«قصبة الأوداية» بمدينة الرباط قلعة الموريسكيين وقبلة سياح العالم

  «قصبة الأوداية» بمدينة الرباط  قلعة الموريسكيين وقبلة سياح العالم

أتذكر جيدًا أنني انتقلتُ إلى العيش في مدينة الرباط، عاصمة المملكة المغربية، منذ ما يناهز خمسة عقود من الزمن، قادمًا من بلدتي الكائنة بالأطلس المتوسط، لأتابع بها دراستي الإعدادية والثانوية والجامعية، وبها اشتغلت أيضًا. وقد مكنتني كل هذه السنوات، من اكتشاف هذه المدينة، والتعرف على معالمها وأسرارها، وتعقب تبدل ملامحها العمرانية والمجالية، وأوضاعها الاجتماعية والثقافية، وكذا تتبع إيقاع نموها وتحولها وتطورها. 
ويكفي، هنا، أن نعود إلى الاستطلاعات التي أنجزتها مجلة العربي، حول مدينة الرباط، على مدى عقود زمنية خلت، لكي ندرك طبيعة تطور المدينة التاريخي، ومدى تحولها العمراني، في فترات زمنية متعاقبة، استنادًا إلى ما دونه كُتَّاب تلك الاستطلاعات عن مدينة الرباط، وإلى ما التقطته عدسات مصوري المجلة من صور ومناظر، تؤرخ لطبيعة تحولات المدينة وتطورها، في اختلاف أوجهها من فترة لأخرى. فإلى هذه المجلة، أيضًا، يعود الفضل في صون ذاكرة مدينة الرباط وأرشيفها البصري، وغيرها من المدن والمناطق في المغرب، وهو ما يجعل من مجموع أعداد مجلة العربي التي ضمت تلك الاستطلاعات عن المغرب، مرجعًا أساسيًا وألبومًا مصورًا للقراء والمهتمين والباحثين والمؤرخين، ممن يستهويهم البحث في تطور المدن، مغربية كانت أو غيرها من مدن العالم، التي أنجزت بصددها «العربي» الكثير من استطلاعاتها الشهيرة. 

لا أحد سينكر، اليوم، مدى التطور الذي تعرفه بعض المدن المغربية، في السنوات الأخيرة، من شمال المغرب إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه، على مستوى الاهتمام بالمعمار، والبنى التحتية، والمشاريع التنموية. ومن بين هذه المدن المغربية التاريخية التي تعرف تطورًا مضطردًا في مجالها الحضري العام، نذكر مدينة الرباط، العاصمة الإدارية، وعاصمة الثقافة المغربية، ومدينة الأنوار، كما تسمى اليوم، وذلك بالنظر لما تعرفه المدينة، على الأقل منذ العقدين الأخيرين، من مشاريع تنموية كبرى، غيرت من ملامحها، هي التي ما فتئت تشهد طفرة نوعية، فيما تعرفه من منجزات ومشاريع تنموية، من بينها منجزات ثقافية وطبيعية ومعمارية بديعة، عرفت طريقها إلى الإنجاز والإصلاح والترميم، فضلًا عن مشاريع أخرى توجد اليوم في طور الإنجاز، وكلها تساهم، اليوم، في تطوير صورة هذه المدينة الأصيلة، في انشدادها إلى ماضيها التاريخي الجميل، وفي اعتزازها بحاضرها المتغير، وأيضًا في انفتاحها على مستقبلها الواعد، بما تضمنته مختلف تلك المشاريع من تجويد مآثر المدينة التاريخية والعمرانية، الشاهدة على مدى عراقتها، بما لها من قيمة تاريخية وحضارية ومدنية، وهو ما يجعل منها واحدة من أجمل عواصم العالم العربي وإفريقيا.
ففضلًا عمّا تم إنجازه في مدينة الرباط، أو هي في طور الإنجاز، من مشاريع جديدة وعصرية من الطراز الرفيع، غيرت من وجه المدينة، نذكر من بينها: «المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، الترامواي الرابط بين مدينتي الرباط وسلا، المسرح الكبير، من تصميم المهندسة المعمارية العراقية - البريطانية زها حديد، متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، برج محمد السادس، فيلا الفنون، المعهد العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي، مكتبة الأرشيف الوطني، إعادة تهيئة محطتي القطار، إنشاء منتزهات خضراء جديدة، إنشاء ملاعب القرب، وحديقة الحيوان، ترميم صوامع المساجد، تهيئة ضفتي نهر أبي رقراق وكورنيش المدينة، إنشاء مولات وفنادق جديدة، إنشاء محطة طرقية جديدة بمواصفات هندسية بديعة، متحف بنك المغرب، وغيرها من المنشآت التي أضفت على المدينة حلة جديدة». ازداد الاهتمام، أيضًا، بترميم مآثر المدينة التاريخية والعمرانية وتجويدها، من قصبات وقصور ومساجد ومتاحف وشوارع وأحياء وأزقة قديمة. ومن بين تلك المآثر التاريخية القديمة والجميلة بمدينة الرباط، التي استأثرت باهتمام خاص من لدن السلطات المغربية، سنتوقف، في هذا التحقيق، عند «قصبة الأوداية» التاريخية والسياحية الشهيرة. 

