العالم الإسلامي وصناعة الورق في العصور الوسطى

العالم الإسلامي وصناعة الورق في العصور الوسطى

تقول إحدى الروايات إنّ العالم الإسلامي عرف الورق عقب معركة «طلاس» (Talas)، جنوب كازاخستان، عام 751م، الواقعة على طريق الحرير. فقد هزم القائد العربي زياد بن صالح الجيش الصيني في سهوب آسيا الوسطى، وعاد إلى قواعده في سمَرْقند (أوزبكستان)، مصطحبًا عددًا من الأسرى الصينيّين من بينهم عدد يتقن صناعة الورق. وفي سمَرْقند استغلّ أولئك الأسرى الموارد المحلّيّة من القُنَّب وخِرق الكتّان، فضلًا عن المياه المتوافرة في قنوات الري التي يرفدها نهر طرفشان، فأسّسوا مصنعًا للورق، فاشتُهرت المدينة بجودة الورق الذي أنتجته على مدى قرون. 

 

لكنّ هذه الرواية تبقى مجرّد حكاية، وربّما مصطنعة، ذكرها المؤرخ العربي الثعالبي (ت 1038م) بعد ثلاثة قرون من وقوع المعركة، في كتابه «ثمار القلوب في المضاف والمنسوب» الذي أفرد فيه فصلًا للحديث عن خصائص مختلف البقاع وصفاتها وما تنفرد به. وقد ذكر في هذا السياق أنّ إحدى خصائص سمَرقند هو الورق، الذي يبدو أفضل وأكثر مرونة وسهولة في التعامل معه، وأكثر ملاءمة للكتابة عليه من قراطيس مصر (ورق البَردي) أو الرَّقّ. وينقل الثعالبي عن صاحب كتاب «المسالك والممالك» المجهول قوله في سبي زياد بن صالح الأسرى الصينيين وعلاقتهم ببدء صناعة الورق في سمَرقند. وما يدعم عدم صحّة رواية الثعالبي أنّ مصدرًا صينيًا معاصرًا هو دو هوان (Du Huan) الذي وقع أسيرًا في قبضة المسلمين، ثم عاد إلى وطنه بعد عشر سنوات من تاريخ المعركة، يذكر النسّاجين والرسّامين وصانعي الذهب والفضّة من بين الصينيّين الذين سباهم المسلمون، بيد أنّه لم يذكر صنّاع الورق أبدًا.
مهما يكن من أمر، فقد انتشرت صناعة الورق في جميع أرجاء آسيا الوسطى بحلول القرن الثامن. ويجب ألاّ يُنسَب الفضل إلى الأسرى الصينيّين في تعريف سكّان آسيا الوسطى بالورق وبصناعته، إذ استُخدم الورق في سمَرْقند، وربّما صُنع هناك قبل عقود من معركة «طلاس».
ما أن عرف مسلمو آسيا الوسطى الورق، حتى انتشرت مصانعه بوتيرة متسارعة في بلاد فارس والعراق والشام ومصر والمغرب حتى وصل إلى الأندلس. وكما كان الانتشار السريع للإسلام، في القرن السابع، حدثًا غير مسبوق في تاريخ البشرية، كذلك كان إدخال الورق وصناعته في العالم الإسلامي في القرنين التاسع والعاشر إنجازًا تاريخيًّا وتقنيًّا رائعًا، عَمِل على تغيير أوضاع المجتمع الإسلامي عقب انتشاره.

