السينما المصرية ماذا يحدث ؟

السينما المصرية ماذا يحدث ؟

كان المرحوم محمد السنعوسي يذكر بأن مصر تملك صناعة السينما الوحيدة في العالم العربي، أما بقية الأعمال السينمائية في البلدان العربية الأخرى فلا تعد سوى محاولات للإنتاج السينمائي. ويقارب تاريخ السينما في مصر أكثر من 127 عامًا، حيث عرض أول فيلم سينمائي في نوفمبر، من عام 1896 علمًا بأن أول فيلم في تاريخ السينما عرض في باريس في ديسمبر من عام 1895. 

 

كان العرض الأول في مصر في مدينة الإسكندرية وبعدها في القاهرة، ثم في مدينة بورسعيد. وفي عام 1897 افتتحت أول دار عرض سينمائي في الإسكندرية، التي أسسها الأخوان لوميير. صورت خلال تلك الفترة، أي نهاية القرن التاسع عشر، أفلام قصيرة. وقامت شركة إيطالية مصرية بإنتاج فيلمين صامتين هما الشرف البدوي والأزهار القاتلة، مثل في الفيلمين محمد كريم، الذي كان يعد نجم السينما المصري الأول، وتم الإنتاج في عام 1917، وتوالى عرض الأفلام الصامتة المنتجة في أوربا. 
التحول المهم في تاريخ السينما المصرية حدث في عام 1926 عندما أسست عزيزة أمير شركة أيزيس فيلم، وأنتجت في عام 1927 فيلم «ليلى»، وبعده فيلم «زينب» في عام 1928، وهو الفيلم الذي اعتمد رواية محمد حسين هيكل، (زينب)، ويعد ذلك الفيلم أول فيلم مبني على رواية أدبية لكاتب مشهور آنذاك. توالى تأسيس شركات الإنتاج السينمائي، ويلاحظ أن السيدات كان لهن دور بارز في عمليات التأسيس، فقد أسست بهيجة حافظ شركة فنار فيلم وقامت أسيا داغر بتأسيس شركة لوتس فيلم. كما قام الأخوان «لاما» بتأسيس شركة كندور فيلم. وتمكن المصريون من خلال هذه الشركات من إنتاج 11 فيلمًا بين 1927 و1930.
كان فيلم «تحت ضوء القمر» أول فيلم ناطق ينتج في مصر. ومثل في فيلم «أولاد الذوات» الذي أنتج في عام 1931 يوسف وهبي وأمينة رزق. وواكب هذه المحاولات السينمائية تأسيس استديو مصر في عام 1935، الذي أكّد دور رجال الأعمال المصريين في تطوير صناعة السينما الحديثة، ولابد من التذكير بدور طلعت حرب الذي أسس استديو مصر وأقام شركة مصر للتمثيل والسينما. تم إنتاج فيلم غنائي «أنشودة الفؤاد» بطولة المطربة نادرة، ولحق ذلك فيلم غنائي آخر «الوردة البيضاء» الذي مثل فيه المرحوم الموسيقار محمد عبدالوهاب. تسارعت تطورات السينما المصرية وأصبح ممكنًا تصدير الأفلام المصرية إلى الخارج، حيث أصبح فيلم «وداد» الذي مثلت فيه «أم كلثوم»، وهذا الفيلم كان من إنتاج استديو مصر. ارتفعت أعداد الأفلام المنتجة بعد ذلك، فبعد أن كانت تعد على الأصابع في سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي بلغت 16 فيلمًا في عام 1944، في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم وصل العدد إلى 67 فيلمًا في عام 1946. وبرز في هذه الحقبة مخرجون متميزون، منهم أحمد بدر خان، وهنري بركات، وحسن الإمام، وإبراهيم عمارة، وأحمد كامل مرسي، وحلمي رفلة، وكمال الشيخ، وحسن الصيفي، وصلاح أبو سيف، وكامل التلمساني، وعز الدين ذو الفقار. كذلك برز ممثلون منهم أنور وجدي وليلى مراد وشادية وفاتن حمامة وماجدة الصباحي ومريم فخر الدين وتحية كاريوكا ونادية لطفي وهند رستم وعمر الشريف ويحيى شاهين واستفان روستي وفريد شوقي وأحمد رمزي وصلاح ذو الفقار. يضاف إليهم الكثير من المتخصصين بالديكور والمونتاج والموسيقى التصويرية والإكسسوارات الأخرى. وفي عام 1946 جرت محاولة لتلوين الأفلام وحدث ذلك في فيلم «لست ملاكًا» الذي لعب البطولة فيه محمد عبدالوهاب في عام 1946.