«قصبة الأوداية»... عظمة ثمانية قرون
قادني الوفاء لمدينة الرباط، إلى تعقب مآثرها التاريخية المشهورة، بغاية إطلاع قارئ مجلة العربي على جانب مما تزخر به المدينة من معالم ومآثر تاريخية متجددة، فكانت البداية مع إحدى قصباتها التاريخية العجيبة، المسماة بـ«قصبة الأوداية» أو «لوداية»، كما ينطقون اسمها، وتقع في جهة الشمال الشرقي للمدينة فوق صخرة، تطل على مصب نهر أبي رقراق والمحيط الأطلسي. ويعود اسم «الأوداية» الذي يرتبط اليوم بالقصبة، على اسم «قبيلة لوداية»، وهي قبيلة «الكيش» الصحراوية، التي يقوم رجالها من القبيلة العلوية بالدفاع عن المدينة ضد هجمات القبائل الأخرى المجاورة، والتي كانت تخدم في جيش السلطان، تم طردها من فاس من قبل السلطان العلوي عبدالرحمن في أواخر القرن الثامن عشر، فاستقرت بقاياها في القصبة.
 وكانت القصبة، في الأصل، كما تشهد على ذلك معالمها المتبقية، قلعة محصنة، تم تشييدها، حسب المصادر المكتوبة، من قبل «المرابطين»، لمحاربة الإمارة الأمازيغية المعروفة تاريخيًا بـ«الدولة البرغواطية»، في عهد السلطان المرابطي «يوسف بن تاشفين»، كان ذلك في بداية القرن الثاني عشر الميلادي، حيث بنى عام 1140م، على مصب نهر أبي رقراق، رباطًا عسكريًا ودينيًا، أطلق عليه اسم «رباط تاشفين»، أو «رباط بني ترغة»، فأصبحت القلعة قاعدة لجيوشه عندما هب لمحاربة الإسبان في الأندلس. 
وتعد «قصبة الأوداية»، من أهم المعالم والمراكز التاريخية لمدينة الرباط، ازدادت أهميتها، حسب المؤرخين، في عهد الموحدين الذين استولوا عليها سنة 1150، ليتم بناء القصبة الحالية على الضفة اليسرى لمصب نهر أبي رقراق، في عهد الخليفة الأول عبدالمؤمن بن علي (أول الخلفاء الموحدين)، فسماها «المهدية»، تيمنًا بزعيمهم الروحي «المهدي بن تومرت»، فجعلوا منها رباطًا على مصب نهر أبي رقراق الذي يفصل بين مدينة الرباط ومدينة سلا المجاورة، وأضافوا إليها قصرًا ومسجدًا، فلعبت القصبة دورًا مهمًا للغاية في استقبال الوفود الرسمية وفي فتح الأندلس، حتى وفاة مؤسسها، ففقدت أهميتها وأهملت، لتحل محلها مدينة رباط الفتح الجديدة، التي بناها يعقوب المنصور الموحدي.
وأثناء حكم السعديين، وبعد أن طرد الملك فيليب الثالث الموريسكيين من إسبانيا سنة 1609م، استقر ألفان من الأندلسيين المنحدرين داخل القصبة، ووظفهم السلطان مولاي زيدان من أجل الدفاع عن الرباط وسلا، وتأمين تحصيل الرسوم الجمركية. ومع قدوم العلويين، إبان حكم مولاي رشيد سنة 1666م، عرفت القصبة أشغالًا متعددة للتهيئة والتوسع أثناء خلافة السلاطين: مولاي إسماعيل، وسيدي محمد بن عبدالله، ومولاي اليزيد.

