هولندا التاريخ يتعطر بالزهور

هولندا التاريخ يتعطر بالزهور

إلى بلد الطواحين... هولندا، حيث التاريخ يتعطر بالزهور. إن ما يحدث في هذا البلد الصغير الذي لا تتجاوز مساحته 42 ألف كيلومتر مربع، أمر محير، فهي تنتج كل عام 2 مليار زهرة، ما يقارب 60 في المئة من الإنتاج العالمي، وجعلت من الاستمتاع بهذه الزهور، حدثًا لا يقتصر على فصل الربيع، بل لكل فصل هناك حقول مختلفة وزهور خاصة. بدأت هولندا حكايتها مع الزهور منذ 500 عام، وعلى الرغم من التحديات الكبرى وخطر الفيضانات والأراضي المنخفضة تمكنت من جعل زراعة الزهور تجارة ضخمة تقود بها العالم. 

 

منذ هبوط الطائرة على مدرج مطار شيفول في أمستردام، والنظرة الأولى تؤكد أن هولندا هي بالفعل أرض الزهور. مراعٍ خضراء وحقول متناثرة على الطريق، وزهور ملوّنة لا نهاية لها من الزنبق والتوليب والزعفران والخزامى والنرجس.
يقول الهولنديون: «خلق الله الأرض، لكن نحن من صنع هولندا»، حيث كان من الممكن أن يجرف البحر الأرض لو لم يتمكن الهولنديون من صنع السدود والقنوات المائية الدفاعية لحماية أراضيهم. فالأراضي الهولندية يقع نصفها إما تحت مستوى سطح البحر أو أقل من 3 أقدام فوق مستوى سطح بحر الشمال، وأكبر ثلاث مدن هي (أمستردام، روتردام، لاهاي)، تقع جميعها في هذه المناطق، لهذا السبب يطلق على هولندا «Netherlands» أي «الأراضي المنخفضة». على مر السنين، قام الهولنديون ببناء سلسلة من القنوات المائية المتعرجة ومحطات الضخ للحفاظ على منسوب مياه البحر وسدود تقدر مساحتها بأكثر من (2400 كيلومتر). هناك أيضًا طريقة أخرى اتّبعها الهولنديون، وهي عبر الطواحين الخشبية المنتشرة في مدن هولندا، والتي تعمل منذ 600 عام وحتى الآن على تجفيف المستنقعات. 
احترنا من أين نبدأ، فكل ركن وشارع في أمستردام ينطق سحرًا. المختلف في العاصمة الهولندية (أمستردام) عن باقي العواصم الأوربية هي الحياة اليومية البسيطة المتحركة ليلًا ونهارًا. هنا يفضل السكان استخدام الدراجات الهوائية للتنقل بين شوارعها المتعرجة. 
يبلغ عدد الدراجات ثلاثة أضعاف عدد السيارات. لذا قررنا خوض هذه التجربة وتأجير دراجات للتنقل بين شوارع أمستردام. 
لم نشعر بالتعب أثناء التجوال في شوارعها صعودًا ونزولًا، ويقال إن أمستردام مدينة وجدت لركوب الدراجات، هنا تتقاطع حركة الشوارع مع القنوات المائية والمحلات والمقاهي المنتشرة في الأحياء المرصوفة بالحجارة والمحاطة بها أبنية تتنافس في استعراض بهاء تاريخها المتشابك بحاضرها. سحر المدينة أدخلني في دهشة لم تتوقف.
يوجد في أمستردام قنوات مائية أكثر من البندقية الإيطالية، تقريبًا 165 قناة، بينما في البندقية 150 قناة. هذه الممرات المائية الرائعة لا تقتصر على أمستردام فقط بل في الكثير من المدن الهولندية. فقد كان الهولنديون لعقود طويلة يحفرون قنوات للنقل والري والصرف، كما كانت القنوات الخارجية حول المدينة بمنزلة خط دفاع أثناء الحروب. 
تُعرف هولندا ببلد الطواحين الهوائية والقنوات المائية والأجبان اللذيذة، ولكن مع وصول زهرة التوليب في القرن السابع عشر إلى الأراضي الهولندية جلبت معها لونًا وصناعة جديدة.
تعتبر أمستردام نقطة انطلاق رائعة لأي شخص يسعى لاستكشاف عجائب الأزهار. صادفنا في طريقنا سوق بلومينماركت وهو سوق عائم للزهور يقع على قناة سينجل. هنا توجد مجموعة كبيرة ومنوعة من الزهور والبذور بأسعار زهيدة، ويقدم المزارعون والبائعون النصائح لطرق زراعتها. لم نفوّت الفرصة لشراء أنواع مختلفة من البذور لزراعتها في حديقة المنزل بعد عودتنا. مشهد السوق والأزهار الملونة المنعكسة على مياه القناة شيء يصعب وصفه.

