محمد علي شمس الدين مدرسة شعريّة

محمد علي شمس الدين مدرسة شعريّة

إنّ البحث في طيّات الكتب، وفي التّراث الشّعريّ الإنسانيّ في مختلف الثّقافات، يثبت لنّا أنّ الشّعر كان على مرّ العصور يضطلع بمهمة اجتماعيّة أو سياسيّة أو ثقافيّة أو تعليميّة أو دينيّة. وهذا ما يشير إلى أنّ الشّعر هو عمليّة تواصليّة تفاعليّة. ويقدّم لنا الشّعر أفكارًا وطروحات وقيمًا تترك أثرًا في المجتمع.

 

وهذا ما يجعلنا نبحث عن جدوى الفعل الشّعريّ، لذلك يتبادر إلى الذّهن دائمًا دور الشّعر ووظيفة الشّعراء، وبمعنى آخر، هذا يؤكّد لنا أنّ الشّاعر هو عامل ثقافة، وهو المثقّف الذي يكتب ويفكر ويعيش الشّعر في مجتمع عصره.
وفي تراث الأدب العربيّ ومنذ العصر الجاهليّ اضطلع االشّاعر بدور الرّائي والمخلّص لمجتمعه، فكانت له الأهميّة والمكانة المرموقة، وكان للشّعر هذا الدّور المهم، فيقول أبو هلال العسكريّ عن الشّعر في الجاهليّة بأنّه ديوان العرب يصوّر آمالهم ويصف حياتهم بكلّ ألوانها ومشاهدها، أودعوه وقائعهم ومفاخرهم وذكروا فيه أحسابهم وأنسابهم، ودوّنوا فيه آثارهم وأيامهم وذكرياتهم، وجمعوا بواسطته أوصاف بيئتهم وأمجاد بطولاتهم وكلّ ما يتصفّون به من عصبيّة وكرم ووفاء. والسّجل سجل حافل لمآثر العرب، وخزانة ثابتة لحكمتهم، ومستنبط آدابهم ومستودع علومهم. والقصيدة عند العرب هي أبقى على الدّهر من كلّ عمر وأخلد من كلّ أثر، ولا ريب في أنّ هذه سنّة العرب في تخليد مآثرهم.
ويستمر هذا الدّور للشّعر العربيّ تاركًا أثره الكبير في المجتمع، راسخًا لقيمه، معليًّا من شأنه، ومعلّمًا لأبنائه، ومن الطّبيعيّ أن يختلف تأثير كلّ شاعر عن غيره، فنجد من يمرّ على أديم الأوراق، فيغيب أثره، ومنهم من يترك خربشة من خربشاته، ومنهم من يحفر وينقش تاركًا الإرث الكبير والفكر المنير.
والشّاعر محمد علي شمس الدّين من الذين نقشوا في أديم الأرض، وتركوا أثرًا كبيرًا، فهو ليس شاعرًا أصدر الدّواوين الكثيرة، بل هو صاحب تجربة غنيّة، تميّزت بتفرّدها، ويعدّ من كبار الشّعراء العرب.
وهذا التّفرّد الذي تميّز به الشّاعر يثير السّؤال، هل محمد علي شمس الدّين مدرسة شعريّة؟ 
ويمكن القول إنّ إجابة السّؤال تنحو إلى الإيجاب مع تأكيد صحّة القول بأنّ شمس الدّين هو مدرسة، فتميّزَ بأفكار خاصّة به، وله آراء جريئة ترتبط به دون غيره. ونجزم أنه علامة فارقة في الأدب العربيّ، فهو الباحث ودارس التّاريخ والنّاقد والمفكر، وقبل كلّ ذلك هو الشّاعر المبدع.
 
