ذكريات فنية وغير فنية في بيروت وباريس

ذكريات فنية وغير فنية في بيروت وباريس

ركبت على ظهر الباخرة «ليديا» في أول رحلة لي إلى باريس، وبما أن باريس ليست على البحر المتوسط، فقد نزلت عن ظهر «ليديا» في مرفأ مرسيليا، وليديا هذه باخرة يونانية وصلت إلى مرفأ أثينا، أي إلى «بيريه» Piree متهالكة، على آخر نفس، ولن أتابع قصتي مع ليديا، لأنها قصة طويلة، عدت إلى بيروت بعد سنة بعد أن فرغت جيوبي من الفرنكات وهي لم تمتلئ مرة.

استقبلني أهلي على المرفأ، وعدت معهم إلى البيت، وكنت أنظر إلى الشارع، إلى الطريق، إلى الناس كأني أرى بيروت لأول مرة، وكان في نظري كل شيء صغير الحجم، كرسوم المنمنمات، الناس أحجامها صغيرة والسيارات كالقطط والمباني كالعلب.

في اليوم التالي، نزلت إلى المدينة.. أو «البرج»، الذي اسمه أيضًا ساحة الشهداء، ساحة الحرية، وأخيرًا الـ«داون تاون». المهم أني نزلت إلى المدينة، وإن اختفت الآن ولم يبق منها سوى «داون - تاون» هذا الاسم الذي بدأ يتحوّل إلى «دانتان» أو «طنطان» أو «دطّان»، وبما أن بيروت أصبحت ملاذًا لكل سائق سيارة، ومن منطقة مختلفة من الشمال إلى الجنوب وما بينهما «كامخ»، وبما أن اللهجات تختلف من منطقة إلى منطقة، أصبح «الداون تاون» يتغيّر لفظها من لسان إلى لسان. أنا أرفض كل هذه الأسماء البشعة وأقول إنني «نازل إلى المدينة»، وهل هناك أجمل من كلمة المدينة؟ لا تقل إني متعصب لكلمة «المدينة» لأني منها.. وإن كنت لا تصدّق، فلا تصدّق، وإن أصررت على أني متعصّب للمدينة، فأنت على حق الآن، أنا متعصّب للمدينة في هذه الأيام، ومتعصّب لكل مدينة، كل مدن العالم مدني، هذا لا يعني أني لا أحب الريف، الجبل، السهل، السحاب، الأحباب، الشقراوات، السمراوات، الحبيبات.. كلها مخلوقات، أحب الخليقة، أنا هنا على أرض لا يحبّها أهلها، يدعسونها بأرجل بذيئة، كلها.. رجل الإنسان تمثّل صاحبها، قل لي كيف تدعس أقل لك مَن أنت، أنت يا قليل الذّوق، يا مَن يدعس على زهرة ولا يحيد رجله عنها، هو لا يريد أن يرى، إنه لا يرى، هو ينظر لكنه لا يرى، ويسمع ولا ينصت، كالرّسام العاطل والموسيقي ذي الأذنين الكبيرتين وليس فيهما إلا النشاز.

في مقهى الزجاج

سرت في أنحاء البرج، ساحة الشهداء، دخلت الأسواق، سوق النورية، سوق أبو النصر، السوق العمومي، ولم يكن قد استيقظ بعد، ثم عدت من حيث أتيت، قرب «مقهى الزجاج» الذي أعتبره مدرستي الأولى في الرسم، جلست، لمحني جورج وهو النادل في ذلك المقهى، دون أي سؤال عن غيابي أو أي شيء، أنا بالنسبة إليه لم أتغيّب عن المقهى، أنا أحب جورج، لقد دافع عنّي مرّة، لن أذكر الآن سبب دفاعه، ليس خجلاً، لا أدري لعلّي أخجل من نفسي عندما أذكر هذه الحادثة، سألني جورج: كازوزة؟ أم قهوة؟ قلت كازوزة! شربت الكازوزة، وجلست على الطاولة نفسها حيث كنت أجلس، وللمرة الأولى لا أحمل فيها أوراقًا ولا أقلامًا، جلست أقارن بين مقهى «بونابرت» في باريس ومقهى الزجاج في بيروت، قلت إن لكل مقهى شخصية مختلفة ورائحة خاصة، لباريس رائحة خاصة، لا أقول إنها عطر بل رائحة خاصة، ولبيروت رائحتها، أما مقهى الزجاج، فيا ساتر على الرائحة التي تطوف في أجواء المقهى خارجة من أبواب «بيوت الخلاء» التي إذا دخلت مرغمًا فيها لقضاء الحاجة، فإنك تخرج وعلامات حذائك تنطبع على أرض المقهى.. إلى آخره.