الزهور تعشق هولندا 
تقع في العاصمة الهولندية أمستردام أكثر حقول الزهور شهرة، توجد أيضًا حقول رائعة في الجزء العلوي من مقاطعة شمال هولندا، وفي قسم من مقاطعة فليفولاند، المكان الذي تزهر فيه زهور الزعفران والنرجس والزنابق من نهاية شهر مارس وحتى نهاية شهر مايو. وفي الصيف، تبدأ زهور الداليا، والقرنفل، وزهور النجمة بالظهور. بمعنى أن السياح يمكنهم الاستمتاع بالزهور طوال العام وفي أي مدينة من مدن هولندا. 
في جنوب أمستردام تقع أهم هذه الحقول. ومع اقتراب موسم أزهار التوليب من ذروته تقدم الكثير من المؤسسات في هولندا رحلات جماعية منظمة للسياح والمهتمين لزيارة هذه الحقول. 
ذهبنا مع ساعات الصباح الأولى إلى مؤسسة «توليب إكسبيرينس أمستردام» التي تقدم رحلات استكشافية إلى حدائق كيوكينهوف مع خبراء للزهور، للتعرف على كلّ ما يتعلّق بهذه الأزهار، بدءًا من جذورها وصولًا إلى عملية الزراعة والحصاد الحديثة. وبالطبع ستتيح لنا هذه الرحلة التمتع بفترات طويلة من السكينة والهدوء لتأمّل جمال الطبيعة.

حدائق كيوكينهوف
عند وصولنا للمكان وجدنا أنفسنا محاطين ببحر من الأزهار المتمايلة بين أحضان الطبيعة. لغز الجمال فيها محير على مَن اعتاد العيش في صخب المدينة. يتفتّح هنا في هذه الحديقة أكثر من 7 ملايين نبتة من 800 صنف مختلف. أفضل الأوقات للتجول في هذا المكان هو من منتصف شهر مارس وحتى شهر مايو. حدائق فسيحة ملونة، تحتضن أصنافًا نادرة. تبلغ مساحة الحدائق 32 هكتارًا. وتحتوي على سوق للبذور ومشاتل تباع فيها المنتجات الطازجة والهدايا التذكارية، بالإضافة إلى متحف به سينما ليتعرف الزوّار على قصة الزهور من وجهة نظر الفلاحين، وعرض التقنيات الحديثة والآلات الزراعية التي يعود تاريخها إلى عقود طويلة.
هناك مسارات للمشي لمسافات طويلة يبلغ طولها (15 كم). أثناء سيرنا شاهدنا عروض الزهور الفريدة والبرك الجميلة مع العديد من أماكن للاستراحة والمطاعم والمقاهي، بالإضافة إلى أنها تحتوي على عدد كبير من التماثيل صنعها فنانون هولنديون. تستقبل هذه الحديقة أكثر من 1.5 مليون سنويًا من جميع أنحاء العالم. المكان ساحر لالتقاط أجمل الصور التذكارية. 