في العهد الملكي كان القطاع الخاص نشطًا في صناعة السينما له الدور المتميز في إنتاج أفلام جيدة ومقبولة جماهيريًا، وعمل المنتجون على تطوير الصناعة السينمائية واستخدام الألوان الطبيعية، وكان أول فيلم أنتج بالكامل بالألوان الطبيعية هو فيلم «بابا عريس» في عام 1950 ومثل فيه نعيمة عاكف وفؤاد شفيق وكاميليا وشكري سرحان، لحق ذلك في عام 1951 إنتاج فيلمين بالألوان بطولة محمد فوزي، هما «الحب في خطر» و«نهاية قصة». لكن الفيلمين احترقا عندما كانا قادمين من فرنسا إلى مصر بما نتج عن ذلك من خسائر فادحة للمنتج. تمكنت السينما المصرية من إنتاج 44 فيلمًا في عام 1950 بما شكل تطورًا جيدًا حيث شارك في إخراج هذه الأفلام العديد من المخرجين السابق ذكرهم، ومثل فيها ممثلون متميزون وتنوعت الأفلام من الغنائية إلى الكوميدية إلى الدرامية. وتطرقت الأفلام إلى قضايا مصرية اجتماعية وسياسية، وحاولت أن تبرز المشكلات في المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين. شـــــارك في أداء الأدوار ممثلون من أصول شاميـــة، سورية ولبنانية، ومنهم أنور وجدي وفريد الأطرش وصباح وعبدالسلام النابلسي وماري منيب ونور الهدى.
في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي قدرت تكاليف إنتاج الفيلم المصري بين 17 و38 ألف جنيه مصري، اعتمادًا على نوعية الفيلم ومدته والممثلين المشاركين فيه. وتفاوتت أجور الممثلين حسب نجوميتهم، حيث تقاضى عبدالحليم حافظ 500 جنيه عن دوره في فيلم «لحن الوفاء» في عام 1955، لكن أجره ارتفع إلى 25000 جنيه في فيلم «أبي فوق الشجرة»، كما أن ليلى مراد تقاضت 200 جنيه في فيلم «يحيا الحب» عام 1937 وارتفع إلى 12000 جنيه في فيلم «الحبيب المجهول»، في حين تقاضت كل من فاتن حمامة ومديحة يسري وماجدة الصباحي عن أدوارهن في فيلم «لحن الخلود» مبلغ 3000 جنيه لجميعهن. وإذا كان القياس بموجب تلك الأسعار يبدو متهاودًا فإنه يجب الأخذ بنظر الاعتبار سعر صرف الجنيه آنذاك، والذي كان يقارب سعر صرف الجنيه الإسترليني. يضاف إلى ذلك مستويات المعيشة والمتطلبات الاستهلاكية المحدودة آنذاك. وكان هناك تمايز في الأجور، حيث حظي فريد الأطرش بتعويضات مهمة نظرًا لكونه مطربًا وممثلًا، وقد تقاضى 15000 جنيه عن الفيلم الواحد. 