الحق الحق أقول لكم ياأصدقائي، إن لأجواء مقهى الزجاج سحرًا وغنى يحفز على الرسم والتلوين والكتابة والمسرح.. قلت المسرح؟ نعم!

سنة صعبة جدًا

للتكلّم عن المسرح عليّ أن أعود إلى باريس وإلى عام 1958، السنة الأولى لي في باريس، وكانت صعبة عليّ هذه السنة، إن قلت سنة صعبة هذا لا يكفي، فلأزد عليها جدًا وتصبح سنة صعبة جدًا بكل معنى الجدّ، ويطرأ على رأسي جملة من جدّ وجد، لكني لم أكن أجد في جيوبي فرنكًا فرنسيًا لأيام عدة، الآن لا أدري كيف عشتها تلك الأيام، وكيف أني أسرّ عندما أتذكّرها، الذكريات التعيسة مضت وبقيت ذكريات غنية، تختلط فيها ذكريات عاطفية، وفنية، واكتشافية، وشخصية، شخصية لأني اكتشفت أكثر نفسي، ذاتي، وبعض ذاتي، هذا البعض الذي كنت أبحث عنه في بيروت ولم أجده إلا في باريس، لعل مَن يسمعني الآن يعرف أن ما أقصده هو الجفاف الثقافي والفني الذي كان في بيروت، والأجواء الفنية التي لقيتها في صالات العرض الباريسية وفي المتاحف كانت تهمس لي بأني الآن في المدينة المناسبة لي، لا، لم أقل إني لا أحب بيروت، السيدة بيروت، لكن قلبي كان يستطيع أن يحبّ سيّدتين في وقت واحد، هذا عندما وجدت أن لكل حبيبة جمالها وغناها، وإن كانت بيروت ثقافيًا وفنيًا فقيرة في ذلك الوت، فالحب - كما يقال - أعمى، لم أجد فقط صالات العرض والمتاحف في باريس، وجدت فيها كل العالم الثقافي والفكري والأدبي والمسرحي، وجدت فيها السينما العالمية، أحببت أفلام السويدي «انغمار برغمن»، ليس لأني عشقت فتاة سويدية في هذه المرحلة، والعشق دام إلى أن تحوّل إلى صداقة ثم تبخّر وصار سحابًا رماديًا كسماء باريس التي توقع الإنسان بالحب، وتغرقه في بحره، ثم تنتشله وترميه في حدائقها وحيدًا.

بيروت الصور والقصص

عندما كنت أشتاق إلى جو بيروت، أول ما أتذكّره هو مسرح فاروق، وطبعًا مقهى الزجاج، ومقهى أبو عفيف، وملهى الباريزيانا، والبرج عند الساعة السادسة مساءً، وصباحًا أيضًا، ونزهتي التي كانت من مقهى الزجاج إلى باب إدريس، إلى جادة الفرنسيين، إلى مقهى الحاج داوود، هذه كانت بيروتي، بيروت الصور والقصص، حيث أتنقّل، بل أسافر مرارًا من محطة الناصرة (سوديكو اليوم) إلى المنارة، أو من محطة الحرج إلى شارع غوش أو إلى الدورة.

ذكرت مسرح «فاروق» كيف لا أذكره وهو مازال عالقًا في رأسي ومخيّلتي؟ قرأت ورأيت وداومت على الذهاب إلى المسرح في باريس، وخصوصًا مسرح «الأوديون» وغيره. في ذلك الوقت كان التعبير الفني الحديث مواجهًا للتعبير الكلاسيكي، كما كان في الرسم والتلوين والموسيقى وفي الشعر. بالنسبة للكتابة، فقد كنت أشرك رسمي بجمل وبقصص تأتي مع خطوط الرسم دون أن أعتبر نفسي رسامًا أحرفيًا، ككثيرين في ذلك الزمن، حيث ينادي فنانون أكثرهم عراقيون ومن بعدهم مصريون، كانوا ينادون بالعودة إلى التراث، مختارين طريق «الأحرفية» مستعملين في لوحاتهم أحرفًا عربية، هكذا رأوا التراث.. يا حرام!