إصلاحات الموحدين والعلويين
ففي هذين العهدين الأخيرين تحديدًا (عهد الموحدين وعهد العلويين)، وعلى مدى فترات تاريخية، عرفت «قصبة الأوداية» عدة تغييرات وتوسيعات وإصلاحات وترميمات متعاقبة، همت: برجها الشهير، وسورها الأثري، وأسوارها الرشيدية، وأبراجها الملتحمة بجدران القصبة، وهي «الصقالة» و«برج الدار» و«برج الصراط»، وكلها أبراج تتخللها نوافذ صغيرة الحجم، تبرز منها فوهات مدافع حربية، وعددها 68 مدفعًا، وبابها التاريخي المعروف باسم «الباب الكبير»، الذي بني في أواخر القرن الثاني عشر، بطلب من أبي يوسف يعقوب بن يوسف المنصور، في الركن الشمالي الغربي من القصبة، فضلًا عن مسجدها التاريخي المعروف بمسجد القصبة أو المسجد العتيق، وهو أقدم مسجد في مدينة الرباط، شيد عام 1150م، في عهد عبدالمؤمن، ورممت مئذنته من طرف إنجليزي اعتنق الإسلام، اسمه أحمد العلج الإنجليزي، في عهد السلطان سيدي محمد بن عبدالله، وكان الملوك العلويون حتى بداية القرن العشرين، يؤدون به صلاة الجمعة كلما طال بهم المقام بالرباط، فضلا عن قصرها الأميري، وأزقتها الضيقة المزينة بالمزهريات والأغراس على الطريقة الأندلسية، وحديقتها الأندلسية الشهيرة التي أنشئت في القرن السابع عشر الميلادي، في عهد السلطان العلوي المولى الرشيد، ومنشآتها السياحية المختلفة.
 وقد عمل السلطان يعقوب المنصور، في عهد الإمبراطورية الموحدية، التي امتد سلطانها من أعماق الصحراء الكبرى في إفريقيا إلى أجزاء واسعة من شبه الجزيرة الإيبيرية، على توسيع قصبة الأوداية، بعد أن ازدادت أهميتها الاستراتيجية، بحيث جعل منها حصنًا حصينًا يرتاح فيه الجنود، ومخزنًا للسلاح والعتاد والزاد.
ويذكر المؤرخون أن فرنسا أطلقت، خلال فترة أول مقيم عام لها بالمغرب، هو «هوبرت ليوتي» (1854-1934)، سياسة ثقافية وإدارية جديدة، لحماية الممتلكات المعمارية والنقوش التاريخية المغربية التي يهددها الدمار، بسبب الإهمال وعدم الاهتمام بقيمتها. ومن أهم تلك المعالم التي حظيت باهتمام السياسة الفرنسية بمدينة الرباط، وشرعت في أعمال ترميمها، «قصبة الأوداية»، بغاية استعادتها لرونقها، بعد زمن من الإهمال الذي أفقدها قيمتها، حيث قرر المفتش الأول للمعالم التاريخية المغربية «موريس ترانشانت دي لونيل»، وفريق العمل، ترميم البوابة الأثرية للقلعة، وتركيز الترميمات على السياج والأسوار والحصون والجدران الاستنادية.

من حصن حربي إلى قبلة سياحية
تواصلت أشغال ترميم قصبة الأوداية، بعد حصول المغرب على استقلاله، على مدى فترات زمنية متلاحقة، بغاية جعلها تبدو في أبهى حلة، لتكون قبلة سياحية لزوارها، ما جعلها اليوم تستقطب الآلاف من السياح كل سنة، ومن أبرز المعالم التاريخية والسياحية بمدينة الرباط، لكونها تختزل قرونًا من تاريخ المغرب، وتعتبر من بين الأماكن التاريخية الخازنة للموروث الأندلسي الموريسكي، والدالة على مدى تحقق قرون من التعايش والتسامح في بلد منفتح على مختلف أشكال التعدد الثقافي والديني. صُنفت القصبة تراثًا وطنيًا، وصنفتها اليونسكو سنة 2012 ضمن لائحة التراث العالمي للإنسانية، وتحمل دروبها وأزقتها أسماء عائلات موريسكية، كانت قد تدفقت إلى الرباط، هربًا من التنكيل والتنصير بعد سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس، بسقوط مدينة غرناطة، آخر القلاع الأندلسية، فاستقرت تلك العائلات داخل أسوار قصبة الأوداية، حيث امتهن بعضها ملاحة السفن والتجارة البحرية وأعمال القرصنة. وفي القرن السابع عشر، سيصل إلى «قصبة الأوداية»، آخر الموريسكيين المطرودين من الأندلس، حاملين معهم فنونًا وأفكارًا وأساليب العمارة والعيش والعادات والطبخ واللباس، حيث يشهد لهم بكونهم شيدوا في القصبة أندلسهم المفقود، وشرعوا في ترويج تجارتهم البحرية. ويسجل للموريسكيين أنهم أعادوا، بدورهم، ترميم القصبة وتحصينها بعدد من الأسوار، لتعزيز حمايتها، وأثثوا مداخل القصبة بأبواب تمت زخرفتها بنقوش أندلسية أصيلة، فحافظت المنازل على المعمار القديم الذي كان سائدًا في المدن الأندلسية، وخاصة في غرناطة وإشبيلية.
