الفن يُمتع ويُضيء «تَأمُّل في تجربة دريد لحام السينمائية»

الفن يُمتع ويُضيء «تَأمُّل في تجربة دريد لحام السينمائية»

دريد لحام فنان عربي سوري شامل، اقتنع بأن بإمكان الفنون أن تساهم، بطريقتها الخاصة، في إضاءة أعطاب المجتمعات وربما في طرح بعض البدائل. هو مبدع تجاوزت تجربته الإبداعية اللحظة التاريخية التي انبثقت فيها، وأصبحت محط تقدير عابر للزمن والحدود. وقد سافرت أعماله المسرحية والسينمائية والتلفزية عبر مختلف البلدان العربية.

 

 سكنت مخيلة المتلقي العربي الذي كان يجد فيها صدى لانشغالاته الدفينة وفرصة للاستمتاع واستخلاص الدروس والعبر، وللتواصل العميق والسلس مع جمهوره اعتمد دريد لحام تقنية الإضحاك والفكاهة الذكية والصادمة، ومزج بين التقنيات التي تعتمدها الكوميديا وبين المواقف التراجيدية المؤثرة، وجعلنا بذلك نتذكر في أكثر من مناسبة ومن مشهد شخصية «شارلو» التي خلدها الفنان العبقري شارلي شابلن. 
ولاستعادة هذه التجربة المتفردة، واعترافًا بإبداعيتها اللافتة، وبضرورة استثمار ثرائها يقترب هذا المقال من أحد مكوناتها، وهو المكون السينمائي لنرى ما الذي تبقى من هذا الرصيد وللمساهمة في التعريف بجزء منه، اقتناعًا منا بأن الإبداعات الفنية العربية يتوجب أن تكون سلسلة متواصلة من التجارب، تتجنب الانقطاعات الجحودة وتتلاقح وتغتني ببعضها البعض جيلًا بعد جيل. 
ويبدو أن الرهان الذي يتحكم في تجربة دريد لحام السينمائية، كما يمثلها فيلماه «الحدود» (1984) و«التقرير» (1986)، هو إعادة الاعتبار للفيلم الجماهيري، والبرهنة على أن الجماهيرية ليست مرادفًا لسخف المواضيع وتفاهتها، أو تقديم تنازلات تخص الموضوع المتطرق إليه أو تخص التقنيات المعتمدة، والبرهنة كذلك على أن بعض الإنتاجات الفنية قادرة، بإثارتها وإضاءتها لقضايا جادة ومصيرية، على جعل جمهور تتوزعه مستويات ورغبات متباينة يستمتع أولًا ليطرح بعد ذلك تساؤلات بخصوص ما أثير من قضايا وطروحات. 

المواطن عبدالودود في مواجهة «الحدود» 
يحكي فيلم «الحدود» قصة المواطن عبدالودود (دريد لحام) الذي فقد جواز سفره بالمنطقة الحدودية الفاصلة بين دولتين عربيتين متخيلتين: شرقستان وغربستان. وقد خضع هذا المواطن لتحقيقات متكررة واستنطاقات عديدة من طرف شرطة الحدود لتحديد ظروف ضياع جواز السفر، وكان وضعه مصدر شبهات قوية. وقد حاول الخروج من ورطته وبطرق متباينة، لكنه الفشل كان دومًا حليفه، فقر عزمه على أن يستقر بالموضع الذي يوجد به، وشيد مقهى صغيرة أسماها (استراحة المسافر)، وصمم هذه الاستراحة بشكل جعل الشريط الحدودي الفاصل بين شرقستان وغربستان يمر في وسطها. ونجح المشروع غير أن عبدالودود بدأ يعاني من تجربة وجودية قاسية؛ إذ كان يبحث لنفسه عن هوية فقدها وعن وطن ضاع منه، وما كان يرغب في أن تكون الأمم المتحدة هي حاميته. وبعد زواجه بمهربة بضائع جميلة، أحس باستقرار نسبي وإن كان التفكير في المستقبل قد ظل مصدر قلق بالنسبة له. وأصبحت قضيته قضية رأي عام، فتحدثت عنه وسائل الإعلام، وناقش وضعيته العديد من المفكرين والسياسيين، وأقيم مهرجان خطابي كبير، تضامنًا معه، حضره ممثلون عن الأحزاب والتنظيمات السياسية العربية. وبعد انتهاء المهرجان رحل جميع المشاركين تاركين عبدالوجود وزوجته لوحدتهما ولمصيرهما الاستثنائي، مما جعلهما يقرران الهرب مهما كان الثمن. وذلك ما حدث بالفعل ليكون المشهد الأخير من الفيلم مشهدًا يصورهما وهما يركضان لاجتياز الحدود وصوت أحد الحراس يهددهما آمرًا إياهما بالتوقف.