رؤية شمس الدّين إلى الشّعر 
يقرّ الشّاعر محمد علي شمس الدّين بأنّ الشّعر سرٌّ يبحث عن سرٍّ، وهو بهذا يضفي هالة عليه، فلم يعد كلامًا سهل المنال، فلا بد من أن نرتقي للوصول إليه، كي نفهمه، ومع ذلك فستظلّ الأسرار كامنة فيه. ويظلّ الشّعر عنده فعاليّة مرتبطة بالإنسان منذ وجوده، فلا انفصال بين الإنسان والشّعر. 
ويتابع شمس الدّين فيسمَ الشّعرَ بأنّه جرحٌ من أقدم جروح الغيب، يبدأ من المجهول، وينتهي هذا المفهوم بسرّ الأسرار أي الله عزّ وجلّ. ويسوّغ هذا الجرح بالتفسير اللّغويّ؛ فإذا عدنا إلى المعاجم نرى كلم بمعنى جرح، وكما الجرح يسبب خروج الدّم، فالجرح بالكلمة يكون باستخراج المعنى، ونفهم من هذا التّحليل أنّ الشّعر ليس إبداعًا سطحيًّا، إنّما هو حفر في القلب، ينبع من ألم، وله بعد قدسيّ، كونه سرًّا من أسرار الخليقة. 
والشّعر عند شمس الدّين له وجهان مرئيّ ومستور، يقدّم الشّاعر في قصيدته «ماذا سنفعل بالياقوت» من ديوانه «كرسي على الزبد» الوجه المرئي منه:
ماذا سنفعل بالياقوت يا أبتي
وكلما زاد بعدا زدته طلبا 
وفي الياقوت معنى تضمينيّ أراد به الشّاعر الدّلالة على الشّعر، وفي ذلك إشارة إلى القيمة الجوهرية التي يحملها، وإلى أنّه درّ ثمين وغالٍ، لا بدّ من رفعة مقامه، والنّفس الإنسانيّة تطلبه فهو الغاية وهو الأساس، وفي طلبه المستمر يبرز البعد.
صورة جميلة يقدّمها الشّاعر عن مفهوم الشّعر، فنظلّ نجهد للوصول إليه، ومع ذلك لا نحقّق ذلك، وتتعدّد الطّرائق التي تقودنا إليه، ومن خلال ذلك نرى أنّ شمس الدّين يرفض تحديد التّعريف، وحصره في سياج محدد، لأنّ في ذلك انتهاءً له، ونظلّ هنا مع هذا التّضاد، فكأنّ الشّعر يقوم على العلاقة الجدليّة بين الظهور والاحتجاب، وبين الوصول والبعد، وجماليّة الشّعر تكمن في أن يظلّ بعيدًا، نستطيع من خلاله أن نجترح المعاني العديدة.
ويعرّف الشّاعر الشّعر بأنّه إشارات وعلامات برقية كاشفة تتغلغل في كثافة الوجود والموجودات والأحوال، وفيما هو شرارات ناريّة تقدح في ليل طويل، يحمل عبئًا في طموحه المعرفيّ والدّلاليّ معًا، ربما هو عبء أبعد من الطّموح الفلسفيّ أو من البرهان واليقين العقليّ أو حتى الكشف عن حقائق التّاريخ على صعوباتها وحرجها، لأنّه يدخل في ينابيع الغيب الغامضة، ويغامر في غابات الخيال بلا هوادة، ويحاول أن يفضّ أسرار اللّغة في أقدس أقداسها، إنّ فكر الشّاعر النّاقد يربط بين الشّعر والغيب والخيال وأسرار اللّغة، وهذا ما يجعل رؤيته مدرسة نقديّة.
-1 رؤية شمس الدّين إلى موسيقى الشّعر 
كان الشّاعر محمد علي شمس الدّين في دواوينه العديدة ابن الإيقاع الموسيقي، ليكون شاعرًا بالفطرة، يتعامل مع الأوزان بكل سلاسة وأريحية، من دون أن يقيّد نفسه، فقد استعمل كلّ التّوازنات والأوزان، بل يرى أنّه قد يكسر الأوزان إذا تطلّبت الشّعريّة هذا الأمر، فالمهم أنّه يكتب شعرًا بأشكاله المتعدّدة، فهو وريث ثلاثة آلاف عام من الأوزان في اللّغة العربيّة. 
وانطلاقًا من هذه النّظرة الواسعة الأفق يرى شمس الدّين أنّ الأمر مرتبط بالإيقاع المتوافر في كلّ الأنواع الشّعريّة، لكنّ المسألة مرتبطة في طبيعة الإيقاع الذي يجب أن يبتعد عن الحجريّة والجمود، ومن هنا فإنّ ما يطلق عليه الشّعر لا بدّ أن يتوفّر فيه الوزن، فكلّ كلام من دون وزن له تسمية أخرى، ربما فيه شعريّة لكنّه ليس شعرًا. 
ويوسّع الشّاعر فكرته عبر المقارنة والعودة إلى الآراء النّقديّة القديمة التي رأت أنّ الإيقاعات هــــي الأوزان، فيضيــــف عليها، التّــــوازنات، وهــــي القادرة على توسيع أفق الشّعريّة من خلال توسيع معنى الإيقاع. وإن كان الشّاعر رأى أنّه ليس ثمة تفعيلة أو لا تفعيلة، بل هناك شعر أو لا شعر، فالشّعر إيقاع والإيقاع ليس موسيقى الخارج بل موسيقى الدّاخل، لهذا نرى أنّ الشّاعر تنقّل بين الشّعر العموديّ وشعر التّفعليّة، فيقول في قصيدة «بحر مسقط» متناغمًا مع بحر الكامل: 