بحر الشمال
السبب وراء ازدهار الزهور هنا أكثر من جنوب هولندا، كما قال لي قائد الرحلة، هو المناخ المناسب الذي يمزج بين حموضة الرمال وهواء البحر الرطب والمياه المالحة. وهذا هو المناخ الذي تفضله معظم البصيلات المزهرة الربيعية مثل التوليب. 
يقوم الهولنديون بالكثير من الأبحاث والدراسات بشكل مستمر. قال لي أحد المزارعين والمستثمرين في صناعة الورد: «نتشارك نحن كمزارعين المعرفة والخبرة باستمرار، ونضع الحلول المناسبة للمشكلات التي تعترضنا. ومن أهم مشكلاتنا حاليًا هي مشكلة الحشرات، منها تريبس، الحشرة البيضاء ذات الأجنحة الخشنة التي يُخشى منها بشدة، وهي العدو الأول للأزهار. وقد تم استخدام طرق جذرية لمكافحتها في الماضي عن طريق المواد الكيميائية، ولكن اليوم يتم استخدام عصير بعض النباتات لقتل الحشرات بدلًا منها». ويقول أيضًا إن المزارعين يستخدمون كلاب التتبع في تجربة جديدة لمكافحة الفطريات غير المرئية في زهرة الأماريليس، وهي زهرة مشهورة جدًا هنا في هولندا وغالية الثمن. 
الأمر ليس سهلًا للحصول على أصناف جديدة دون فقدان السمات الأساسية للزهرة، كما قيل لي من أحد المختصين، قد يستغرق الأمر عشرين عامًا لزراعة صنف جديد من زهور التوليب أو غيرها، وعادة ما تكون المختبرات محاطة بالسرية، وتؤدي الاكتشافات الزراعية الجديدة إلى إثارة واهتمام كبيرين بين المزارعين.
ينصح المزارعون الهولنديون بإبقاء الأزهار عند درجة حرارة لا تقل عن 9 درجات مئوية قبل ظهور البراعم وزيادتها بمقدار درجتين أسبوعيًا بعد ظهورها، حتى 19 درجة مئوية. بعد أن تبدأ الزهور في التفتح، يمكن خفض درجة الحرارة إلى 15 درجة مئوية.
 
التوليب
بدأت حكاية زهرة التوليب في هولندا ببصيلة واحدة من تركيا عام 1593، تسمى التوليبان على اسم شكل العمائم التي يرتديها الرجال الأتراك، أحضرها البحارة الهولنديون الذين كانوا يبحرون حول العالم. وبدأ المزارعون بغرس أول زهرة منها في الأراضي الهولندية، وبفضل التجارب والأبحاث المستمرة، ولخبرة المزارعين الهولنديين ومهارتهم تطورت زراعة التوليب وتأقلمت مع الأجواء الباردة في هولندا، لتصبح مع الوقت أضخم منتج في العالم للأزهار البصيلية، وتمكنوا من وضع زهرة التوليب على الخريطة الزراعية بدلًا من الأتراك، وطوروا أصنافًا جديدة منها إلى أن أصبحت زهرة التوليب رائجة في أوربا ورمزًا لهولندا. وتم تخصيص يوم رسمي للاحتفال بها في هولندا، وهو ثالث سبت من شهر يناير من كل عام.
كان الهولنديون مهووسين بزهرة التوليب، لدرجة أنه في ذلك الوقت، كانت تكلفة بصيلة التوليب تعادل تكلفة بقرة، أو قطعة أرض، أو منزلًا. وتعد منتجًا فاخرًا لا يوجد ما ينافسها في جمال أوراقها المشبعة بالألوان، وهي ترمز أيضًا للنبالة والمكانة العالية، ويطلق عليها ألقاب مثل «أميرال» و«جنرال». أما أندر أنواع التوليب فهي التي تشتهر ببتلاتها الحمراء والبنية والأرجوانية، بها خطوط صفراء أو بيضاء تشبه ألوان اللهب. وتصبغها هذا نتج عن إصابة بصيلاتها بأحد أنواع الفيروسات النباتية، وهو من أنواع الفيروسات غير المؤذية، لذلك تعد غالية الثمن.
لا تنمو التوليب سريعًا، وقد يستغرق الوقت لزراعتها عن طريق البذور أو البراعم عشر سنوات، لذلك يقوم المزارعون بزراعتها من البصيلات مباشرة بعد وضعها في التربة. وعندما تنمو للبصيلة ساق وأزهار، فإنها تختفي وتتكون مكانها بصيلة مماثله لها، وتنتج براعم كثيرة، وهذا يفسر سبب ندرتها وارتفاع ثمنها.
موسم زهور التوليب قصير جدًا ولن ترى أي حقول لها إلا في شهر مايو، وما ستراه في محلات بيع الزهور من ديسمبر إلى مايو، هي التي تنمو في المحميات والبيوت الزجاجية.
 