فيلم «التقرير»... تقرير عن حالتنا    
يعمل عزمي بك (دريد لحام)، الشخصية المحورية في فيلم «التقرير»، مستشارًا بإحدى المؤسسات التابعة للقطاع العام بدولة من الدول العربية. وقد اشتهر، عن حق، بنزاهته وتفانيه في أداء مهامه، وعرف عنه محاربته للفساد الإداري وللارتشاء، لذا كان أعداؤه المباشرون هم تجار السوق السوداء وكل من يعتبر أن القوانين قد وضعت لتخرق. وبالإضافة إلى ذلك كان عزمي بك واثقًا من نفسه ومتشبعًا بثقافته العربية حيث كان، مثلاً، يستشهد في كتابة رسائله بالشاعر الشمقمق بدل الكتاب الأجانب، كما كان دقيقًا وواضحًا في تحديد الأولويات التي ينبغي أن تتصدى لها الدولة، ومن هنا معارضته لفكرة تنظيم مؤتمر حوار عربي - أوربي لأن هذا المؤتمر ينبغي - في نظره - أن يكون مسبوقًا بمؤتمر حوار عربي - عربي. 
وذات مساء، جاءت فرقة موسيقية تطالب بأتعاب مشاركتها في مهرجان تدشين حنفية كان ماؤها قد نضب، بمجرد ما غادر الوفد الرسمي مكان الحفل، مما جعل عزمي بك يرفض بصرامة تسديد الأتعاب المذكورة لأن مصاريف التدشين فاقت مصاريف المشروع بأكمله. واستغل أعداؤه هذا الموقف وأوصلوا المسألة للدوائر العليا وتم الضغط عليه ليقدم استقالته. وقد قدمها بالفعل معتقدًا أن استقالته سترفض وأنه سيحظى بدعم كل الذين أحبوه وقدروا خصاله. غير أن الأمر لم يكن كما توقع، كما تبين له فيما بعد أن مشروع الحنفية لم يكن سوى ذريعة ومقدمة لبناء مركب سياحي مشبوه يرتاده كبار المسؤولين بالدولة. وبعد احتجاج فردي اقتيد على إثره إلى السجن، قرر عزمي بك كتابة تقرير شامل عن مجمل الخروقات والتجاوزات القانونية والظواهر المَرضية التي اصطدم بها في مساره المهني. وقد ساعدته في جمع المعطيات سكرتيرته الوديعة (رغدة). وعند انتهائه من صياغة التقرير، توجه المستشار المحترم للقاء المسؤولين بملعب كانت فيه مقابلة ساخنة في كرة القدم. وعند وصوله حاول إيقاف المقابلة ليقرأ تقريره على الجميع. غير أن المتفرجين صبوا عليه جام غضبهم، فتناثرت أوراق التقرير وضاعت وسقط عزمي بك على ساحة الملعب متأثرًا بضربات وتعنيف اللاعبين له، فكان بذلك الشاهد والشهيد.

