أُذن العميد

أُذن العميد

الأُذن أسبق من العين إلى الإدراك وترجمة المعنى الحسي، فالأذن تسمع أرادت أو لم ترد، وتسترق السمع، وتتحسس أسرار الناس إن لم يتح لها الاستماع المريح، ويكون ذلك تجسسًا وتطفلًا غير محبوب، ولا مرغوب فيه، ولذلك تختزل الحواس كلها في الأذن، فيقال فلان أُذن. 
وقد قال بشار قوله المشهور: «الأذن تعشق قبل العين أحيانًا». وجاء ابن حزم ودعمه في كتابه «طوق الحمامة» حين أفاض في الحديث عمَّن عشقوا بالسمع. وفي الذكر الحكيم تقدم السمع على البصر في قوله تعالى: «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا». فالأذن تسمع عن قصد، وعن غير قصد. وهي البديل الحاضر دومًا عن العين.

والذاكرة السمعية عند الإنسان هي إحدى مكونات الخيال، وإحدى مكونات الثقافة التي تنمو وتزداد عبر السنين بما نسمع ونشهد، ونتذوق عبر القراءة والمشاهدة واختلاف مصادر الثقافة باختلاف التجارب والبيئات. 
وقد كان طه حسين أحد أعلام الثقافة السمعية المدهشة التي تكونت منذ طفولته في بيئته الأولى التي ولد فيها ودهمته آفة فقد البصر. لقد صار السمع لديه أهم قنوات تواصله مع الطبيعة، ومع المحيط الاجتماعي، ولم يكن هذا السمع ترفًا عابرًا كما يحدث عند الناس الذين يسمعون ويبصرون، بل هو فرض واجب التفت إليه طه حسين، فحفظ عن طريقه القرآن الكريم، ومعلقات الشعر الجاهلي، ومنظومات الفقه والتاريخ، ومنه كوَّن الصور الذهنية للإنسان، والحيوان والنبات، والروائح، وكل الأشياء. فصور العالم عنده صور نتاج الذاكرة السمعية. ومن ثم فإن العالم المتخيَّل لديه هو العالم الذي تكون في مراحله الأولى منذ طفولته وصباه وصدر شبابه، وهو العالم الأساس الذي كان بمثابة المعايير التي حكمت رؤيته للفن والأدب والإنسان. ولم تكن مرحلته الأزهرية إلا امتدادًا لما سبقه، أمدته بخبرات سيئة، وصور مؤلمة، وتجارب لم تفارق مخيلته حتى مات.
ولقد كانت مأساة العمى وفقد البصر، وما ترتب عليها من صور، ومدركات وتجارب، داعية إلى التجلد والتحدي، وإثبات الذات، والبحث عن الأشباه الذين يؤكدون صحة الطريق الذي ارتاده، واتخذه نهجًا له في الحياة. وعلى رأس هؤلاء الأشباه أبوالعلاء المعري الذي دهمته محنة العمى في مقتبل طفولته، كما دهمت طه حسين، والذي رأى العلم والمعرفة سبيلًا للخلاص من قيد المحنة، والذي تسامى على ترهات السفهاء والحمقى فلم ينصت إليهم. 
اتخذ طه حسين أبوالعلاء موضوعًا للدرس العلمي، ومنهجًا للتغلب على صعوبات الحياة وأهمها صعوبات التعلم، والظفر بما يستحقه من مكانة.
لقد كان تراث أبي العلاء إضافة جديدة مختلفة ومغايرة لما استقر في ذاكرة طه حسين من التعليم الأولي، والتعليم الأزهري. وأساس المغايرة الاعتداد بالعقل الذي ينتقد التاريخ كما ينتقد الحاضر، وتجتمع لديه النظائر والأضداد. وبما أن أبا العلاء كان قارئًا عظيمًا لما سبقه من تراث الفكر والتاريخ والأديان والشعر، فقد هيَّأ لطه حسين قراءة ما قرأه منتقدًا أو موافقًا أو مخالفًا. فقراءة أبي العلاء للتاريخ والعقائد والمذاهب الفكرية والفلسفية، واللغة والأدب والشعر في رحلاته إلى مكتبات العلم في الرها وأنطاكية وبغداد، كانت أفقًا واسعًا مرشدًا وهاديًا لنظيره في القرن العشرين. فقد اهتدى طه حسين إلى معالم الطريق، فاعتد بالتاريخ، وبالجدل، وباللغة، وبالشخصيات الكبرى الموجهة التي غيرت مسارات الأمم في الفكر والشعر والتاريخ. لذلك لم تكن صحبة أبي العلاء في حياة العميد مجرد موضوع بحثي اهتدى إليه الباحث في مرحلة الطلب الجامعي، بل كانت سنة طيبة عمل بها ونهجًا علميًّا وحياتيًّا اكتشفه وقدَّمه للناس فيما يشبه البعث الجديد لأبي العلاء الذي فعل الأمر نفسه حين رأى أن شعر أبي تمام في القرن الثالث الهجري، وشعر المتنبي في القرن الرابع معجزًا، فأطلق على شرحه لديوان الأول «معجز حبيب»، وعلى شرحه لديوان الثاني «معجز أحمد»، وحين اطلع على ديوان البحتري أطلق عليه «عبث الوليد». فالبعث الجديد كان بعثًا مزدوجًا لطه حسين القارئ، وأبي العلاء المقروء، وكان مرهونًا بقراءة جديدة تستجيب لمتطلبات الواقع الاجتماعي الماثل في مطلع القرن العشرين في مصر وتطلعاته نحو آفاق النهوض، كما تستجيب لمنطق المقروء من جهة، وقدرته على الاستجابة الجديدة الناشئة من زمن غير زمنه.