وكانت النساء، داخل القصبة، يمضين وقتهن في حياكة المناديل الأندلسية المشهورة في المدينة، المخططة بالأبيض والأحمر، وهي المناديل نفسها التي ورثناها عن أجدادهن، وفيها حملن أمتعتهن في رحلة هجرة قسرية، من الأندلس إلى الضفة الجنوبية من البحر المتوسط.
ولم تكن قصبة الأوداية بمنأى عن الفترات المضطربة في تاريخ المغرب، تلك التي لم تستطع فيها الدولة المركزية بسط سلطتها، فأعلن الموريسكيون في الرباط عن تشكيل «كيان ذاتي صغير مستقل» على ضفاف نهر أبي رقراق، يجاهد ويعتاش على ما يحصله من مداخيل ميناء المدينة، ومن غنائم أعمال القرصنة، لكن مع بداية حكم العلويين، سيتمكن ملوكهم من بسط سيطرتهم على قصبة الأوداية، وإنهاء سيطرة الموريسكيين عليها. 

القصبة اليوم
عرفت «قصبة الأوداية»، في السنوات الأخيرة، في إطار «مشروع أبي رقراق»، إدخال عدد من الإصلاحات والترميمات التي طالتها، وعلى مستوى جميع واجهاتها، وبمعايير وطنية ودولية، بما في ذلك تبليط شارع الجامع، بشكل جعل القصبة تعرف تغييرات جمالية لأول مرة، نقلتها من حالة إلى أخرى، بمثل ما زادت من رونقها وجاذبيتها، ومن أهم تلك الإضافات العجيبة، النفق التحت أرضي الجديد والبديع أسفل القصبة، المسمى «نفق الأوداية»، أشرفت على تنفيذه مجموعة «بزاروتي ألبي. دو. كو» الإيطالية، وذلك لتجاوز مشكلة حركة السير على طريق المرسى والكورنيش، والحد من درجة التلوث والازدحام والاكتظاظ، التي كانت تعرفها الطريق المحاذية للقصبة في المستوى الأرضي. 
وقد خص المؤرخ وعالم الآثار، الخبير في التراث والمتخصص في مدينة الرباط، الأستاذ محمد السمار، مجلة العربي ببعض الإضاءات الجديدة عن قصبة الأوداية، يذكر منها (أن القصبة اليوم، في إطار «مشروع مدينة الأنوار»، عرفت إعادة ترميم أسوارها وأبراجها وأبوابها، وتأهيل وإعادة هيكلة شارع الجامع وزنقة بازو بكاملهما، بتبليطهما وتغيير واجهتيهما وأبواب محلاتهما، بمثل ما تمت إعادة تأهيل «مقهى الأوداية»، وتجديد الإنارة بالقصبة، وترميم «متحف الأوداية»، وغيرها من الأوراش التي تم معها النهوض بالطابع المعماري والسياحي والثقافي لقصبة الأوداية. ويضيف الخبير محمد السمار، أن القصبة عرفت بأنها كان لها دائمًا دور دفاعي وجهادي، فعرفت بكونها تشكل النواة الأولى للمدينة الإسلامية في الضفة اليسرى لنهر أبي رقراق). 
ويواصل عالم الآثار محمد السمار، حديثه بإضافة محطة جديدة إلى مجموع المحطات التاريخية المهمة التي مرت بها قصبة الأوداية، مفادها أن («وكالة أبي رقراق»، في إطار مشروع «مدينة الأنوار» الجديد، ستنهض بترميم الدور الآيلة للسقوط بقصبة الأوداية، واستكمال مشروع تبليط الأرصفة، والاهتمام بباقي الشبكة الحضرية ودور السكن المتواجدة بالقصبة).
وسياحيًا، تنفرد «قصبة الأوداية»، اليوم، بشهرة عالمية واسعة، باعتبارها منطقة جذب سياحي، لكونها تتوفر على مآثر تاريخية عديدة، وتتميز بإطلالتيها المائيتين، واحدة على نهر أبي رقراق وأخرى على المحيط الأطلسي، وهو ما جعل منها قبلة للزوار والسياح، من داخل المغرب وخارجه، ممن يحجون إليها، في مختلف فصول السنة، للاستمتاع بمعالمها التاريخية، وبطرازها الأندلسي الخاص، وبفضاءاتها المختلفة والمدهشة، ومناظرها الخلابة التي تجذب إليها أنظار زوارها، من أزقة وممرات ضيقة بلونها الأبيض والأزرق، وهي تذكر أهلها وزوارها، في ذلك، بالمدن الأندلسية، فضلاً عن حديقتها الأندلسية، وزهورها المعلقة، وأبوابها ومتاحفها ونافوراتها ومقاهيها، وتبدو شرفات مفروشة تقدم لزوارها إطلالات رائعة على نهر أبي رقراق ومدينة سلا.