بلومين (طريق الزهور)
أشهر الطرق في هولندا هو طريق بلومين الذي يبلغ حوالي (40 كيلومترًا) ويمتد من منطقة هارلم شمالاً إلى لايدن جنوبًا، وهو ممتلئ بزهور التوليب الرائعة الألوان، مكونًا لوحة فنية رائعة في مساحات شاسعة على مد البصر في صورة مبهرة. يبعد الطريق مسافة 20 دقيقة فقط من محطة القطار في أمستردام.
يبدأ طريق بلومين بالتشكل في شهر يناير، عندما تظهر أولى زهور الزعفران. وتليها أزهار النرجس البري والزنابق والأضاليا ثم زهرة التوليب، التي تتفتح بكل الألوان.
 هناك أكشاك لبيع الزهور على طول الطريق يقيمها بائعو الزهور. هنا يقام أيضًا مهرجان الطبيعة الملون حيث تمتلئ الحقول بالزهور الملونة ويعرض المزارعون إنتاج مزارعهم.

تجارة الزهور
تجارة الزهور أصبحت تجارة دولية مربحة لهولندا. كميات كبيرة تنتج على هذه الأراضي من جميع بصيلات الزهور على مدار العام. يحتل الورد المرتبة الأولى في قائمة الزهور الأكثر بيعًا، ثم التوليب وهي الأعلى سعرًا ثم تأتي الأقحوان والزنبق. تصل العائدات السنوية إلى ما يقارب 4 مليارات دولار. ويمثل قطاع الأزهار منفردًا مصدر معيشة لأكثر من 150 ألف شخص في هولندا.
للزهور في الأسواق العالمية مواصفات مهمة ومطلوبة للتصدير كما قال لي أحد المزارعين، من أهمها أن تكون أفرعها متساوية وطويلة وقوية للمحافظة على الزهرة، وأن تكون ذات حجم ولون مطابقين لمواصفاتها، وأن تكون خالية من الشحوب والحروق والآفات والأمراض.  يعتبر مزاد الزهور الهولندي (Royal FloraHolland)، السوق الرئيسي للزهور المقطوفة، فتجد فيه جميع أنواع الزهور في العالم، وهو بمنزلة منصة تجارية أساسية للتجار من جميع البلدان. وتدعم الحكومة الهولندية المزارعين من خلال خدمات متنوعة، بما في ذلك البحث والتطوير وبنية تحتية للتوزيع تتسم بالكفاءة وترتبط بشكل كبير بخدمات طرق النقل الجوي والبري إلى معظم البلدان المستهلكة الرئيسية، وتطوير المزادات والمنصات التجارية الإلكترونية، مثل Fleurop وFlowers وEuroflorist، لإتمام المبيعات المباشرة مع المستهلكين بدلًا من استخدام وسيط كتاجر الجملة. ويتوقع أن يزداد حجم المبيعات في هولندا من 4.67 مليارات دولار أميركي في عام 2023 إلى 5.87 مليارات دولار أميركي بحلول عام 2028.
أكبر الأسواق التي تصدر لها الزهور هي ألمانيا، ثم المملكة المتحدة تليها فرنسا والاتحاد الروسي وبولندا. وكما ذكر في تقرير مركز التجارة الدولي (ITC)، صدرت هولندا في عام 2021 (680.090) طنًا متريًا من الزهور المقطوفة بقيمة 5.7 مليارات دولار أميركي. 