يا بحر مسقط لو رددت سفينة
لركبت نحوك مركبي من صور
ودخلت في الظّلمات محتشدًا بها
مثل احتشاد النّور في الدّيجور
جسدي كألواح  السفينة  عائم 
ودمي  بخط خرائط  المقدور
يا بحر مسقط لا علَتك سحابة
إن لم تلن للمركب المسحور
لي موجتان على المياه وموجةٌ
في البحر تحمل طفلة لديجور
زوّجتها شغف الغريب، وخوفَهُ
خلف البحار، ولوعة المقهور
 أمّا في قصيدته «قمر الجنوب» فيقول على تفعيلة بحر الكامل:
قمر الجنوب على التلال
قمر خفيف
ثم لا يهوي
كعصفور على كتف الجبال
وثيابه البيضاء ينشرها
على الأشجار أونةً
ويجلس مثل تمثالٍ
على قدمتين حافيتين
من قصب الخيال 
وقد نجد في بعض دواوينه قصائد نثريّة، فمنها قصيدة تعب شهريار، حيث يقول:
تعبنا يا شهرزاد تعبنا
وركضنا طويلًا خلف أعمارنا
حتى انحدرت دمعتان من عنق الحصان
فماذا لنا 
سوى أن نكتشف ثانية 
أنّ هذا الخط الذي يبدأ في طرف الكفّ
لا ينتهي في أطراف الأصابع
وأننا شريدان مثل خطّي سكة الحديد في الزّمان
إنّ هاجس الشّاعر هو البحث عن الموسيقى الدّاخليّة التي يرى أنّها كمن يصغي إلى البحر من خلال المحارة، من هنا فإنّ موقفه من قصيدة النّثر التي ربما يرى فيها تغريبًا للقصيدة، لكنّه يقبل بها من حيث المبدأ، ويرى أنّها إضافة للشّعريّة العربيّة التي هي أشمل من كلّ الأوزان وتوازناتها. والرؤيّة التي ينطلق منها الشّاعر أنّ اللّغة العربيّة هي لغة موازين، ويتأتّى هذا لانفراد اللّغة العربيّة بالاشتقاق خلافًا للّغات الأخرى.
وعليه فإنّ محمد علي شمس الدّين كوّن لنفسه رؤية خاصّة مستندًا إلى أبعاد موضوعيّة وحقائق تاريخيّة ونقديّة، فلم يتعصّب لاتّجاه واحد، أو شكل معين، بل كان أسيرًا للشّعريّة، يميل مع نشوة الكتابة والإبداع فيها، فينتقل بين العموديّ والتّفعيلة وتهبّ عليه نسائم قصيدة النّثر. 
-2 رؤية شمس الدّين للخيال والجمال
يؤمن الشّاعر بمفهوم الشّعريّة الذي يسكب الشّعر مفهومه الذي يريده، وقد وصل إلى هذا الموقف عبر مقارنته للآراء النّقديّة التي ذكرها النّقاد العرب القدامى، وإلى ما ورد عند فلاسفة اليونان القدماء، وصولًا إلى الآراء النّقديّة الغربيّة الحديثة.
لذلك نراه يرفض ما وصل إليه فلاسفة اليونان، لأنّهم وضعوا الشّعر في مرتبة متدنيّة نظرًا لاهتمامهم بالعقل، ونراه يتوافق مع ابن عربي الذي قال إنّ الشّعر هو المولود العظيم للخيال، وعليه يصبح الشّاعر قرينًا للخالق، كما يتوافق مع نيتشيه وهايدغر اللذين عدّا الشّعر ابتكارًا أوّل للوجود بالكلمات.
وعليه فإنّ الفكرة عند شمس الدّين ترتبط بما فيه من ابتكار وخلق، والخيال يساعد على هذا، لأنّ الشّاعر هنا يخلق ما ليس موجودًا. ولأنّه بالخيال يوجد الشّاعر ما ليس موجودًا، وهذا هو الخلق. ومن يدقّق في قصائد شمس الدّين «يلحظ حيازتها للإثارة الشّعريّة، والّلذة الجماليّة شكلًا ومحتوىً، وهذا يدلّنا على أنّ الشّعريّة اليوم شعريّة متكاملة في منحاها وأسلوبها، وحيازتها الجماليّة، فالشّاعر محمد علي شمس الدّين يؤسّس شعريته على بلاغتين مهمتين: «بلاغة في الرّؤيا» و«بلاغة في التّشكيل»، ومن خلال هاتين البلاغتين ارتقت القصيدة لديه إلى قمة الإثارة واللّذة الجماليّة:
يا حادي العيس
أنا خوف الخائف
وبهاء القلب العاري في الموت
وجمال رجاء المحرومين
سأضم دمي في آخر هذا الليل
وأسأله:
ماذا أفعل؟
عربات يهوذا
تنزل من صوب التوراة
وتجرف آخر أطفالي
ستمرّ على صدري
أقدام الجند
وأحذية البدو الرحل
ويباع ردائي 
تتجلّى عند الشّاعر الأنساق الشّعريّة التي تتضمن مختلف المثيرات الجمالية، من صور ودلالات، واستعارات، ومعانٍ دلاليّة، فيفيض النّصّ بالدّلالات المتشظيّة المعبّرة عن خيال واسع الأفق.
رحل محمد علي شمس الدّين وقد ترك في مكتبة الأدب العربيّ ثروة فكريّة ونقديّة وإبداعيّة، واستطاع أن يكوّن لنفسه شخصيّة مستقلة تركت بصمتها في طيّات الشّعر العربيّ ■