كنت أرى في مسرحيات مسرح فاروق، التي كان تعتبر بدائية، أميّة، شعبية، إلى آخره، صفات يعطيها عباقرة المسرح في لبنان، وكنت أنا عكسهم أرى فيه مسرحًا حديثًا بامتياز، لهذا، فالمسرح اليوم متعثّر، ومن المؤسف أن شوشو قد توفي باكرًا، والحرب هدمت مسرح فاروق، وبعثرت ممثليه وممثلاته.

بين المسرح والسينما

المسرح كما أراه يضم ممثلات وممثلين وناسًا هم روّاد المسرح، كلهم يخلقون المسرحية المقدمة، الممثلون يلعبون والناس تتفرّج، السهرة تنجح إذا ساهم الجميع في إنجاحها، وتسقط المسرحية إذا تفرّد الممثلون في أدائها، جمال المسرح أنه متبدّل من يوم إلى يوم مع لعب المسرحية نفسها، دور الممثل كبير، كذلك جمهور المسرح، فهو - أي المسرح - شفّاف وعميق، بينما تكون شاشة السينما مغلقة، لا حوار بينها وبين الجمهور، هي تظهر الممثلين في حفلاتها اليومية دون تغيّر ودون ردّة الفعل الموجودة في المسرح الذي لا يفصل الممثلين عن الجمهور الذي يتفاعل مع الممثل ويكمّل أدوراه، ويخلق يوميًا، وفي كل حفلة لونًا جديدًا زائدًا إلى المسرحية، حوار الجمهور مع المسرح هو دائم، حوار سلبي أو إيجابي، هذا ما يجعل المسرح حيًا، يتنفس من رئة الممثل ورئة الجمهور.

كنت أرى هذا في «مسرح فاروق» الذي كان معتبرًا من شباب المسرح «المثقف» مسرحًا شعبيًا بدائيًا، أنا لم أكن في المسارح الشعبية الإنجليزية حيث وُلدت مسرحيات شكسبير، لم أكن هناك لأني لم أكن مولودًا بعد، لكني حضرت بعض شوشو وبعض مسرح فاروق، ورأيت التفاعل الذي كان يحصل بين الممثلات والممثلين، وبين الجمهور وأنا منهم.

في تلك المرحلة، ظهرت «مدارس» و«حركات» مسرحية في بيروت تحمل أسماء مثل: «المسرح الشعبي، ومسرح الحكواتي، والمسرح الملتزم، ومسرح برخت، ومسرح البولفار»، ومسرح لست أدري ماذا أيضًا، وكانت تزداد الأسماء يومًا بعد يوم، مع ازدياد «وجهات نظر» بـ«المسرح اللبناني»، ثم إن هناك مسرحيات غنائية موسيقية استعراضية تحمل عناوين وأسماء كبيرة وتاريخية هي أقوى وأشد وقعًا على الناس من محتوى المسرح الاستعراضي الغنائي الحامل عنوانًا ضخمًا، تاريخيًا، أسطوريًا إلى آخره، وكثيرًا ما تكون ألوان الثياب والأقمشة الثمينة اللمّاعة، وجمال الراقصات هي الممثل الأول في المسرح الاستعراضي، الممثل الناجح بألوانه وأشكاله، وليس بشيء أو بسبب آخر.

في انتظار جودو

لابد من القول إن الحالة الثقافية والفنية قد ضعفت عمّا كانت عليه في ستينيات القرن العشرين، وهذا في العالم، لكن القسم الضعيف أو الساقط منها يواجهه قسم عالٍ جدًا، أما عندنا، فأنا أبحث عن قسم عالٍ من الثقافة، إلى الآن لم أجده، لابد أن القسم العالي المفقود، لابد أن يصل.. أن يوجد.. متى؟ نحن ننتظر منذ سنين، لابأس فنحن معتادون على انتظار «جودو».

 

 

أمين الباشا
  




وسط بيروت أو الداون تاون كما يسميه الكاتب في الستينات





 





 





بعد عودتي من باريس سرت في انحاء البرج.. دخلت الأسواق وعدت إلى المقاهي





قريبًا من مسرح بيكاديللي





مقهى بونابارت في باريس يذكرني دائما بمقهى الزجاج في بيروت