الورق البغدادي
احتضن العراق الخلافة العبّاسية منذ القرن الثامن. وقضى قرار الدواوين العبّاسية باستخدام الورق بوصفه حاملًا للكتابة في السجلاّت  الرسمية وتدوين الوثائق بدور فعّال في قبول الورق في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. فقد أمر الخليفة أبو جعفر المنصور وزيره خالد البَرْمَكي باستبدال الأوراق المفردة بالسجلاّت على هيئة الكتب (codices). لكنّ الكتّاب المسلمين واصلوا استخدام ورق البَردي في أعمال الدواوين في عهد الخيفة العبّاسي الثاني أبي جعفر المنصور. ويذكر ياقوت الحموي (ت 1229م) أنّ الخليفة هارون الرشيد أسّس أوّل مصنع للورق في بغداد عام 794-795م. لكنّ ابن خلدون (ت 1406م) كان أكثر تحديدًا حين ذكر أنّ الفضل بن يحيى البَرْمكي، وزير هارون الرشيد، فهو الذي أمر بصناعة الورق واستخدامه في الدواوين، واتّخذه الناس من بعده صُحفًا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية. ومن ثمّ توافرت كميات كافية من الورق للكتّاب في الدواوين، إذ سرعان ما أصبحت بغداد مركزًا لصناعة الورق. 
ازدهرت صناعة الورق في بغداد، وأمّن السكان إمدادات كبيرة من الخِرق لمصانع الورق، وضخّت أنهارها وقنوات الري فيها مياهًا كافية لإدارة الدواليب في مصانع الورق. وعدّ بعض الناس الورق البغدادي أفضل أنواع الورق، حتّى إنّ المصادر البيزنطيّة أشارت إلى الورق أحيانًا باسم «البغدادي». ويشير القلقشندي (ت 1418م) إلى الجودة العالية التي تمتّع بها الورق البغدادي، ويعدّد تسعة أحجام لقَطْع الورق، كان أكبر قَطعين منها هما: القَطع البغدادي الكامل (110x73سم)، والقَطع البغدادي المصغّر (98x65سم). 
وغدت «الوِراقة» عملًا تجاريًّا متوسّعًا، فاكتظّ سوق الورّاقين جنوب غربي بغداد بأكثر من مئة حانوت لبيع الورق والكتب. ويمثّل مصحف صغير الحجم كتبه الخطّاط البغدادي الشهير ابن البوّاب (ت 1032م)، إحدى أقدم العيّنات من الورق يمكن ربطها ببغداد مباشرة.
حين اجتاح هولاكو بغداد عام 1258م، أحدث فيها دمارًا هائلًا، لكنّ الورق البغدادي احتفظ بجودته. ومع تدهور أوضاع المدينة وتراجع مكانتها على مدار القرن التالي، وهجرة بعض صنّاع الورق من العراق باتجاه دمشق أو القاهرة، وإقبال بعض المسلمين على استخدام الورق الأوربي المستورد، انخفض إنتاج الورق البغدادي، وغدا عزيزًا في القرن الخامس عشر، بعد نهب تيمورلنك بغداد عام 1401م، والمذبحة التي أوقعها بسكّانها، وكان يُستخدَم حصرًا لنسخ الوثائق المهمّة، مثل المعاهدات، ووثائق التنصيب، ومكاتبات الأمراء.  

في بلاد الشام
تنقّل الخليفة هارون الرشيد بين مدينتي الرقّة والرافقة الواقعتين شمال بلاد الشام قرب منتصف مجرى نهر الفرات في أواخر القرن الثامن، ليكون قريبًا من الحدود البيزنطية لردع البيزنطيين عن اجتياح أعالي الشام، فأصبحت الرقّة المركز العسكري والإداري المؤقّت للدولة العبّاسية، وشيّد فيها الرشيد قصورًا كبيرة، فاتّسع العمران فيها وعرفت الورق. وينبغي أن تكون صناعة الورق قد دخلت إليها من العراق. كذلك بدأت في القرن العاشر صناعة الورق في مدينة مَنبج الواقعة في القلب من منطقة امتازت بخصوبة التربة على نهر الساجور شمال غربي الرقّة، وتمتّعت بموارد وفيرة من المياه. 
وأشار بعض الجغرافيين في القرن التاسع إلى وجود مصنع للورق خارج أسوار دمشق على أحد روافد نهر بردى. ووُجِدت مصانع أخرى في مدينتي حماة وطرابلس، في حين لم توجد مصانع للورق في مدينة حلب، بسبب غياب مجرى مائي فيه تيّار قوي يكفي لتشغيل الدواليب. وذكر الجغرافي المقدّسي (ت نحو 990م) في القرن العاشر الورق الذي صدّرته دمشق إلى مختلف المدن والبقاع. 
بحلول القرن الثاني عشر، باتت صناعة الورق صناعة رئيسة في بلاد الشام، وصُنِع الورق في مجموعة متنّوعة من القَطع والأوزان. ولم تزل صناعة الورق نشطة في دمشق في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وذكر القلقشندي أنّ مصنعًا أنشئ في دمشق لإمداد الكتّاب باحتياجاتهم من الورق، وأنّ ذلك المصنع أنتج ورقًا لا يقلّ في جودته عن الورق البغدادي. وارتبطت صناعة الأوراق الجميلة بالشام عدّة قرون، بل إنّ الغرب اللاتيني عرف الورق أحيانًا باسم «الورق الدمشقي».
بعد الدمار الذي أحدثه الطاعون في منتصف القرن الرابع عشر، اضمحّلت صناعة الورق في بلاد الشام، أضف إلى ذلك تردّي الحالة الاقتصادية في عهد سلاطين المماليك ونوّابهم. ولم تلبث أن انهارت صناعة الورق تمامًا بعد أن استولى تيمورلنك على دمشق عام 1401م، إذ أمر بجمع أفضل الحِرَفيين في دمشق واصطحبهم إلى عاصمته سمَرْقند. وفي الوقت عينه بدأ الأوربيون بتصدير ورقهم إلى بلاد الشام بكمّيات كبيرة، وعَجِزت مصانع الورق الشامية عن منافسة الورق الأوربي، فاختفت صناعة الورق في بلاد الشام. وشُحِن الورق الأوربي إلى طرابلس وإلى مدن شامية أخرى، وتمّت مبادلته هناك بالقطن المحلّي. 

