المرقِّش المغربي مشاتل الشعر في ديوان «قمر الأندلسي الأخير» للشاعر المغربي محمد الطوبي

المرقِّش المغربي مشاتل الشعر في ديوان «قمر الأندلسي  الأخير» للشاعر المغربي محمد الطوبي

قال الشاعر محمد الطوبي في شهادته عن الشاعر أحمد المجاطي بعد وفاته: «أرسلت له نسخة من أحد دواويني وأذكر أنه كتب لي رسالة جميلة بخط مرتعش قليلاً. وأتذكر أنه قال لي فيها: «يسميك البعض الشاعر اللَّيْلكيّ. هل شاهدت اللّيْلك؟» لو قُدِّر لشاعرنا أحمد المجاطي والتقاني بالقنيطرة لجعلته يشاهد الليلك حقًا، ويشاهد المنطقة التي قضيت فيها مرحلة الصبا والمراهقة، وهي منطقة الغابة والمشاتل التي كانت تنتج صنوفًا من فسائل مختلف الأشجار والنبات...» مجلة المشكاة في عدد خاص عن المجاطي (ع24 س 1996). 

 

رسالة الشاعر المجاطي وردُّ محمد الطوبي عليها قضية من قضايا الشعر الكبرى قديمًا وحديثًا، وهي في نظري قضية الثقافة والتجربة متى تعارضتا ونسفتا صدق وحداثة الشاعر. هل يكتب الشاعر مستلَبًا من مقروئه أو مُخضعًا مقروءه لروح عصره. لقد تمرد أبو نواس على الطلل وقاموسه ما وسعه التمرد متحاشيًا السلطة التقليدية أدبيًا وسياسيًا وهي التي ضاق ذراعه أن يجوز لها أمرًا. وحديثًا استبدل نزار قباني معجم الكلاسيكيين المحدثين الغزلي الذي احتفظ بالبان والعنم والمها والرشأ والسجنجل... بالوسادة والشرشف والمرآة وأحمر الشفاه والساتان... إلخ.
وها هو المجاطي وهو يرى شغف وانبهار بعض المبتدئين بكلمات جديدة كالكستناء واللازورد والليلك واللوتس والأوركيد يكتب هذه الرسالة إلى محمد الطوبي، والطوبي يَرُدُّ مدركًا عمق القضية بأنه يعيش بين المشاتل حيث الليلك وغيره، وأن هذه المفردات من صميم تجربته وحداثته وصدقه.
محمد الطوبي الذي عاش طفولته ومراهقته في «غابة المعمورة» ومشاتلها الممتدة في القنيطرة سيجعل من قصائده مشاتل تنتج فسائل لغته التي رقَّش بها قصائده. وحين أسميه في هذا المقال «المرقش المغربي» فلأنه رقش قصائده بلغة منتقاة يُحسن توطينها وهو يؤثث بها قصائده، ولأنه من جانب آخر رقش بعض قصائده ودواوينه بخط يده الجميل كما رقش في ظهر الأديم قلم بتعبير المرقش الأكبر.
في ديوان «قمر الأندلسي الأخير» الصادر عن دار البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع بالقنيطرة سنة 1997 نقرأ هذا المقطع الافتتاحي:
كيف أخلو إلى قدحي يا نزارْ؟
يا المسافر في خيلاء الأساطير لا الجرحُ كان غدي 
لا طفولتُك المغربيةُ ترحل عن ذكريات النبيذِ 
وأنت تحب اشتهاء ظلالي وتغريبة البحرِ 
في لغتي حين يفتتحُ القلبُ ما القدحُ العاقُّ يفتح لي 
في هبوب السنونو على موعد الدمع. أي النساءِ
تورطن في وقت غربتنا الذهبية كانت مرايا النهارْ
لمناديل ليلى وقرطاجِ أعراسِها
لخروجِ نصيرةَ من شمس أوراسِها
وأهلَّت نعيمةُ لم يبق لي وطن غيرها لونت
كلَّ ما يحتفي بانتماء الأمازيغ فيكَ
وتعويذَةَ العطر في الجلنارْ
جملة الاستهلال: «كيف أخلو إلى قدحي يا نزار؟» بسيطة التركيب والدلالة، غير أنها مؤثثة جماليًا بالاستفهام والنداء وثلاث كلمات هي مفتاح ما يليها في القصيدة، والديوان «الخلوة والقدح ونزار». وهي قصيرة البناء العروضي إذ تستغرق أربعة تفاعيل من المتدارك، ويعلن فيها بكلمة نزار عن قافيتها برويها المقيد ودخيله الألف.