تحولات مهمة
يذكر أن صناعة السينما المصرية مرت بتحولات مهمة بعد الإطاحة بالنظام الملكي بعد ثورة 23 يوليو، 1952، حيث تأسست مؤسسة لدعم السينما في عام 1957، وبعد ذلك قام النظام المصري آنذاك بتأميم صناعة السينما، وتم تأميم شركة مصر للتمثيل والسينما وشركات التوزيع الكبيرة، مثل الشروق ودولار فيلم، والاستديوهات الكبرى مثل «استديو مصر» و«استديو نحاس» و«الأهرام» و«جلال». وبعد ذلك تم تأسيس المؤسسة المصرية العامة للسينما في عام 1962.
وإذا كان تأميم السينما، أو صناعة السينما، في مصر خلال عقد الستينيات من القرن الماضي يهدف إلى سيطرة الدولة وبيروقراطيتها على الإنتاج السينمائي وتحديد معالم الأفلام والقضايا التي تتطرق لها، إلا أن ذلك التأميم ربما وفر تمويلًا ملائمًا لتغطية تكاليف الإنتاج، بما في ذلك مشاركة نجوم مؤهلين للعمل في تلك الأفلام. لكن السينما المصرية واجهت مصاعب في عقد السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبدأت عملية إنتاج أفلام متواضعة المحتوى ورديئة التمثيل، وشارك فيها ممثلون مغمورن لا يملكون قدرات وإبداعات في مجال التمثيل. 
انطلقت فيما بعد مـــــا عرف بموجة «أفلام المقاولات»، والتي اعتمدت على رجال أعمال يهدفون لتحقيق أرباح سريعة من توظيف أموالهم في مشاريع سينمائية يمكن تسويقها للتلفزيونات العربية، الخليجية، وليس بالضرورة عرضها في صالات السينما. 
كانت تدور مواضيع تلك الأفلام حول قضايا هامشية ليست ذات محتوى اجتماعي أو سياسي عميق. كما اعتمدت تلك الأفلام على العرض في المواسم، عيد الفطر أو عيد الأضحى أو العطلات الموسمية. وجذبت البسطاء وصغار السن الذين كان يحلو لهم استئجار الفيلم مقابل مبلغ زهيد والمشاهدة على أجهزة الفيديو. بطبيعة الحال تعرضت هذه الظاهرة وهذه الأفلام للنقد من قبل المهتمين بصناعة السينما، ولكن من المؤسف لم تتوافر إمكانات مادية لإنتاج أفلام أفضل أو وجود شركات ذات قدرات مالية وفنية للتصدي لمهام إنتاج الأفلام السينمائية. في الوقت ذاته لم تعد الدولة تمنح السينما أولوية في تخفيض الموارد المالية في ظل المصاعب الاقتصادية التي تواجهها البلاد.
ولابد من التأكيد على أن أجور الممثلين المصريين ارتفعت فلكيًا خلال السنوات الماضية ولم يعد بإمكان المنتجين إنتاج الأفلام مما دفع لإنتاج المسلسلات التي تجد أسواقًا أفضل بما يوفر التمويل اللازم. وقد ارتفعت أجور الممثلين لتتراوح بين عشرة ملايين جنيه مصري إلى 45 مليون جنيه في المسلسل الواحد. وقد يكون سعر صرف الجنيه قد تراجع إلا أن تلك الأرقام تظل مرتفعة أخذًا بنظر الاعتبار البيئة الاقتصادية الراهنة في مصر. كما أن الأفلام التي عرضت خلال المواسم القليلة الماضية لم تتمكن من تحصيل إيرادات مناسبة. وحققت إيرادات الأفلام خلال موسم الصيف الماضي 2023 ما يقارب 282 مليون جنيه، ما يعادل 9 ملايين دولار، كما أشار إلى ذلك عدد من الموزعين. 
