قراءة في ماهية العمارة
إذا أردنا التفكير في العمارة علينا أن نفكر بصورة عميقة، لأنها ليست بنايات تشيد فقط، بل مكان نعيش فيه ويعيش فينا، نتفاعل معه ويتفاعل معنا، هذا ما ولد علمين مهمّين هما علم الاجتماع المعماري وعلم النفس المعماري، فالأول يبحث في علاقة الإنسان بالمكان وتفاعله معه ومدى ملاءمة هذا المكان للأفراد والمجتمع، والثاني علم يبحث في كيفية تأثير المكان في الإنسان وتأثير الإنسان في المكان، وهو ما مهّد له تفاعلات الإنسان مع جماليات العمارة، فالعمارة التي تبعث على البهجة ليس بزخارفها لكن بقدرتها على جذب النفس الإنسانية لها هي العمارة التي تجعل الإنسان يرتبط بالمكان وبعث قيَم أخلاقية واجتماعية وجمالية، ليندمج الإنسان مع المكان إلى درجة إحساسه بالغربة حين يترك هذا المكان، فمنزلك الذي تعيش فيه إما أن تندمج معه أو لا، ولذا فتصميم المكان يلعب دورًا في هذا، وإذا تركت منزلك ذا الألفة معك فأنت تشعر بالاغتراب.
المعماريون يبنون أشياءً لها معنى محدد متجسد فيها ويعتمد على الثقافة التي تفسر المعنى، فمثلًا عبر فقه العمران نستطيع أن نقرأ العمارة الإسلامية فهو علم يقدم القواعد التي صاغت البيئة المعمارية في الحضارة الإسلامية، وفي الغرب صاغت العمارة في عصرنا فلسفة ما بعد الحداثة، حتى رأينا تماهي أبراج نيويورك مع الرأسمالية المتوحشة، وفي اليابان مازالت منظومات القيم اليابانية تعطي المنزل الياباني تصميمه خاصة في غرف تناول الطعام، لكن ما أفقد العمارة معناها لوكوربوزيه المعماري السويسري (1887-1965م) الذي مهد للتصميم المعماري بالجملة أي قولبة العمارة في شكل إنتاجي متتالي متشابه يفقدها معناها فيصبح البصر فاقدًا الشعور بالمكان وتميزه، فالمدن كالإنسان تمل من المشي في شوارعها إذا تشابهت، هذا ما يفسر الإقبال في العقود الأخيرة على السياحة في المناطق الصحراوية والغابات بعيدًا عن مدن فقدت عمارتها المعنى الذي تعطيه للإنسان.
إن الظاهر من العمارة بداخله باطنًا يحمل موروثات تعبر عن كل مجتمع، ولأن كل بيئة تعطي للعمارة مواد كان يبنى بها بطريقة تعطي العمارة انسجامًا مع البيئة، فإننا ذهبنا إلى الاعتماد على الكتل الخرسانية والألمنيوم والزجاج في مدن عديدة عبر العالم، بغض النظر عن ملاءمة هذه المواد لبعض البيئات، وارتفاع تكلفة المباني المنشأة بها، فأصبحنا نفتقد سحر المكان وخصوصيته وبات تقليد ناطحات السحاب الأمريكية كرمز للرفاهية هاجس العديد من المدن، لكن حتى في التخطيط العمراني فقد المشاة قدرتهم على الصداقة مع شوراع المدن، في الوقت الذي تشكل فيه لافتات الإعلانات بأضوائها المستهلكة للكهرباء تشويه لجماليات المدن، فإنه أيضًا امتدادات الشوراع تجعل سرعات السيارات والحوادث عاملاً سلبيًا وضد الإنسان، في الوقت الذي أثبتت فيه التجارب أنه يمكن التخلص من إشارات المرور وحوادث الطرق داخل المدن بإحداث منحنى كل 60 أو 80 مترًا، الشارع هو مفتاح العمارة فهو يمثل شبكة الربط بين الإنسان والبنايات المعمارية فشبكة الطرق تسهل السير والوصول إلى مناطق الخدمات والتسوق والترفية.
