منتدى العربي

 منتدى العربي

ثقافة البطن:
قل لي ماذا تأكل.. أقل لك مَن أنت؟

مطلوب من ثقافتنا تأكيد أننا نأكل لنعيش، لا نعيش لنأكل.

هل يمكن الكتابة في موضوع يلامس الثقافة أو يقاربها من دون الوقوع في مزالق التنظير الكلامي الذي تعوّدنا أن نخوض فيه، ونحن نحاول إما أن نشخّص واقعنا وما يختزنه من علل وأمراض، وإما نرصد مستقبلنا وما سيجلب لنا من تحدّيات ومخاطر؟ وهل يا ترى يسمح لنا بمخاطبة صاحبة المعالي "الثقافة" ودعوتها بالنزول من كرسيها والتجوّل في بطوننا علّها تنجح في مداواة ما نعانيه من مشاكل وأمراض وبذلك تخفيف لما عانته وتعانيه من فشل في عقولنا؟ هل لنا أن نتكلم في موضوع بسيط جداً من دون أن يتخيل البعض أن القصد من ربط الثقافة بالبطن هو من قبيل التهجّم على مَن يمتطي الثقافة من أجل إشباع بطنه؟ ولكن لتطمئن الأغلبية من مثقفينا ونخبنا الفكرية أن المقال لا يعاديهم وأن الخطاب لا يعنيهم. القصة وبكل بساطة هي ربط الثقافة بحياتنا، ومن ذلك الإشارة إلى ضرورة الثقافة في الطعام والشراب كضرورتها في القضايا الفكرية والجوانب العملية والسلوكية لدى الإنسان. لما كانت الثقافة كمصطلح تعود لغة إلى كلمة ثقف وهذه الكلمة تعني التقويم والتعديل لما هو معوج أو منحرف، ولما كانت البطن عندما نسرف في الأكل تتشوّه وتتورّم وتنحرف عن شكلها الطبيعي لتصبح كرشاً قبيح المنظر، ثقيل الوزن، ومضراً بالصحة، ألا يعني هذا أن البطن وبهذه الحالة بحاجة إلى ثقافة تعيد جمالها ورشاقتها وتخفف من وزنها وبالتالي وطأتها على حركة وصحة الإنسان؟! الثقافة بالنسبة للبطن تعني الصحة والرشاقة والنشاط للإنسان، كما هي تعني للفكر التفاعل والتطور والتجدد. حتى موضوع التديّن عند الإنسان بحاجة إلى ثقافة صحيحة وإلا انتهى الإنسان إلى: إما متدين متطرف ينظر إلى الآخرين من واقع الكراهية لهم والتضايق من معاشرتهم والرغبة في التخلص منهم، وإما متدين جامد لا يرى في هذه الدنيا من عمل صالح إلا الصلاة والدعاء، وأما خدمة الناس وتفعيل الدين في حياتهم، فهو من باب حشر الدين في أمور لا تعنيه.

نأكل لنعيش

إذا كانت ثقافة البطن بهذه الضرورة لما لها من علاقة بصحة ونشاط الإنسان، ولما كانت 80% من الأمراض المؤدية للوفيات سببها النظام الغذائي، فما هو المطلوب منا ثقافياً لكي نأكل لنعيش لا نأكل لنشبع أو نمتلئ طعاماً وشراباً ومن ثم تتدلى كروشنا، وعندها تتباطأ حركتنا وتزداد أمراضنا. هناك ثلاث دوائر تتقاطع فيما نصطلح عليه بثقافة البطن، الدائرة الأولى تخص نظرتنا إلى الطعام ومقدار حاجتنا إليه، وأما الدائرة الثانية فهي إضاءة وتنوير في عالم الكيفية التي يتعامل فيها الجسم مع الطعام، وأما الدائرة الثالثة فهي وقفة مع ما اعتدناه من عادات وأعراف فردية أو جمعية شكّلت بمجموعها الصورة التي ألفناها في تناول الطعام، وكما يقال في الوسط الصحي "علّمني ماذا تأكل وكيف تأكل.. كي أعرف مَن أنت".

الحاجة والرغبة

الدائرة الأولى والمختصة بتعديل مفهومنا ونظرتنا للطعام، وهنا تأتي ثنائية الحاجة والرغبة، فالإنسان يأكل لحاجته للطعام والحاجة يشبعها مقدار وما زاد على هذا المقدار، فهو مفسدة وليس منفعة.