وقد عرض خلال عطلة عيد الأضحى الأخيرة 5 أفلام مصرية هي «بيت الروبى» و«البعبع» و«مستر إكس» و«تاج» و«مطرح مطروح»، بالإضافة لذلك عرضت أفلام أخرى خلال شهر أغسطس 2023 وتمكن فيلم واحد هو «بيت الروبى» من تحقيق أعلى الإيرادات التي جاوزت 122 مليون جنيه أو 4 ملايين دولار، في حين جاء بالمركز الثاني فيلم «تاج» الذي حظي بـ45 مليون جنيه، أو 1.5 مليون دولار من الإيرادات، وحصدت بقية الأفلام باقي قيمة الإيرادات أي ما يقارب 3.5 ملايين دولار.
وعززت التطورات التكنولوجية وتحولات المشاهدة وطغيان المنصات «Platforms» التي ورثت تسيد القنوات الفضائية في العقدين الماضيين أهمية التكيف من قبل السينما المصرية مع هذه الأوضاع. كما أن انفتاح الأوضاع الاجتماعية في بلدان الخليج، السعودية مثلًا، والتمكن من إنتاج أفلام وبروز العاملين في السينما والفنون عمومًا في هذه البلدان قد يطرح إمكانات للتكامل بين السينما المصرية وأعمال الإنتاج السينمائي في بلدان الخليج، والاستفادة من المنصات ودور السينما في منطقة الخليج. لكن ذلك قد يتطلب ارتقاءً في المواضيع واختيارات أفضل للعاملين. ويضاف إلى ذلك أنه قد يكون مفيدًا تأسيس شركات سينما أو إنتاج فني مشتركة وبرساميل مصرية وخليجية، أو دمج الشركات القائمة في هذه البلدان لتحقيق أفضل النتائج الاقتصادية. ويظل المحتوى الفني من أهم عناصر العبور نحو العالمية، ويلاحظ أن الترشيحات لأوسكار 2024 للفوز بجائزة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية شملت عددًا من الأفلام من تونس والمغرب والعراق وفيلمًا من مصر. 
وأكد عدد من النقاد السينمائيين المصريين أن الأفلام العربية الأخرى غير الفيلم المصري ربما تحظى بحظوظ أفضل للفوز نظرًا لمواضيعها الجادة والعناصر الفنية وحرفة الإخراج والتمثيل التي تميزت فيها. وهكذا يتعين أن تستوعب السينما المصرية هذه المتطلبات لتعيد الأمجاد التي تمتعت بها في عقود الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

تصحيح المسار
غني عن البيان أن هناك تحديات مهمة لا يمكن التغلب عليها، كما أن السينما المصرية لن تتمكن من الوصول إلى مستويات تتمتع بها السينما الأمريكية نظرًا لتفاوت الإمكانات المالية والقدرات التقنية والبشرية والشهرة العالمية. بيد أن السينما المصرية مازالت تملك البنية التحتية والمؤسسية التي قد تعزز إمكانات الإنتاج المتميز، خصوصًا إذا ارتبطت بمؤسسات عربية، خليجية، أو عملت مع شركات أوربية من خلال الإنتاج المشترك. وتملك مصر، أيضًا، فرصًا للعرض في المهرجانات السينمائية والدولية من أجل عرض أفلام مصرية جديدة والتعرف على آراء المنتجين والمخرجين والنقاد الأجانب لتعزيز القدرات على تصحيح المسار والعمل على الإنتاج بما يتوافق مع أذواق المشاهدين. ولا شك في أن هناك مهرجانات سينمائية دورية في مصر، مثل مهرجان القاهرة والإسكندرية والجونة، بالإضافة إلى مهرجانات من بلدان عربية، أهمها مهرجان البحر الأحمر في السعودية، وهي قد تؤدي إلى التعرف على آراء المشاركين واللقاء في هذه المهرجانات.
وقد لا تتمكن السينما المصرية من احتكار المشاهدة العربية مثل ما كان في عقود من القرن العشرين، ولكنها يمكن أن تتفاعل مع المتطلبات المتغيرة في هذا القرن وترتقي بالإنتاج وتبرز القضايا المصرية والعربية من خلال أفلام متنوعة ■