لذا تسعى العديد من الاتجاهات الجديدة في التخطيط العمراني والعمارة إلى مزج القديم من طرز العمارة مع أفضل ما في الجديد لكي نستعيد إنسانيتنا وعلاقتنا بالطبيعة، وهو ما سيولد شعورًا حقيقيًا بالفخر المشترك بالمكان، هذا الاتجاه يقوده ويحفزه الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا الذي يرعى عبر مؤسساته هذا الاتجاه، الذي يقوم على أن العمارة لغة علينا الالتزام بقواعدها النحوية، وإلا سيكون هناك ثمة تنافر في المعنى، والمعنى هنا هو التعبير الذي تقدمه العمارة للبصر، فيدرك جماليات وقيم العمارة، من هنا يجب مراعاة ما يلي في العمارة:
- المقياس الإنساني للعمارة هو أحد أهداف هذا الاتجاه فالنسب البشرية لابد أن تتوافق معها أحجام المباني، والعناصر الأخرى المحيطة بها.
- الانسجام بين كافة عناصر ووحدات البناية، والبنايات المجاورة وهذا لا يعني التكرار، فالتنوع في التصميمات المعمارية على امتداد البصر يتماهى مع الطبيعة التي تعطينا بتنوعها مثلاً خلاقًا على الجمال والانسجام بين مختلف المكونات، لكن يجب أن تكون هناك مشتركات تمثل خط الانسجام، من خلال التفاصيل، مثل الأبواب، الشرفات، والأفاريز.
الفراغات بين البنايات مساحات للإنسان، فهي فضلاً عن كونها تحتوي البناية فهي تعطي لها بعدًا بصريًا، وتعطي شعورًا بالأمان وتحفيزًا على المشي، فالمتعة البصرية للعمارة محفزة على التجول والتأمل والتفكير.
هذا ما يقودنا إلى العمارة في المنطقة العربية التي شهدت طفرات كبيرة في العقود الماضية، كما برز عدد من المعماريين العرب بدءًا من حسن فتحي الذي حاز شهرة دولية، والمعماري العراقي رفعة الجادرجي والمعماري العراقي محمد مكية، والمعماري الأردني راسم بدران، وفوز العديد من المنشآت في المنطقة العربية بجوائز دولية، ومحاولات عديدة لاستعادة التراث العمراني في صيغة معاصرة، لكن مستقبل العمارة في الوطن العربي تعوقه العديد من المشكلات، أبرزها غياب مدارس للنقد المعماري في الجامعات العربية، فهذا النقد هو ما يعلّم الأجيال الجديدة من المعماريين تذوق العمارة، وهو يوازي النقد الأدبي للشعر والرواية، فهو كالشعاع على الماسة الذي يكشف جمالها، فكذلك النقد المعماري يكشف جمال المبنى أو قبحه، مدى ملاءمته للاستخدام من عدمه، وغيرها من النقاط، الجانب الآخر هو قصور مناهج تاريخ العمارة في أقسام العمارة فهي تركز على العمارة الغربية وتدرس بصورة مبتسرة، لذا مثلاً سقط من مناهج تاريخ العمارة في اليمن والتي تمثل مخزونًا تراثيًا مملوءًا بالابتكارات، كما جرى تجاهل تدريس فقه العمران الذي صاغ العمارة والبيئة العمرانية وهو ما سبب نقصًا في فهم ماهية العمارة الإسلامية، من هنا فإن تدريس فلسفة العمارة غائب في الجامعات العربية، مما أدى إلى عدم صياغة نظريات عربية معاصرة للعمارة وبالتالي لدينا أجيال من المعماريين، نعم... لكن لا يوجد لدينا على الجانب الآخر مبدعون ينتجون عمارة ■