موازاة مع هذه الفضاءات المختلفة، تتميز قصبة الأوداية بتوفرها على معالم تاريخية أخرى، خضعت، هي أيضًا، لبعض الترميمات التي مكنتها من الصمود ومقاومة الزمن، منها «صقالة برج خنزيرة»، المطلة على المحيط الأطلسي، وترجع إلى عهد السلطان سيدي محمد بن عبدالله، شيدها سنة 1757م، وأنجز تصميمها أحد العلوج المعروف بأحمد الإنجليزي، و«مستودع المولاي اليزيد»، وهو مبنى عسكري علوي، يرجع إلى السلطان المولاي اليزيد، شيده ما بين 1790 و1792، و«ساحة السيمافور»، وتعرف عند ساكنة الأوداية بساحة لهري، نسبة إلى مستودع المولى اليزيد، عرفت باسم ساحة السيمافور إبان عهد الحماية، لتواجد السيمافور بها، وذلك قبل بناية «منارة مراكش».
وفي الفترة الأخيرة، مكنت أشغال تجريف وإعادة تهيئة ضفتي نهر أبي رقراق، وكذا ترميم بعض المواقع الأثرية بمدينة الرباط، كباب البحر والصقالة، من اكتشاف مجموعة من اللقى الأثرية، من بينها: مراسي، وأعمدة، وتيجان رخامية، ومجموعة من المدافع وذخيرتها، تم وضعها في «موقع رباط تاشفين»، الذي تم اكتشافه مؤخرًا بمحاذاة الباب الكبير، وتم العثور فيه على بعض المعالم التاريخية، التي تؤكد احتواءه لأساسات الرباط المرابطي.

وجهة السياح المفضلة
 وتوفر هذه الفضاءات مجتمعة للزوار والسياح أوقاتا من الراحة  والاستمتاع، في حضرة كؤوس الشاي الأخضر بالنعناع، والذي يتم تحضيره على الطريقة المغربية المعروفة باسم «الزيزوا»، ويقدم مصحوبًا بالحلويات المغربية الأصيلة: «كعب الغزال» و«غريبة» و«بريوات» و«كوكو» و«محنشة» و«لكعك»، وغيرها من أنواع الحلويات، سواء تلك المعروضة أمام زبناء «مقهى الأوداية» بجوار الحديقة الأندلسية، أو تلك التي يعرضها نادل المقهى أمام زبنائه، وهو يتجول حاملاً صحنًا كبيرًا مملوءًا بالحلويات، أو تم ذلك في «مقهى دار الكرم» الجديد، بقعداته المختلفة، وبإطلالاتها البانورامية الجميلة على نهر أبي رقراق، وعلى «سفينة الضوء» الراسية على ضفته، من جهة الرباط، وهي السفينة التي تم تشييدها عام 2009، تبلغ مساحتها 500 متر، وتشكل تحفة فنية عائمة، في احتوائها على مطعم علوي ومقهى وناد سفلي، وأيضًا بما يوفره سطح السفينة لزوراها من متع بصرية رائعة، نهارًا وليلاً، تمكنهم من التقاط الصور وإعداد الفيديوهات، ستؤرخ حتما لزياراتهم تلك.
 كما تسمح تلك الإطلالات البانورامية من أعلى القصبة، من رؤية منظر القوارب الصغيرة، وهي منتشرة في نهر أبي رقراق، ومن بين وظائفها العبور بساكنة الضفتين وزوارها من ضفة لأخرى، بمثل ما ستمكن تلك الإطلالات من رؤية صومعة حسان، وضريح محمد الخامس، وجسر أبي رقراق بهندسته المعمارية البديعة، الذي يربط بين مدينتي الرباط وسلا، والمسرح الكبير، وفي الأفق يبدو برج «محمد السادس»، أطول برج في إفريقيا، شاهقًا، يعانق نجوم السماء. وكلها مواقع ومناظر، وإن كانت تبدو غير بعيدة عن قصبة الأوداية، فتبقى مدينةً للقصبة، ولموقعها العلوي، بما تمنحه إطلالاته المختلفة على الماء، جهة النهر والبحر، من متعة رؤية محيط القصبة النهري والبحري من عل، في تنوع معالمه التاريخية والحديثة.