في السطر الثاني «يا المسافر في خيلاء الأساطير...» يتكرر النداء بصيغة جمالية طريفة تبنتها القصيدة الحديثة التفعيلية والنثرية وهي تحلية المنادي بـ«أل» وهذه التقنية ترددت كثيرًا في الديوان: يا المسافر.../ يا الذي صب لي النار والطيب.../ يا المحمد هذا الخريف عليك... وهذه الجملة ترقى بمجازها ورمزها وتتمرد على الوقفة العروضية القصيرة لتمتد على ستة أسطر باثنتين وأربعين تفعيلة فتنتهي بعبارة «كانت مرايا النهارْ» وهي وقفة عروضية لا تنتهي تركيبا ولا دلالة، إذ إن الوقفة التامة تنتهي في عبارة «شمس أوراسها»، وبالتالي تطول الجملة إلى اثنتين وخمسين تفعيلة. هذا الامتداد وهذا النفَس لا يتركهما الشاعر المصر على ترقيش نصوصه دائمًا عاريين بل يؤثثهما بالرمز والمجاز وأسماء النساء والتكرار.
فالاسم نزار المسافر في خيلاء الأساطير يتبختر في كلمة خيلاء بين رمزين باذخين هما الجد العربي القديم والشاعر العربي الحديث، ونزار هو جرح الشاعر وغده، والولد البعيد الساكن بطفولته المغربية في الذكريات، والساكن بعيدًا عنه في قشتالة (إسبانيا)، وهو حياة الشاعر التي يفتتح القدح أمامه فيها دروب الشجن. هذا التعبير مرقَّش بالنعوت والمجازات وأسماء النساء والأوطان وهي مرقِّشات مزدحمة مُوطَّنة جيدًا ومنتقاة يطرز بها الشاعر أو قل يرقش بها متنه الشعري (القدح العاق/ هبوب السنونو على موسم الدمع/ غربتنا الذهبية/ موسم الدمع/ مناديل ليلى/ قرطاج أعراسها/ خروج نصيرة في شمس أوراسها/ وأهلّت نعيمة/ انتماء الأمازيغ فيك/ تعويذة العطر في الجُلّنار). وفي هذه الصور نعثر على مجازين عاليين بديعين هما هبوب السنونو على موسم الدمع وتعويذة العطر في الجلنار.
والترقيش يتعزز صوتيًا بالتكرار (يفتتح/ يفتح)، والجناس (أعراسها/ أوراسها)، وبنغمية بعض الكلمات كنزار وقرطاج وأوراس والأمازيغ والجلنار، وبتَجاوُرِ بعض الحروف في مواقع متقاربة كالسين والتاء والقاف. 
الطوبي في هذا المقطع يكتب الشجن والغربة، ويعطي لكلمته لونًا وجَرْسًا. ولا يترك لك جملة مباشرة تقع خارج هذه التوشيات الجميلة. أقول القصيدة مشتل لأن هذا المقطع القصير المتكون من اثني عشر سطرًا متوسطًا مؤثث بتسع مجازات، وكناية «وأهلت نعيمة لم يبق لي وطن غيرها» وتكرارات متنوعة باللفظ والحروف والجناس والكلمات ذات الجرْس. 
 القصيدة عند محمد الطوبي مشتل بمغروسات لغوية شتى بيانية وبديعية ونغمية. ومشتل بتوظيف أسماء الزهور والرياحين في ديوانه، إذ نجد كلمات من بيئته كما قال: «الجلنار والرياحين والورد والليلك والنسرين والنرد والشربين والميموزا والقرنفل والبنفسج» هي مشاتل القنيطرة مبثوثة كما كان يود أن يقول للمجاطي. 