الإنسان يكفيه مقدار بسيط من الطعام لسد حاجته، وأهل النظر والخبرة يحددون هذه الحاجة بألفين من السعرات الحرارية، وقد تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً تبعاً للتفاوت في المعدل الطبيعي لنشاط الإنسان. وأما الزائد من الطعام، فتضطر أجسامنا إما إلى طرده وإما تخزينه على شكل أكياس وانتفاخات تتوزع هنا وهناك. هذه الزوائد من أكياس وانتفاخات مع ما تشكّله من ثقل علينا، فهي لها حاجات ضرورية لبقائها والحفاظ عليها، وهنا يصرف جهد كبير من قبل أجهزتنا العضوية لسد هذه الحاجات.

والمشكلة هنا هي اختلاط وتزاحم، بل تقدم عامل الرغبة على الحاجة عند الإنسان، وهذا تأكيد آخر على عدم معرفة الإنسان بمصلحته والحاجة إلى مَن يهديه. وهنا يأتي دور المثل والقيم العليا في المحافظة على الموازنة بين رغبات الإنسان وحاجاته. {وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون} والعبادة بكل أنواعها عمل، والعمل يتطلب الخفة والنشاط والزيادة في الطعام ثقل ومدعاة للكسل والخمول. نأكل لنعيش، لا نعيش لنأكل، هذه مقولة مطلوب التأكيد عليها في ثقافتنا وإلا ذهب جزء كبير من عمرنا للأكل ولمداواة ومعالجة ما يحدثه هذا الأكل من علل وأمراض في أجسامنا. اللقمة الزائدة قد تعني انتقاص ثانية أو دقيقة أو ساعة من عمرنا.

وأما الدائرة الثانية، ففيها تتأكد ضرورة الإلمام بجملة من المعارف حول كيفية تعامل أجسامنا مع الطعام. إن أجسامنا ليست بالأجهزة البسيطة والمطلوب هو التعامل معها بمعرفة وذكاء. فأجسامنا بأجهزتها المتعددة قد تكتسب عادات خاصة بها، وقد تكون لها حسابات وطرق في التعامل مع ما يطلب منها، مثال بسيط في هذا المجال وذلك عندما يبدأ الإنسان بمزاولة نشاط بدني معين، فالجسم هنا عنده حساب جار من الكربوهيدرات وحساب توفير من الدهون، ويبتدئ الجسم أولاً بصرف ما عنده من مخزون كربوهيدراتي ولا يمس حساب الدهون إلا إذا استمر هذا النشاط واستدعت الحاجة للاستعانة بقدر من الدهون لمواجهة هذا النشاط المتزايد، ولمواجهة هذا النقص في المخزون الكربوهيدراتي يبدأ الجسم بإرسال إشارات الجوع طلباً للطعام حتى لا يضطر لأخذ المزيد من الدهون وكذلك لإرجاع وتعويض ما فقد من كربوهيدرات. ومن هنا يقول الأطباء إن هناك جوعاً حقيقياً، وهناك وخز جوع كاذب وما أكثر الطعام الذي نأكله ونحن مخدوعون بهذه الرسائل الكاذبة والإشارات الخادعة. مثال آخر لذكاء أجسامنا وذلك في حالة الحمية أوالدايت، فالحمية تعني إرسال القليل من الطعام إلى الجسم، ولكن هل ندري أن الجسم بعد أن يفشل في تغيير قرارنا من خلال صراخه واحتجاجه المتمثل بتزايد وخزات الجوع والصداع والنحول، يبدأ هو بحمية تمكّنه من التكيّف مع ما يُرسل من طعام ومن دون الاستعانة بمخزوناته. فالجسم هنا ومن خلال شبكة مخابراته يوحي إلى الخلايا بتقليص بعض النشاطات مع الاقتصاد فيما يصرف من طاقة لهذه النشاطات. ولكن تبقى الكلمة الأخيرة للإرادة ولابد للجسم أن يستجيب ويركع إذا ما ثبتت جدّية الإنسان وتصميمه فيما يريد. نحن نعرف أن الجسم هو عبارة عن مجموعة من الخلايا أو الحجر الحية، وكل منها يقوم بوظائف معينة، والإنسان عندما يأكل أكثر من حاجته، فإنه يدفع بالجسم إلى بناء خلايا جديدة وظيفتها فقط الاحتفاظ بالدهن المستخلص من هذا الطعام، وبازدياد هذه الخلايا يكبر الجسم ويزداد وزنه، وفي هذه الحالة، يحتاج الجسم إلى المزيد من الطعام لتزويد هذه الخلايا أو الحجر الحية بالطاقة، وهنا يتحمّل القلب والمعدة والكبد والكلى والبنكرياس وغيرها من الأعضاء المزيد من الأعباء من دون مقابل وظيفي لذلك. وهذه الخلايا أو حجر التخزين لا تهدم بسرعة إذا ما قرر الإن سان تقليل الطعام، وإنما تنكمش ليعود انتفاخها مرة أخرى عندما تُثار إرادة الإنسان أمام الطعام وعودته لالتهام ما لذّ وطاب. وهذا هو تفسير عودة الوزن السابق عند الكثير ممن يأخذون جرعات قصيرة من الحمية الغذائية، والمطلوب هو الاستمرار لفترة زمنية تقنع الجسم بعزم وتصميم الإنسان على تخفيف وزنه، وعندها يضطر الجسم لإغلاق هذه الحجر الزائدة والتخلص منها.