 وأتذكر جيدًا، أن حديقة الأوداية، كانت قد شكلت بالنسبة لنا نحن الطلبة، في مرحلة زمنية ماضية، مرتعًا للمطالعة وللتلاقي، جراء ما تسمح لنا به الحديقة من فرص جميلة للمطالعة والقراءة، ونحن نتمشى بين ممراتها المزهرة، ذهابًا وإيابًا، طولاً عرضًا، فكنا نظل هناك على مدى الفترة المسائية، إلى أن تغلق الحديقة أبوابها، فكان يؤمنا «شارع النصر» الشهير بمدينة الرباط، المضاء ليلاً، لنواصل المطالعة، استعدادًا من كل واحد منا لما ينتظره من امتحانات مصيرية.
ويعتبر «المتحف الوطني للحلي»، الكائن داخل حديقة الأوداية، من بين أكثر الأماكن جاذبية للزوار والسياح، أنشأه الملك المولى إسماعيل في القرن السابع عشر، بأسلوب عمارته الجذاب، وقد تمت إعادة ترميمه وتجديده، ويشتهر بما يعرضه داخل أروقته من فساتين مغربية تقليدية وجلاليب وملابس تاريخية، عربية وإسلامية وأمازيغية وإفريقية، ومن مجوهرات وآلات موسيقية، فضلاً عن نماذج من الأواني الفخارية وأسلحة قديمة.
 وإلى جانب ما توفره «قصبة الأوداية» من مشاهد مذهلة، تروق زوارها، وتثير إعجابهم، وتشد أنظارهم، وخاصة لحظة غروب الشمس، في إطلالتهم من أعلى القصبة، على منظر آخر لا يقل، هو أيضًا، روعة وجمالا، هو شاطئ الرباط، وهو يغص كل مساء بالموائد المعروضة على جنباته وفوق رماله، استعدادًا من ساكنة القصبة وزوارها لتناول وجبة الإفطار خلال شهر رمضان الفضيل، وفي الأفق يبدو بحر المحيط الأطلسي، في زرقته الممتدة نحو مدى غير محدود، في منظر رومانسي جذاب، وكلها مواقع ومناظر توفر لزوارها ما يحتاجونه من أسباب الاستمتاع والاستجمام، خاصة وأن حي القصبة اليوم، يبدو خاليًا من كل أشكال التلوث؛ إذ لم يعد يحتوي على أية ورش أو مصانع، ولا تدخله لا الحافلات ولا السيارات، بل إن حركة بعض الزوار والسياح أصبحت تتم، اليوم، لمن يبتغي ذلك، عبر ما سمي بـ«التاكسي الأخضر»، الخالي من أي مصدر للتلوث، وهو عبارة عن دراجة/ عربة هوائية، تنقل زوار القصبة والتجوال بهم، داخل فضاءاتها الداخلية والخارجية، في وقت لازال فيه حي القصبة يحتفظ، إلى اليوم، بفرنه التقليدي، وفيه يتم طهي الخبز لساكنة الحي.
وكل هذا، يجعل من قصبة الأوداية موقعًا سكنيًا وسياحيًا هادئًا وفي غاية الجمال والروعة، في اختلافه عن بقية المواقع السياحية الأخرى التقليدية والعصرية بمدينة الرباط، بالنظر لما أضحى يتمتع به حي الأوداية من سكينة وهدوء، تزيد من فرص الاستمتاع، عبر الوقوف أمام عديد من المشاهد الفنية البديعة، كما تعكسها جدران أزقة الحي، وأبواب منازله، وهي تحكي عن آلاف الحكايات، لأناس عبروا المكان أو أقاموا فيه، عبر مئات السنين، وعن عديد من المعارك التي شهدتها قصبة الأوداية، التي كانت، في البداية، قاعدة عسكرية، ومنطلقًا للجنود المغاربة في اتجاه إسبانيا.

فضاء إبداعي
قصبة الأوداية: من حارس لمدينة الرباط، في القرون الوسطى، إلى فضاء للإبداع، في العصر الحديث.
 موازاة مع ذلك، صارت «قصبة الأوداية» قبلة لعديد من الفنانين التشكيليين والمصورين، ممن استلهموا مناظرها في لوحاتهم وخلدوها في صورهم، وللموسيقيين والسينمائيين والشعراء المغاربة والأجانب، وقد فجرت لديهم القصبة طاقات الإلهام والإبداع والشاعرية والاستمتاع.