وإذا كان الترقيش بالتأثيث الجمالي الكثيف سمة قصائد الطوبي في ديوانه فإن هذا التأثيث لا يكتسب قيمته إلا بتنوعه وبحسن توطينه في النص. وهذا التأثيث مع التوطين الجيد اللذين هما سمتا الترقيش يتجليان في تقنيتين اثنتين:
1ــ الترقيش بالاسم العلم:
جمالية توظيف الاسم العلم في الشعر العربي قديمة أجادها الجاهليون في الافتتاحيات الطللية بذكر الأماكن وأسماء النساء، وكانت هذه الأسماء تتواتر منسابة موقعة بحس وجرْس جميلين وأقدم لذلك مثالا تتوالى فيه أسماء أحد عشر مكانًا في ثلاثة أبيات من قصيدة زهير «عفا القلب عن سلمى» دون أن تحس باحتباس أو تعثر إذ تتوالى بالعاطف الفاء سلسة دلقة:
لمن طَللٌ كالوحي عافٍ منازلُه 
    عفا الرَّسُّ منهُ فالرُّسَيْسُ فعاقِلُهْ
فَرَقْدٌ فّصاراتٌ فأكنافُ مَنْعِجٍ 
    فشرقيُّ سلمى حَوضُه فَأَجَاوِلُهْ
فوادي البديِّ، فالطَّوِيُّ فَثادِقٌ 
    فوادي القَنانِ: جِزعه فأفاكله
وعلى غرار ذلك يقول محمد الطوبي من قصيدة: «لا أنت عبلة... لا أنت ليلى» التي اخترت منها ثلاثة مقاطع مُرَقَّشة تمثيلًا لا حصرًا:
1 - «لستِ عبلةَ حتى يجيئَكِ فارسُ عبس بقافلة النوق مَهرًا ولا أنت ليلى بعشقكِ قيسٌ تُشرده لوعةُ التيه لا الفارس الملكيُّ ولا الهودج الذهبيُّ ولا قصر شيرينَ جاءك يا أنتِ كل الأساطير تقتل فرسانها واحدًا واحدًا». 
تتواتر في المقطع أسماء العلم عبلة وعبس وليلى وقيس وشيرين بحمولتها العاطفية في قصص العرب والفرس. وإدام هذه الأسماء في المقطع رمزيتُها، وبذخها الدلالي في الفارس الملكي والهودج الذهبي وقصر شيرين، وتلك الخلاصة المأساة الجميلة في عبارة «كل الأساطير تقتل فرسانها»، وذلك التكرار الدلالي والنغمي لِلا النافية إذ تتجرد المخاطَبة من سمة الخلود والسمو في المعشوقات: عبلة وليلى وشيرين. ويتأكد هذا التجريد في نعتها مرتين بالضمير «أنتِ» تبخيسًا. فالمقطع ثنائية ضدية بين التمجيد والتحقير.  
2 - «من أي كرٍّ نهارُ القبيلة يبدأ في نشوة القدح الطافح المستطاب وهودج عبلة في واحة الحلم سالف ليلى أريج القصيدة إن مَسَّ سيفا تنهد لو فَزَّ زهْوَ القطا واستفز شغاف المها مال وعد الصبا. شارب الخمر بالخمر إن يتداوى فلا وعد ليلى تغاوى ولا شمسُ عبلة ميلادُ شمسٍ فمن أين فارس عبس سبى صبوةً رقّشتْ سَبْيَها بعدها صبوة زركشت زيها».
توطين الاسمين عبلة وليلى في هذا المقطع يَترقش بمؤثثات أخرى أهمها ذلك التسامي بمعجم البادية العربية: (كر القبيلة، هودج عبلة، زهو القطا، شغاف المها، وعد الصَّبا،سَبْيَها)، وذلك الجمع المجازي والكنائي بين الحب والشعر والفروسية في عبارة «وهودج عبلة في واحة الحلم سالف ليلى أريج القصيدة إن مس سيفا تنهد» وهي عبارة تجد مرجعها الغائر في بيتي عنترة: 
ولقد ذكرتكِ والرماح نواهل 
    مني وبيض الهند تقطر من دمي 
فوددت تقبيل السيوف لأنها 
    لمعت كبارق ثغرك المتبسم
كما يجد قوله: «شارب الخمر بالخمر إن يتداوى» مرجعه الصريح في عبارة أبي نواس (وداوني بالتي كانت هي الداء). 