صناعة الورق في مصر
عرفت مصر الورق عن طريق بلاد الشام في القرن التاسع، وأصبح الورق يُصنع فيها بحلول القرن العاشر. وذكر الجغرافي المقدّسي الورق بوصفه إحدى السلع التي تُصنع في مصر آنذاك. وعلى الرغم من أنّ مصر استمرّت في صناعة أوراق البَردي، في أوائل القرن العاشر، فإنّ الجغرافي ابن حوقل (ت 977م)، الذي زار مصر في العام 969م، لم يُشر إلى ورق البَردي بوصفه من حوامل الكتابة التي استخدمها المصريون آنئذ. وذكر أحد الرحّالة، الذي زار مصر عام 1216م، أنّ تصنيع الورق من نبات البَردي قد اختفى. وبذلك هجر المصريّون البَردي وانحازوا إلى الورق. ويؤكد ذلك العثور عام 1980 على 441 وثيقة يرجع تاريخها إلى ما بين عامي 950-1050م، منها 399 وثيقة كُتبت على الورق؛ كذلك العثور على وثائق الجنيزة في الفسطاط، وتُقدَّر بنحو 300 ألف وثيقة إضافية كُتبت على الورق.
وذكر الشاعر والمؤرّخ والجغرافي إبن سعيد الأندلسي (ت 1286م)، الذي زار مصر عام 1240م، أنّ مصانع الورق كانت تقتصر على الفسطاط دون القاهرة، نظرًا إلى توافر المياه الجارية لمصانع الورق على ضفاف النيل في الفسطاط، ولكن ليس في القاهرة نفسها التي بُنيت على منطقة أكثر جفافًا.
صدّر المصريون الورق إلى المغرب العربي وتونس واليمن والعراق والهند، بينما استوردوه من بلاد الشام. ولكن منذ بداية القرن الخامس عشر ازداد الغلاء وارتفعت تكاليف المعيشة في المناطق الخاضعة لحكم المماليك، وأثقلت كلفة شراء الورق الشامي أو المصري من نوعيّة جيّدة كواهل المتعلّمين، فاضطروا إلى شراء الورق الإيطالي، المصنوع من خِرق الكتّان، والذي أصبح متاحًا على نحو متزايد في أواخر القرون الوسطى، بعدما أغرق صنّاع الورق الإيطاليون السوق بأوراقهم، وبأسعار أرخص مقارنة بأسعار المُنتَج المحلّي في البلاد. وفي القرن السادس عشر كان الورق الفرنسي والإيطالي هو السائد في الأسواق المصرية. فعلى سبيل المثال، كُتبت الوثائق القليلة التي تشتمل عليها وثائق الجنيزة والمؤرّخة بالربع الثاني من القرن السادس عشر، على الورق الأوربي. وقد استمرّت مصر بصنع الورق حتى القرن السابع عشر. وبحلول القرن الثامن عشر، اضمحل دور القاهرة في صناعة الورق إلى حد كبير، ولم تعد كونها مجرّد سوق لإعادة تصدير الورق الأوربي إلى الجزيرة العربية.

المغرب والأندلس
كان الورق معروفًا في المغرب ربّما في بواكير القرن التاسع، وكانت صناعته تُمارَس فيها منذ القرن الحادي عشر، إن لم يكن في وقت أبكر من هذا التاريخ. وبحلول نهاية القرن الثاني عشر، كان في مدينة فاس المغربية 472 مصنعًا لإنتاج الورق. فقد شجّعت سرعة جريان تيّار المياه على إنشاء مصانع الورق. وفي أواخر القرن الرابع عشر، صدّرت فاس نوعًا رائعًا من الورق إلى جزيرة ميورقة وإلى مدينة أراغون. ومع ذلك بدأ أصحاب المناصب في منتصف القرن الرابع عشر يستخدمون الورق الأوربي، كما حصل في مصر.  كذلك كان الورق يُصنع في مدينة تِلمسان الجزائرية. ولكن في بداية القرن الخامس عشر كان الورق الإيطالي قد حلّ، على نحو كامل، محلّ الإنتاج المحلي.
ودخل الورق إلى شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن العاشر، ربّما نتيجة عمليات التبادل التجاري. وكان متوافرًا بكمّيّات كبيرة، إلى حدّ أنّ اللغوي والشاعر ابن هانئ الأندلسي (ت 973م) كان يعطي طلابه أوراقًا لينسخوا الكتب من مكتبته الخاصّة. وأنشئت مصانع الورق في جميع أنحاء الأندلس في القرن الحادي عشر. وأوّل ذكر محدّد لمصنع للورق يعود إلى عام 1056م، أنشئ بجوار قناة الريّ القديمة بالقرب من مدينة شاطبة الواقعة جنوب غربي بلنسية. وأشاد الإدريسي (ت 1166م) بورق شاطبة الرائع وبجودته العالية، فلم تنافسها فيه مدينة أخرى. وفي عام 1094م أنشئ مصنع آخر للورق في الرُّصافة في ضاحية قرطبة. وقد حظي الورق الأندلسي بتقدير كبير، ولا سيّما في ما يتعلق بنسخ الكتب، وتمّ تصديره إلى جميع أنحاء البحر المتوسّط ■