وفي هذا الإطار، شكل أحد المناظر المدهشة في «قصبة الأوداية»، ممثلاً في ذلك المنظر الطبيعي للقصبة من زاوية نهر أبي رقراق، قبلة فنية لعديد من الفنانين التشكيليين المغاربة والأجانب، ممن استلهموه في لوحاتهم، في تبدل أزمنته، وفي تغير شكل منظره العام بين أوقات النهار والمساء والليل، وكلها أشكال شاعرية وحلمية، تحقق جاذبية خاصة للزوار، وتستأثر باهتمام عديد من الفنانين العالميين المتعاقبين على زيارة القصبة، لاستلهام مناظرها المختلفة. كما شكلت قصبة الأوداية، مصدر إلهام لبعض الفنانين المغاربة، ممن استغلوا فترة جائحة كورونا، فدخلوا في ورشة عمل فنية افتراضية، استلهموا فيها القصبة، في لوحاتهم الفنية.
 فضلاً عن ذلك، أصبحت قصبة الأوداية تحظى باهتمام السينمائيين، وأصحاب الفيديو كليبات، والأفلام الوثائقية، والأدباء، ممن شكلت بالنسبة لهم، كفضاء وتاريخ، مصدر إلهام، لتصوير أفلامهم السينمائية ومسلسلاتهم التلفزيونية، بمثل ما أضحى تاريخ القصبة، وخصوصًا في حقبته الموريسكية، مرجعًا تتمثله أقلام الروائيين في بعض نصوصهم الروائية، المستوحية في جزء منها، لتلك الحقبة التاريخية، ويكفي أن نشير، بهذا الخصوص وعلى سبيل المثال، لرواية محمد الأشعري «علبة الأسماء»، في بحثها، في جانب منها، عن زمن مفقود لمدينة الرباط القديمة، ولمعمارها الأندلسي، من خلال عائلات أصلية تعود أصولها إلى الأندلس، استوطنت قصبة الأوداية التاريخية، حاملة معها إرثها الثقافي والاجتماعي، لكنها انقرضت، بعد أن حرست المدينة القديمة بالرباط لسنوات طويلة، قبل أن تطالها تحولات عمرانية جارفة، غيرت من معالمها ومن معاني الحياة فيها.
كما باتت مواقع القصبة المختلفة، مسرحًا تقام عليه المهرجانات الفنية، مثل «مهرجان جاز الأوداية»، الذي كان ينظم سنويًا داخل ساحاتها وأسوارها، منذ عام 1996، بمشاركة أشهر عازفي الجاز، وأشهر فرق الجاز، من مجموعة من الدول الأورو- متوسطية والعربية، الغنية بالتعبيرات الموسيقية المتنوعة، مثل البرتغال وفنلندا وفرنسا والسويد وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وهولندا وألمانيا ولبنان وسورية وتونس والمغرب، وذلك بهدف إظهار التمازج الثقافي الأورو-متوسطي، العربي الأندلسي، ومدى تأثيره في موسيقى الجاز العالمية، التي تعتبر غالبًا أمريكية، وأحيانًا يتم المزج في دورات المهرجان بين عازفي الجاز الأجانب والموسيقيين المغاربة، في خطوة يهدف من ورائها منظمو المهرجان إلى تقريب موسيقى الجاز من الموسيقى التراثية المغربية.
 ومن بين الموسيقيين المغاربة الذين ارتبطوا بقصبة الأوداية «الإخوان ميكري» (حسن ويونس ومحمود وجليلة)، وكانوا يشلكون فرقة موسيقية - غنائية شهيرة بالمغرب، في ارتباطها بالقصبة، فاختارها أحدهم مستقرا له، على مدى يناهز أربعة عقود، بمثل ما اختارها فضاء لتصوير أحد كليبات أغانيه الشهيرة. كذلك اشتهرت القصبة باستضافة عديد من الشخصيات، من أمراء وسياسيين وفنانين وتشكيليين، مغاربة وأجانب، ممن حولوا عددًا من بيوتها إلى إقامات خاصة بهم، ومن بينهم من يتوفرون على دور وورش فنية فيها، كما هي الحال بالنسبة لـ«الفنان المغربي ورجل السياسة الراحل المحجوبي أحرضان»، الذي أبدع في ورشته الكثير من أعماله التشكيلية، وكتب فيها مذكراته، و«عائلة العلوي»، و«الفنان لويغا». 
ويعتبر باب رواق «باب الأوداية»، المعروف باسم «الباب الكبير»، من أجمل أبواب العمارة الموحدية في المغرب، ومن أهم الأروقة الأثرية بالعاصمة الرباط، بعد رواق «باب الرواح» التاريخي، ويعرف الرواقان معا حركة فنية نشيطة، عبر استضافتهما، إلى جانب غيرهما من الأروقة الفنية التي تعج بها مدينة الرباط، لمعارض عديد من الفنانين التشكيليين المغاربة والأجانب، وأحيانًا يستضيف الرواق الواحد أكثر من تجربة فنية، في اختلاف تصورات أصحابها وأساليبهم في التعبير الفني.