ويترقش المقطع كذلك بالنغم المبثوث في «فزَّ وزهو واستفزّ» و«يتداوى... تغاوى» و«رقشت سبيها... زركشت زيّها»، وبذلك المزج الجميل البديع بين اليومي في حياة الشاعر مع القدح، والمرجع الثقافي البدوي في قوله: «من أي كر نهار القبيلة يبدأ في نشوة القدح الطافح المستطاب» بتوليفة درامية بين يومه ويوم عنترة في بيته الشهير:
ولقد شربتُ من الْمُدامة بعدما 
     رَكَدَ الهَواجِرُ بالْمَشوفِ الْمُعْلَمِ  
3 - «ليوغرطةَ الْمُلك فتح الفتوحات. مر بمملكتي فاتح بعده فاتح أين هم ذهبوا؟ أنتِ من أين جاء بكِ الهذيان الوجيع؟ لكاهنة المجد قرطاج تشهد أن الملاحم أوراس».
في هذا المقطع يتزين الاسم يوغرطة برمزيته المغربية التي تحيل على الشاعر الطوبي الفاتح في معارك الحب التي تشهد عليها ليلى قرطاج ونصيرة أوراس. فكيف منهما (يوغرطة والطوبي) هذه «الأنتِ» التي جاء بها الهذيان الوجيع. وكلمةُ الوجيع التي تصف الهذيان فَلْتَةٌ في الترقيش إذ استقام بها الوزن واغتنت بها الدلالة على المبالغة عوض الموجع التي تؤدي وظيفة اسم الفاعل العادية.كما يترقش المقطع بهيبة الْمُلك بالتكرار الصوتي في (الملك ومملكتي)، وهيبة النصر بتكرار الفتوحات والفتح أربع مرات دون سقوط في الرتابة لحسن التوطين المنسجم مع تكرار صيغة الاستفهام وضمير المخاطبة بما فيهما من عظمة الشاعر ودونية المخاطبة. 
2ــ الترقيش بمعجم طبيعة ومعمار المشاتل:
معجم الطبيعة في الشعر العربي تنازعته الذاكرة والبيئة. فإذا كان الشعر الجاهلي والأموي في هذا الجانب شعر طبيعة البيئة البدوية بالسدر والأرطى والغضا والسوافي والصَّبا والجَنوب والقطا، فإن الشعر العباسي في المشرق، والأندلسي في المغرب وما بعده تنازعه حنين الشاعر إلى مرجعه البدوي الذي لم يعش فيه أحيانا،ً وبيئته الحضرية التي أعطته معجمًا نباتيًا جديدًا كالنرجس والجلنار والخيري والسوسن إلخ. وهذا التوزع واضح كذلك في العصر الحديث بين شعراء النهضة خصوصا عند البارودي الذي انتصر للذاكرة البدوية وشعراء الرومانسية العربية خصوصًا اللبنانيين الذين انتصروا للطبيعة في بلادهم.
والقصيدة العربية الحديثة التي حاولت القطع مع القديم لم تهجر معجم الطبيعة البدوية ولكن وظفته توظيفًا رمزيًا في أشعارها إذ نجده في قصائد السياب وأمل دنقل والمجاطي... والشاعر محمد الطوبي في رسالته إلى الشاعر أحمد المجاطي يعلن أنه ينتصر لبيئته بمشاتلها الجميلة في القنيطرة، ولكنه لا يلغي معجم الذاكرة وبهما ممزوجين يُرقش قصائده.