الإسلام وآداب الطعام

أما الدائرة الثالثة، ففيها وقفة فاحصة لعاداتنا في تناول الطعام ومحاولة طرح كل ما ألفناه من عادات سيئة وأن نستبدل بها ما ورد في الإسلام من آداب الطعام، أو ذكره الأطباء من توجيهات ونصائح. الكثير منا يأكل الطعام بسـرعـة ولا يمضغه جيداً، وهذا الأمر يحرم الإنسان من التلذذ بالطعام لعدم بقائه في الفم فترة كافية، والفم هو مكان التذوّق وليس المعدة. وعملية المضغ بحد ذاتها نشاط رياضي لعضلات الفم واللسان والرقبة وكذلك الكتفان. وعدم المضغ الجيد يعني الأكل بسـرعة، وهذا لا يعطي الجسم فرصة لمعرفة إن كان قد أخذ حاجته من الطعام ومن ثم إرسال الإشارات بالشبع، ولهذا نشعر بالامتلاء والتضايق بعد فترة قصيرة من الأكل لأننا قد أخذنا أكثر مما نحتاج من الطعام. الكثير منا يأتي إلى الطعام وهو جائع جداً، وإذا طلب منه أن يشرب ماء أو يأكل تفاحة يرفض بحجة أنه لا يريد إفساد رغبته في الطعام، من الخطأ أن نجلس على طعام ونحن جائعون جداً لأن في ذلك مدعاة للأكل الكثير. ولعل الحكمة في استحباب أكل الصائم تمرات قليلة عند الإفطار هو من هذا الباب. إدخال الطعام على الطعام مفسدة، القليل منا من يتبع هذه القاعدة الذهبية وأما الأكثرية فباب الفم مفتوح، والحجة إما لتذوق الشيء وإما استجابة لدعوة وما يرد دعوة الكريم إلا اللئيم. هذه العادات وغيرها الكثير تتطلب عملاً جراحياً ثقافياً لتصحيحها أو تعديلها، وذلك من خلال التأكيد عليها نظرياً وعملياً في المناهج التربوية والإعلامية. إن التأكيد على الوجبة المدرسية في الدول المتقدمة هو ليس فقط من باب إطعام التلاميذ، وإنما وسيلة لتوجيه وتوعية التلاميذ غذائياً باعتبارهم في مرحلة البناء الذهني والبدني. مادام أكل الطعام نوعاً وكمّاً وكيفاً يرتبط بصحة الإنسان إلى درجة كبيرة، فماذا يعني الإصرار على بعض العادات الخاطئة في تناول طعامنا، ألا يعني هذا الإصرار على الجهل? في تراثنا هناك كنوز ذهبية في آداب الطعام تنتظر مَن يصوغها في عقود من الممارسات نزيّن بها موائدنا ولا يهم إن كان ذلك من الحداثة أو الأصالة أو ما بينهما.

التقدم في حياة الإنسان قد يختص إلى حد كبير بالجوانب المادية، ولكن الحضارة هي الارتقاء بالإنسان في كل جوانب الحياة ولا حضارة من دون قيم ثقافية عالية وسامية. ومن الخطأ أن ننظر للثقافة باعتبارها تمسّ جانباً محدوداً من حياتنا وننسى أن الثقافة هي فن الحياة. وكما قال بيتر ف. دراكر، المنظر الاقتصادي والإداري المعروف، عندما سئل عن رجل الأعمال الناجح في المستقبل وفي مجتمع ما بعد الصناعة أو مجتمع المعرفة "رجل الأعمال الناجح هو الشخص المثقف". ومن هنا تأتي الدعوات التي نسمعها هنا وهناك إلى تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية وأخرى علمية هي من باب التمني والرجاء إن لم تصاحبها تنمية ثقافية ترتفع بالإنسان لترتفع معه الحياة. إن الحديث عن ثقافة البطن هو من باب مدّ البساط الثقافي إلى مناطق منسية في حياتنا، ولعل في ذلك خطوة إلى الأمام في الطريق إلى تنمية ثقافية شاملة.

 

هاشم عبدالله الصالح