الفرجة والتغريب... مدخلان للتواصل
اعتبر برتولد بريخت أن الوظيفة الأساسية للتغريب هي زعزعة الأحكام الجاهزة، وحث المتلقي على التعامل، من جهة نظر جديدة، مع وقائع مألوفة لديه وإقناعه أن هذه الوقائع أو الظواهر هي ذات طبيعة تاريخية أي عابرة وليست قدرًا محتومًا لا يمكن الفكاك منه. ومن الواضح أن دريد لحام قد تبنى هذا المنطلق الفكري والجمالي ووظفه، ففي فيلم «الحدود» قدم واقع التجربة القطرية التي تعيشها البلدان العربية، لا باعتبارها حالة مقبولة بل باعتبارها وضعًا شاذًا وملغومًا فرضه المستعمر واستمر العمل به إلى الآن، ورصد فيلم «التقرير» مختلف مظاهر التأخر والهشاشة (هجرة أدمغة، ارتشاء...) التي تعترض المواطن العربي في حياته اليومية. وبالطبع، فرؤية دريد لحام هي رؤية انتقادية وتحريضية في بعض جوانبها، كما أنها تتقصد التأكيد على أن الأوضاع المعروضة هي أوضاع يمكن تغييرها لتزيل عن أعين المشاهد غشاؤه اللامبالاة والاسترخاء الفكري. وهكذا يصبح هذا المشاهد «خبيرًا مشاركًا في ممارسة ذات نهاية مفتوحة بعد أن كان مجرد مستهلك لموضوع اكتمل إنجازه بعيدًا عنه»، كما يعبر عن ذلك الناقد الإنجليزي تيري إيجلتون. إن العمل الفني المعتمد على تقنية التغريب يظل مؤقتًا وخاصة ذا نهاية مفتوحة، كما هي حالة فيلمي دريد لحام، مما يمنح للمتلقي فرصة أن يتدخل لتأثيث البياضات بأشياء ووقائع يتخيلها. 
وهناك أكثر من محفز يدفعنا للتعامل مع «الحدود» و«التقرير» باعتبارهما حلقتين مترابطتين، فنفس الرؤية توجه العملين معًا ونفس الأسماء المبدعة (دريد لحام، محمد الماغوط، رغدة...) هي التي حضنتهما، كما يوجد بينهما ما يشبه توزيع المهام، حيث إن الفيلم الأول يشير إلى توزع العالم العربي وتمزقه بين عدة كيانات قطرية، في حين يتعرض الفيلم الثاني للأوضاع الداخلية لبلد عربي يشبه باقي البلدان العربية. 
بالإضافة إلى تقنية التغريب التي تولد لدى المشاهد متعة ذهنية أكيدة؛ إذ تحفزه على تخيل سيناريوهات ممكنة لأوضاع قائمة، حرص دريد لحام على أن يكون فيلماه متضمنين لقصة محورية (قصة عبدالودود مع الحدود وقصة عزمي بك مع الحنفية والتقرير). وتخللت القصتين حكايتان مغريتان: حكاية عشق عبدالودود للمهربة الجميلة وحكاية تعلق عزمي بك بزوجته (منى واصف) وغيرة هذه الأخيرة من سكرتيرة زوجها. ويلجأ الفيلمان معًا إلى التشويق، غير أنه تشويق لا يسلب المتلقين قدرتهم على التمحيص واتخاذ موقف مما يعرض أمامهم، وذلك نظرًا لنبرة السخرية التي تتحكم في الخطابات ولطابع الفكاهة الذي يتم إضفاؤه على الأحداث، ونظرًا كذلك للانتقالات المفاجئة من المواقف المرحة إلى مواقف مأساوية ومؤثرة، كموقف عزمي بك حينما تلقى نبأ قبول استقالته، أو حالة عبدالودود وهو يعاني من الوحدة ومن اغترابه القسري في منطقة حدودية. ومن مصادر المتعة في هذين الفيلمين، الاستثمار الموفق للموسيقى العربية والمواويل المرتجلة والاختيار المناسب لطريقة التشخيص، بحيث إن الممثلين لم يتقمصوا أدوارهم بشكل كلي بل تركوا مسافة معينة بينهم وبينها، ومنحوا لحركاتهم في بعض الأحيان مسحة مسرحية ذات بعد سوريالي أحيانًا كما في مشهد إلقاء الخطب من طرف الزعماء السياسيين الذي يتكرر في الفيلمين وبنفس الدلالة: الانعدام التام للتواصل بين الخطيب وجمهوره. 
ومن المؤكد أن نجاح تجربة دريد لحام مرده، أولًا، الانطلاق من رؤية متكاملة ثم الاعتماد على تقنيات متنوعة، وإن كان الأساسي فيها هو تحري العمق والبساطة والإمتاع قصد ضمان التواصل مع جمهور عريض، قد يكون هو المعني الأول بالقضايا الحارقة المتطرق إليها والمستفيد الأول من إيجاد حلول لها ■