ففي قصيدة عمودية تحضر الطبيعة وبعض مرافقاتها الحضارية مرقِّشات، إذ يقول:
لذاكرتي فسقية الطيب كلما 
    توجعتُ كان المشتكى سيف ناصري
على شهوة الطهر الرخيم مواجعي 
    طلوع ربيع من نداء المزاهر 
ومن شمعدان الوقت والفجر شرفتي 
    كموعد حب بالبنفسج زاخر
نزار تذكر غابة اللوز كلما 
    تباهى غنوجا عنفوان الخواصر
وأعطاك تيه العندم الطلق سره 
    نميقا رخاميا رعوش الأساور
من الأعين الشهل ابتهال مشاتل 
    يضيء مع النشوى نشيد المسافر  
تحضر في المقطع كلمات الطبيعة كالبنفسج واللوز والعندم والمشاتل مع مرافقاتها الحضارية كالفستقية والمزاهر والشمعدان والنميق الرخامي مع شعرنة حضورها بالمجاز والتشبيه وجدلية العلاقة بين الطبيعة والمرأة في جمالهما (غابة اللوز تباهي غنوجا عنفوان الخواصر/ تيه العندم نميم رخامي رعوش الأساور/ الأعين الشهل ابتهال مشاتل). 
ورغم البناء التقليدي/العمودي للقصيدة إلا أن التشابيه والمجازات حداثية باتساع الخرق بين طرفي الصورة لاسيما في البيتين الثاني والثالث في عبارات (شهوة الطهر الرخيم ونداء المزاهر وشمعدان الوقت)، وفي تشبيه طلوع المواجع من شهوة الطهر الرخيم بطلوع الربيع من نداء المزاهر، وتشبيه الشرفة القائمة في شمعدان الوقت بموعد حب زاخر بالبنفسج.
هذه الصور لا يرتبط طرفاها بعلاقة منطقية بل بعلاقة نفسية يبنيها الشاعر لخلق عالمه المتفرد والجدلي بين الذات والطبيعة والمرأة. وفي هذا المقطع صنعة تركيبية خفية لا يضعها إلا مرقش جيد. ذلك أن الشاعر في سياق الوصف التعبيري الذي يكاد يؤدي إلى رتابة تركيبية تؤديها الجمل الخبرية الوصفية المتلاحقة عمد إلى كسر تواترها بصيغة خطابية في البيت الرابع أي في وسط المقطع بنداء متخفف من الأداة وفعل أمر (نزارُ تذكّرْ). صيغتان خطابيتان لم تستغرقا أكثر من كلمتين لا يكاد القارئ يشعر بهما لكنهما نقلا التركيب من حال إلى آخر برشاقة ودربة لا يجيدهما إلا مرقش كبير كما قلت.
والترقيش بالصوت في المقطع يتعزز بعناصر عديدة منها أمران ألفتا نظري: الأول هو ذلك الانسجام الصوتي بين الهاء والشين في كلمات تشترك في الصوتين في قوله (من الأعين الشهل ابتهال مشاتل). ففي مساحة ضيقة تتجاورُ ثلاثُ كلمات بتنغيم صوتي عجيب مندمج مع صورة ودلالة المرأة (الأعين الشهل) والحالة النفسية (ابتهال) والطبيعة (مشاتل). والثاني هو كلمة فسقية بما تحمله من متخيل جمالي مرافق لصورتها الصوتية الجميلة. وأشبه بهذه الكلمة في حضورها الصوتي الذي رقش به الشاعر بيته بيت آخر له في الديوان من قصيدة «عميد الناي وعدي» يقول فيه:
أكلما اشتعلت تَرْغُلَّةٌ وَلَها 
    طاش الشذا وانتشى في كرمه العنب
لقد كان بإمكان الشاعر لو لم يكن مرقِّشا أن يوظف كلمة عصفورة بدل ترغلة دون أن يكسر الوزن أو يبتعد عن المعنى، ولكن كلمة عصفورة لا تعطي بهاء وطرافة وتنغيم «ترغلة» وكلمة ترغلة لا تحضر معزولة عن المرقشات الأخرى بل تقترن بثلاث مجازات رائعة (اشتعلت ترغلة ولها، وطاش الشذا، وانتشى العنب في كرمه).
الشاعر محمد الطوبي جمع في الشعر بين الموهبة والصناعة والدراية، والقصيدة عنده لا تجيء إلا مُوَشّاةً منمنمة مؤثثة مرقشة بجماليات التعبير معجمًا وتصويرًا وإيقاعًا. وقد برز كما قدمت في الترقيش بأسماء الأعلام وبمعجم النبات ومرافقاته الحضارية العمرانية مما استوحاه من مشاتل مدينته وغابتها (المعمورة) الزاهية، فكان صادقا مع شعره وتجربته ■