قارئ ومقروء
فأبوالعلاء عند طه حسين قارئ ومقروء. والقراءة فعل انتقائي وتمييزي كما تفعل النار بالذهب والنفيس من المعادن. تنفي الخبث والشوائب، وتطهره منها وتبقي على الجوهر والنفاسة التي تمكث بين الناس. وفعل التاريخ في حقيقته، وهو من إرادة الإنسان، فعل تمييزي وانتقائي لأنه يستجيب لمنطق التطور الذي اختلف في القرن العشرين عند العميد، عنه في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي عند أبي العلاء. فقرأ طه حسين أبا العلاء الفيلسوف والشاعر الميتافيزيقي والمفكر المتهم في عقيدته وتوجهاته في ضوء معطيات الحتمية التاريخية التي انتهجها العميد في قراءته.
ماذا نريد من هذا السرد النقدي؟ نريد أن نكشف عن حقيقة ساطعة هي أن علم العميد منذ طفولته حتى فراغه من نيل درجة الدكتوراه في ميراث أبي العلاء هو علم سمعي أساسه الأُذن التي حلت محل العين التي تدرك الأشكال والأحجام والألوان والفراغات والمساحات، وتدرك الوجوه وأشكالها وتغيراتها في حال الرضا والغضب، وفي حال المكر والخداع، وفي حال الفرح والحزن، وفي حال الصمت وحال الكلام. فكأن الأذن هي مخزن المدركات الحسية التي تستدعيها الذاكرة. وقد ترتب على هذه الحقيقة أن هذا العلم العريض رغم تعدد روافده، علم تراثي سواء في روافده الأزهرية الأولى، أو في روافده الجامعية بعد ذلك. ولم يكن للفكر المعاصر ومناهجه، كما لم يكن للفنون التشكيلية والحركية والسمعية، حضور قوي مثل حضور العلم التراثي. ولعل هذا يفرض السؤال عن موقف العميد من فنون الموسيقى والغناء في مصر حتى قبل سفره إلى باريس. وهي فنون غنائية وليست درامية، وفردية وليست جماعية، وتابعة للكلمة وليست خالصة للتأليف الموسيقي على نحو القصيد السيمفوني، أو الباليه، أو الأوبريت؟
فلم يكن العلم وحده الذي حصله العميد علمًا سمعيًّا، بل كانت كل مدركات العميد الأخرى من السماع هكذا. فالموسيقى التي هي سمعية بامتياز مثل كل أشكال النغم، كانت موسيقى تراثية سواء في مصادرها الفولكلورية في الريف المصري في نهاية القرن التاسع عشر عند ميلاد العميد، أو بعد ذلك حين ترك القرية، وعاش في قاهرة المعز التي كان لها لونان في مخيلته ووعيه الأول الذي رسمته تجربته الأزهرية على يد شيوخه الذين وصفهم بالغلظة والجفاء، والثاني حين تطلع إلى علم جديد في الجامعة الوليدة آنئذ على يد أساتذة من المصريين والأجانب. 
ولم يكن من أربه الشغف بالموسيقى والتطلع إلى موسيقى أرحب غير الموسيقى والغناء الواصل من تراث القرن التاسع عشر، ومحاولات التجديد عند سيد درويش ثم عبدالوهاب بعد ذلك. فلم تكن الموسيقى الأوربية بأعلامها المعروفين ذات حضور قوي في ذلك الوقت، ولم تكن هذه الموسيقى موضع تطلعات الطبقة الوسطى وشريحتها الفقيرة. لذلك لم يكن العميد حريصًا على السماع، ولا حريصًا على انتقاد الموسيقى العربية كما قدمها درويش، أو عبدالوهاب. ومن ثم فإن سماع العميد مثل علمه المكتسب في مصر سماع تراثي منقول. فلم يكن الغناء الأوبرالي، ولا السيمفونيات كما كتبها موزار أو بيتهوفين هي قبلة السماع وقتها في مصر. 