قرية الطواحين
لا يمكن تخيّل هولندا من غير الطواحين الخشبية الجميلة. ظهرت هذه الطواحين لأول مرة هنا في القرن الثاني عشر وكانت تستخدم لطحن الحبوب. في القرن الخامس عشر، ظهرت أول طاحونة من نوع «بولدر»، استخدمها الهولنديون لتصريف مياه المستنقعات والبحيرات حتى يتمكنوا من استصلاح الأراضي. وبعد ذلك بكثير، ظهرت طواحين أخرى لمصانع نشر الخشب، ومصانع النفط، ومصانع الورق، ومصانع الصباغة، وغيرها. اليوم، لم يتبق في هولندا سوى ألف طاحونة هوائية من أصل تسعة آلاف طاحونة.
هناك مكانان مشهوران بطواحين الهواء، هما كيندرديك، أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو ويوجد بها 19 طاحونة قديمة، تم بناؤها في القرن الثامن عشر، وهي المكان المناسب للتعرف على قدرة الهولنديين على إدارة المياه، وهناك قرية الطواحين زانس شانس، ويوجد بها 15 طاحونة قديمة، وهذان المكانان هما منطقتا جذب سياحي، والأكثر زيارة في هولندا بعد العاصمة أمستردام. كانت الأقرب لنا قرية (زانس شانس) التي تقع على ضفاف نهر زان، على بعد 20 كم فقط من أمستردام، وهي أسهل رحلة نهارية من أمستردام لمشاهدة طواحين الهواء، لذلك توجهنا لها.
مشهد جميل يحتضن كل سحر الحكايات. من مسافة بعيدة يمكنك رؤية أشرعة طواحين الهواء وهي تتحرك ببطء، ومراعي خضراء واسعة النطاق في الخلفية ومنازل خشبية. القرية متحف صغير في الهواء الطلق، فيها سوف تتخيل كيف كانت الحياة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في الريف الهولندي. في فترة الستينيات من القرن العشرين، نقل إليها الكثير من المباني التاريخية وطواحين الهواء القديمة من أجزاء أخرى من منطقة زان والقرى الهولندية.
جميع طواحين الهواء الموجودة حاليًا هي طواحين تعمل، وتؤدي وظائف مختلفة. هناك طاحونة لنشر الخشب، وطاحونة طحن الأصباغ، ومطحنة زيت لطحن بذر الكتان والفول السوداني لاستخلاص الزيت.
لم نسمع ضجيجًا إلا عند اقترابنا من الطواحين. دخلنا إحداها المخصصة للزوار، بعد أن دفعنا 5 يورو رسوم الدخول. صرير الخشب والأجزاء المتحركة في بطن الطاحونة عالٍ جدًا. يوجد في الطابق الأرضي معصرة للزيت، وأحجار طحن ضخمة تسحق الفول السوداني، يتم تشغيلها يدويًا بواسطة أشرعة الطاحونة التي يحركها الهواء، ثم يتم تحميصه وضغطه حتى يستخلص منه الزيت. 
صعدنا إلى سطح الطاحونة عبر سلالم خشبية ضيقة، لرؤية أشرعة طاحونة الهواء وهي تمر، والاستمتاع بإطلالة بانورامية جميلة لمنطقة زانس شانس.
يوجد العديد من المتاحف الصغيرة في القرية، ومحلات تبيع المنتجات الهولندية الطازجة، مثل الجبن والوافلز، ومصنع صغير للأحذية الخشبية. في هذه المتاحف والمصانع الصغيرة لا تزال الآلات الأصلية تعمل حتى يومنا هذا، في مشهد يعيدك بالزمن إلى الوراء. يوجد أيضًا في القرية متجر ألبرت هاين الأول الذي افتتح عام 1887، والتي أصبح فيما بعد أكبر شركة متاجر في هولندا، وتوجد أفرعها الآن في جميع دول أوربا، ولكن ما يميز هذا المتجر هو محافظته على نفس شكله وأدواته التي كانت تستخدم في القرن التاسع عشر.

