاح. 

وُلدت هيلين كيلر في 27 يونيو 1880 بولاية ألاباما الأمريكية، وبدأت حياتها بمأساةٍ منذ سنتها الثانية، حيث أطفأ المرض نور عينيها وأصمّ أذنيها لتعيش في عالم الظُلمة والصمت. لا تسمع ولا ترى. بدأت هيلين تتلمس الأشياء وأمّها تحملها أثناء قيامها بالأعمال المنزلية؛ وتستخدم الإشارات الأساسية، مثل نعم ولا، اذهب وتعال. وفي سن الخامسة بدأت ترتيب ملابسها الخاصة، وزادت حاجتها لمن يساعدها في التواصل مع الآخرين. وفي السادسة، وصلت الآنسة آن سوليفان، المعلّمة بمعهد بيركنز للمكفوفين لرعايتها، وغمرتها بالعطف والمحبة، ولازمتها خمسين عاماً. 

كان أول شيء فعلته المعلّمة الشابة اصطحابها إلى مضخة مياه، وعندما لامست الماء، كتبت في يدها كلمة "ماء". وأهدتها دمية وأخذت تتهجّى معها كلمة "دمية" بأصابعها، وهكذا أخذت تتعلّم الأسماء والأفعال. وحين خلطت بين كلمة كبير وصغير، أحضرت لها دمية كبيرة لتقارنها بالصغيرة فتدرك الفرق بينهما. وحين خلطت بين كلمتي ماء وإبريق، قادتها إلى بئر صغيرة يتدفق منها الماء البارد لتتحسّسه فتدرك معناه وتميّزه عن كلمة إبريق. 
كل الأطفال يتعلمون اللغة أولًا ممّا يسمعونه، وينطقون الكلمات كما سمعوها، أما الأصمّ فكيف ينطق بشيء لم يسمعه؟ حتى كلمة "حب"، اكتشفتها حين أحضرت لمعلّمتها بعض الأزهار، فطوّقتها بذراعيها وكتبت في يدها: "أنا أحب هيلين". فسألتها: وما معنى الحب؟ فضمّتها بحنانٍ أكبر ووضعت يدها على قلبها قائلةً: "إنه هنا". فعادت تسألها ثانيةً: "هل الحب هو جمال الزهور؟ فقالت: لا؛ فأشارت ناحية الشمس حيث يأتي دفء أشعتها، فقالت: "لا.. إنك لا تستطيعين أن تلمسي الحب يا هيلين، إنّما تشعرين به. وبدون الحب لا تكونين سعيدة". 
وهكذا بدأت تتعلّم أسماء الأشياء وتتحسّسها بيدها، فتزداد معرفتها بالعالم الخارجي. وفي الربيع قادتها إلى الحقول للتعرّف على الأزهار وروائحها، والأشجار وثمارها، والطيور وأعشاشها، فزاد ابتهاجها بالعالم حولها. وتخرج معها للغابة لتتعلّم من الطبيعة، فتحفر وتشكّل الطين وتصنع مجرى للماء كالنهر، أو تجسّم ما يشبه الجبال والوديان لتُدخِلَها عالم الجغرافيا.

لغة برايل والكتب
الخطوة التالية كانت تعلّم القراءة عن طريق الحروف البارزة، حيث انتقلت في سن الثامنة إلى "معهد بيركنز" لتتعلّم "لغة بريل" الخاصة بالمكفوفين، والتي فتحت لها الطريق لعالم الكتب، فأخذت تقرأ كل ما يصل إلى يديها، فكانت القراءة مصباحاً أضاء عالمها المظلم. وكتبت تقول: "كانت حلقة أصدقائي (الكتب) تنمو وتزداد كلما تقدّم بي العمر. فمن القصص البسيطة، انتقلت إلى مؤلفات الكتّاب الكبار مثل شكسبير، وتعرّفت على تاريخ اليونان والمسرحيات وكتب التاريخ". 

النطق ولغة الشفاه
عندما بلغت الرابعة عشرة، قرأت قصة فتاةٍ نرويجيةٍ من فئة الصم، فامتلأت بالأمل بإمكانية تعلّمها النطق. والتحقت بمدرسة الصمّ في نيويورك لمدة سنتين، وتعلّمت أحدث طرق تدريب الصم على النطق وقراءة الشفاه. واكتشفت أن التكلّم أسهل من لغة الأصابع، فبدأت تتحرّر من سجن الصمت المطبق. ظلت هيلين تتنقل بين معاهد العلم في مدنٍ مختلفة، تدفعها همةٌ عاليةٌ وطموحٌ بلا حدود. فقد درست الحساب والجغرافيا، وتعلّمت اللغات الفرنسية والألمانية واليونانية واللاتينية. لم تكن تفكّر فقط بتجاوز إعاقتها، بل بمنافسة المبصرات والسامعات. 

كفيفة خريجة هارفرد 
كانت تدرك أن الآخرين يحصلون على معرفتهم بطريقة طبيعية، عن طريق العين والأذن، أمّا هي فتعتمد على القراءة عن طريق شخص وسيط. وكان من العقبات عدم توافر الكتب المقرّرة بلغة "بريل"، ومع ذلك انهمكت في الدراسة وأدّت الامتحان في غرفةٍ خاصة، مستخدمةً آلةً كاتبةً بلغة بريل، وتمكّنت من النجاح الذي أهّلها لدخول كلية رادكليف عام 1900، وتخرّجت بامتياز عام 1904 لتكون أول خريجة كفيفة صمّاء في جامعة هارفارد. 

عاشت هيلين حياةً مليئةً بالنشاط، فنشرت مئات المقالات في الصحف والمجلات، وألّفت عدة كتب من وحي تجربتها الذاتية، مثل "قصة حياتي"، "التفاؤل"، "العالم الذي أعيش فيه"، و"الباب المفتوح". وقامت بجولاتٍ حول العالم كسفيرة للصم والمكفوفين، وألقت الخطب في المنتديات، والتقت عدداً من الرؤساء والمشهورين والكتّاب، وألهمت الكثير من الناس. وتوفيت كيلر في الأول من يونيو 1968، عن 88 سنةً مزدهرةً بالتحديات والنجاحات.