زعم باطل
ومن ثم فإن الذين يقولون إن العميد كان ذا موقف معلن أو غير معلن من الموسيقى الشرقية زعم باطل ليس عليه دليل من العقل ولا من الوقائع التاريخية. فالعميد لم يعرف القصيد السيمفوني ولم تتفتح له أذناه إلا بعد أن عاش في فرنسا وصحبته سوزان بريسو إلى الحفلات الموسيقية، فكانت عينه وأذنه، كما كانت عصاه التي ارتاد بها كل مجهول. ولم يكن للعميد قبل سفره شغف قليل أو كثير بفن الموسيقى لانشغاله بهموم كبرى على رأسها كيف ينتصر على جفاء التعليم في الأزهر، وكيف يحقق ذاته في التعليم المدني الذي مثلته الجامعة المصرية الوليدة. 
ومع أن التعليم في فرنسا في مطلع القرن العشرين أتاح له التعرف على مناهج جديدة في العلم، ورؤى جديدة في الحياة، ووضع ذهنه دائمًا في موضع التساؤل كيف تقدم هؤلاء وكيف تأخرنا، فإن عقل العميد ظل ينطلق من القاعدة التراثية التي اكتسبها أثناء تعليمه الأزهري، وأثناء تعليمه في الجامعة المصرية. وحين قدم للقراء فتوحاته، قدم مقالاته الأولى عن الشعر الجاهلي، والشعر الأموي والعباسي التي جمعت فيما بعد في كتابه حديث الأربعاء. وهي قراءة تعكس ثقافته التراثية ونظراته الذاتية في اللغة والصور وظرف إنتاج النص المنقود، ولم يكن لهذه القراءة من عاصم إلا العقل النقدي الذي اكتسبه بعد طول معاناة مع تراث أبي العلاء، كما اكتسبه من مناهج أساتذته الذين تعلم على أيديهم في فرنسا، وفتحوا له كنوز الحضارة اليونانية والرومانية في وجهيها الفلسفي والأدبي. ولم تكن الموسيقى إلا أفقًا جديدًا اطلع عليه العميد وفرضته تقاليد الحياة الثقافية في فرنسا، فاستمع إليه وأشاد به ورأى فيه تجليًا من تجليات العقل والخيال، كما ارتاد المتاحف ودور المسرح. ولا يعني كل ذلك أنه كان ينحي باللائمة على الموسيقى في مصر، أو المسرح، أو المتاحف، فقد كان مهمومًا كل الهم بسؤال التقدم وأسبابه في العلم والاجتماع والدين والحريات والقانون ■