متحف زيدرزي
هناك تحديات كبيرة يواجهها الهولنديون بسبب تغيير المناخ وارتفاع دراجات الحرارة، الذي يؤدي بالتالي إلى ذوبان الأنهار والصفائح الجليدية، ومع تدفق المياه في النهاية إلى المحيطات سيرتفع مستوى سطح البحر حوالي 75 مترًا، وحتى الآن ارتفع مستوى سطح البحر حوالي 8 بوصات، وتشير التوقعات إلى ارتفاعه بين حوالي 1 و6 أقدام ونصف بحلول عام 2100. لذا فإن ارتفاع مستوى سطح البحر سيكون أمرًا يراقبه الهولنديون عن كثب للتأكد من أن حواجزهم وأنظمتهم الدفاعية توفر الحماية الكافية لأراضيهم.
توجهنا إلى متحف زيدرزي، لمشاهدة عرض عن الفيضانات في تاريخ هولندا. وهو أحد أهم المتاحف في منطقة إنكهاوزن، يركز على كيف كانت الحياة في زيدرزي وموضوعات المياه ومستقبل المنطقة، ويعتبر المتحف الخارجي بمبانيه التاريخية والمتحف الداخلي مع معارضه المنوعة رواية تاريخية مهمة عن هولندا.
يحكي المتحف قصة نهر زيدرزي، وهو مدخل بحر الشمال، وما سببه من حدوث العديد من الفيضانات. واندهشنا من عدد الفيضانات الخطيرة التي شهدتها هولندا، وما فعله الهولنديون لحماية بلادهم. كانت زيدرزي منطقة صيد غنية ومصدرًا رئيسيًا للدخل في هولندا. لكن أودت فيضانات العواصف العنيفة، مثل فيضان القديسين عام 1675، وفيضان العاصفة عام 1825، والفيضان الكبير عام 1916، بحياة آلاف الأشخاص، وتسببت في أضرار جسيمة. وفي عام 1918، وقعت الملكة فيلهلمينا ملكة هولندا على القانون الذي سمح ببناء سد في هذه المنطقة. وبنى الهولنديون سدًا ضخمًا به مضخات تعمل بشكل مستمر لإغلاق جزء من المحيط بطول 32 كم.
 هناك استراتيجية يستخدمها الهولنديون لإدارة المياه تسمى «مساحة للمياه». في بعض الأحيان، يضطرون إلى السماح للمياه بغمر بعض الأراضي، من أجل حماية الباقي. وهناك أيضا استراتيجية تسمى «مساحة للنهر» من خلال التأكد من أن الأنهار لديها الكثير من الانحناءات، لأن من الممكن للأنهار المستقيمة أن تجري بسرعة كبيرة، مما يؤدي إلى تآكل السدود بسرعة، ولا تعطي وقتًا للتفاعل مع الفيضانات. كذلك استراتيجية الممرات المائية المتعرجة، حيث يقومون بإنشاء سدين حول الممرات المائية الرئيسية، سد داخلي لمستويات المياه الطبيعية وسد خارجي في حالة تجاوز المياه السد الداخلي أثناء الفيضان. وجزء أساسي من الاستراتيجيات يتمثل في سلسلة ضخمة من الحواجز التي تغلق قنوات المياه إذا ارتفع منسوب المياه إلى مستويات عالية للغاية.

الزهور في الفن الهولندي
ثراء ألوان الزهور، ورمزيتها هي أمور جاذبة وملهمة في كل عصر ولكل فنان. رسامون هولنديون عبقريون كانت أهم أعمالهم وأشهرها هي الزهور، كلوحة عباد الشمس لفنسنت فان جوخ، حتى الفنان بيت موندريان الذي يعد أحد رواد الفن التجريدي، فكان يرسم دائمًا الزهور بين أعماله التجريدية. حصل هذا الارتباط بين الفنانين الهولنديين والزهور في القرن السابع عشر، وهو ما يطلق عليه العصر الذهبي أو الأيام الأولى للزهور الهولندية. نظرًا لأن الزهور كانت تزرع في فصل واحد وتبقى نضرة لفترة قصيرة، وأراد الناس الاستمتاع بها طوال العام، فأصبحت اللوحات هي البديل. ورسم الزهور فن رائع ونوع شائع من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر. وقد اشتهر في تلك الفترة، الأخوان الهولنديان جيرارد وكورنيليس فان سبايندونك اللذان سافرا إلى باريس لرسم الزهور على الجدران والقماش والأرضيات في البلاط الملكي للملك لويس السادس عشر، وأماكن أخرى في نهاية القرن التاسع عشر.