 وتشاء المصادفات أن إعداد هذا الاستطلاع، صادف إقامة معرض تشكيلي برواق «باب الكبير»، تُعرض فيه الأعمال الفنية الأخيرة للفنانة التشكيلية والشاعرة المغربية ليلى بنحليمة، وقد بدا يعرف إقبالاً عليه، من الزوار المغاربة والأجانب. وقد اغتنمنا مناسبة إقامة هذا المعرض، فوجهنا للفنانة ليلى بنحليمة سؤالاً عن دلالة عرض أعمالها الفنية بهذه القاعة التاريخية، فردت بقولها: «إن عرض أعمالي برواق باب الكبير بقصبة الأوداية، يمثل بالنسبة لي حياة ثلاثين سنة من الرسم. لقد أخذت أولى دروسي في الرسم هنا، وشاءت الأقدار أن أجد نفسي بالمكان ذاته، أعرض أعمالاً كبيرة الحجم، وأخرى صغيرة، أستقبل زوارًا من المغرب ومن بلدان العالم، وجلهم يعبرون لي عن مدى إعجابهم بخصوصية أعمالي، وبحريتي في التعبير، وبقوة الألوان المستعملة».
وإلى جانب رواق «الباب الكبير»، تنتشر معارض ودكاكين فنية أخرى، سواء منها التي يضمها «المقهى الأدبي وغاليري نويغا»، أو تلك المنتشرة في بعض فضاءات القصبة، على امتداد شارع الجامع أو داخل دكاكينه، أو في بعض أزقة القصبة، وهي لفنانين محترفين وأخرى لفنانين موهوبين وفطريين، ممن يعرضون أعمالهم الفنية أمام زوار القصبة، إما معلقة على جدران أزقتها، أو معروضة على أرصفتها، وكلها مؤشرات على مدى المكانة التي أصبح يحتلها الفن التشكيلي داخل قصبة الأوداية، ما يضفي عليها مسحة جمالية بديعة، ويجعل منها اليوم مزارًا فنيًا، متعدد الأبعاد والمواقع والزوايا والأساليب. 

العهد الجديد
وأمام أشكال هذا التحول الإيجابي الذي تعرفه قصبة الأوداية، وخاصة في العهد الجديد، فإن غيرة ساكنة القصبة على حيهم، تظل دائمًا قائمة، وتدفع بهم، باستمرار، إلى المطالبة بالعناية بحيهم، وبتجويد أشكال الحياة داخله، بما يساعده على الحفاظ على إرثه التاريخي، وعلى رونقه، وإضفاء مزيد من البهاء على فضاءاته ومزاراته، فضلًا عن حرصهم المتواصل على النهوض بحيهم التاريخي وعلى نظافته، بما يوسع من إشعاعه التاريخي، ومن صيته السياحي الدولي، وقد عبر لنا أحد ساكنة الحي الغيورين، هو الفنان عبدالغني بليوط، ممن لا يتوانون في تنبيه من يهمهم أمر هذه القصبة التاريخية، إلى ما يجب استدراكه وإنجازه من أشغال عالقة أو مستحدثة، في قوله: «أقترح على الجهات المسؤولة أن تولي مزيدًا من الاهتمام للأنشطة الثقافية داخل القصبة، واستغلال فضاءاتها الجميلة لتنظيمها، وإعادة «مهرجان الجاز» إلى مكانه الأصل، الذي هو القصبة، بما يساهم في تحريك السياحة بشكل كبير، اعتبارًا لكونها قصبة سياحية بامتياز، وأدعوهم، في الوقت نفسه، للعمل على أن تستعيد قصبة الأوداية اللون الأزرق - إلى جانب اللون الأبيض - الذي كانت تطلى به بعض الأجزاء الخارجية من جدران أزقتها وبيوتاتها. وبما أن حي قصبة الأوداية، أضحى، اليوم، (حي الفن بامتياز)، فلم لا يتم تحويل حيطانها إلى جداريات فنية، شبيهة بتلك المتواجدة في مدينة أصيلة، والتي تتجدد في كل دورات موسمها، ومن شأن ذلك أن يساهم في الإضافة إلى جمالية شوارع الحي وأزقته وممراته وواجهاته. كما أدعو إلى توفير مزيد من وسائل الراحة والاستجمام داخل القصبة التاريخية، والتعريف بها محليًا ودوليًا، بشكل يساهم في التعريف بتاريخ البلد ككل. ومن شأن تمديد أوقات زيارة الحديقة الأندلسية ومتاحفها ومقهاها، أن يمكن الزوار والسياح من فرص الاستمتاع أكثر بروعة أجوائها طيلة أوقات النهار والمساء» ■