جيثورن (البندقية الصغيرة)
أجمل وأروع قرية في هولندا هي قرية تسمى «جيثورن»، القرية التي لا يمكن لسكانها سوى الإبحار أو المشي أو ركوب الدراجة للتنقل فيها. بنى سكان جيثورن منازلهم في الجزر الصغيرة المحاطة بالبحيرات وربطوا هذه الجزر بالجسور الخشبية التي يبلغ عددها تقريبًا 176 جسرًا معلّقًا فوق المياه. وبالتالي لا يمكن لسكان القرية الوصول إلى منازلهم الا باستخدام قوارب، لذا سوف ترى أمام كل منزل قاربًا، وليس سيارة، لهذا تسمى القرية بالبندقية الصغيرة. 
تقع القرية في الجزء الشمالي الشرقي من هولندا مسافة ساعة ونصف الساعة عن العاصمة أمستردام، ويزورها أكثر من مليون زائر سنويًا. تعتبر قرية جيثورن مثالًا رائعًا على قدرة الهولنديين على العيش مع الماء وتطويع الطبيعة لصالحهم، كانت الأرض في الأصل مستنقعات خثية. واستطاع سكانها استخراج الخث، واستصلاح الأرض وزراعتها والعيش بها.
كنا متخوفين من الإبحار بأنفسنا داخل جيثورن، فاخترنا تأجير قارب صغير يقوده شخص من سكان جيثورن للقيام برحلة بحرية في قنواتها، والاستمتاع بالقصص الجميلة عن كل شيء من تاريخ قرية جيثورن من ذاكرة سكانها. تستغرق الرحلة في القارب حوالي ساعة من الزمن. خلال الجولة شاهدنا مزارع رائعة تعود إلى القرن الثامن عشر وبيوتًا خشبية مسقوفة بالقش، حولها حدائقها الصغيرة الممتلئة بالزهور من كل الأنواع والألوان. كل تفاصيل القرية تجعلك تشعر بأنك في مكان افتراضي خارج هذا العالم. لذا فإنّ تمضية إجازة قصيرة في جيثورن سوف يكون لها ذكرى جميلة لا تنسى للأبد. 
في جيثورن المطاعم والمقاهي، تطل معظمها على القنوات المائية، لذلك لديك دائمًا أماكن فاخرة للجلوس بها. تعتبر أسعار الطعام في جيثورن جيدة، خاصة بالمقارنة مع مناطق الجذب السياحي الأخرى، مثل أمستردام أو زانس شانز أو ماستريخت أو أوترخت أو أيندهوفن، بالإضافة إلى أنك ستستمتع بتجربة طعام هادئة ومريحة. 
هولندا ليست مجرد وجه جميل، بل كيفما تصفحت مدنها وقراها الآمنة تجد إبداعات الإنسان وروحه الثورية. مساحتها الصغيرة لا تجعلك تحتاج فيها إلى وقت طويل لاكتشاف تفاصيلها المخفية، ولا تحتاج إلى ميزانية كبيرة كي تنعم بإجازة جميلة ملونة ومعطرة بالزهور ■

المباني العائمة وسط أمستردام 

شوارع أمستردام المزدحمة ليلاً ونهارًا 

يوفر قطاع الزراعة مصدر معيشة لـ 150 ألف شخص في هولندا

أندر أنواع التوليب، بَتلاتها تشابه ألوان اللهب

مدخل حديقة كيوكينهوف

من أبرز معالم مدينة جرونينجن الأثرية وأهم الحصون فيها التي تحكي تاريخًا مهمًا عن هولندا. لعب هذا الحصن دورًا أساسيًا خلال حرب الثمانين عامًا التي خاضتها هولندا والتي امتدت منذ عام 1568 إلى عام 1648، كان حينها يسيطر الإسبان على بلدة جرونينجن الهولندية. تصميم الحصن الهندسي مميز يشبه النجمة. ويتسم المكان بجمال الطبيعة، ويمتلئ بالبحيرات والخنادق المائية. ومن أهم معالم حصن بورتانج الطاحونة الهوائية التي تقف في وسط الحصن، وهي لطحن البذور الزيتية لتحويلها إلى وقود لإضاءة المكان، وهو الأمر الذي كان شائعًا في العصور القديمة

قرية الطواحين (زانس شانس)

الزميلة دلال المطيري تتوسط زائرين لقرية زانس شانس

أحد مصانع الأجبان في القرية

أطفال بالزي الهولندي التقليدي

متحف زيدرزي من أهم المتاحف في انكهاوزن بمبانيه التاريخية ومعارضه الداخلية المنوعة

«زهرة السوسن»،لوحة للرسام الهولندي بيت مندريان

الإبحار وسط قرية جيثورن