أحزمة فان ألن شرٌّ يحيط بالأرض

أحزمة فان ألن  شرٌّ يحيط بالأرض

  حين تزمجر الشمسُ بعواصفِها المخيفة، وتقذفُ في السماء حممَها النارية، من البلازما المشحونة والكتلِ التاجية، المنطلِقة من براكينِ الشواظاتِ الشمسيةِ الهائلة، يتصدّى لها جنديٌّ خفيّ مدافعًا عن الأرض بعيدًا عن عيوننا وأجهزتِنا الحساسة... فارسٌ قويٌّ لا نراه، لكن أذرعتَه تمتدُّ في الفضاء إلى عشرات آلاف الكيلومترات حول الأرض... إنه حقلُ الأرضِ المغناطيسي، خطُ الدفاعِ الأول في وجه الغزواتِ الفضائيةِ النوعيةِ، المتعددةِ المصادر.

 

حين تعصفُ بكوكبِ الأرض الريحُ الشمسيةُ المحمّلةْ بالجسيمات ِالمشحونةِ المميتة، كما الأشعةُ الكونيةُ الآتية من النجومِ البعيدةِ المنفجرة او المحتضَرة، يقوم حقلُنا المغناطيسي باعتراضِها فيشتتُ شملَها ويطردُ قسمًا منها بعيدًا خلفَ الأرض، ويحيلُ قسمًا آخرَ الى شلالاتٍ من الأضواءِ الملونة في سماءِ القطبينْ الشمالي والجنوبي، لنتمتّعَ برؤيةِ الشفقِ القطبيّ أو الفجرِ القطبيّ (أورورا). 
لكن... يبقى هناك قسمٌ آخرُ من تلك الجسيمات التي استطاعت اختراقَ خطوطِ القوى المغناطيسية الضعيفة البعيدة عن الأرض، يحاصرُها حقلُنا المغناطيسي حين اقترابِها ويراكمُها في مواقعَ تحيطُ بالأرض، سُميت «أحزمة فان ألِن»، (Van Allen Belts) نسبة لمكتشف وجودِها، العالمْ في «ناسا»، جيمس فان ألِن.
 
أقمار ومهمات
إثر خروج القمر الاصطناعي الأول لناسا إلى الفضاء، «إكسبلورر1»، في بداية العام 1958، سُجّلتْ ظواهرُ غريبة في تفاعلِ الفضاء مع هذا المسبار الفضائي. وقد تولّى العالِم «فان ألِن» وفريقُه في جامعة «أيوا» دراسة البيانات التي سجّلها عدد من الأقمارِ الاصطناعية من طراز إكسبلورر ثم بايونير، والتي أُرسلت تباعًا وجُهّزت لدراسة وتسجيلْ الظروفْ والأخطارِ المهيمنة حول الأرض، بغيةَ معرفةِ ما ينتظر روادَ الفضاء في رحلاتِهم المقبلة إلى القمر أو المريخ أو باقي العوالِم الخارجية... وقد عمدت وكالة ناسا إلى إطلاق مهمات متخصصة ومسابير مدارية حول الأرض، بين ارتفاع 500 كيلومتر عن الأرض إلى 30000 كيلومتر، بغية قياس سماكةِ الحِزام وحدودِه وأنواعِ الجسيمات وكثافتِها وطاقتِها. 
وفي عام 1968، كانت مهمة أبولو 8 التابعة لناسا كأول سفينة فضاء مأهولة تطير خارج أحزمة فان ألن لتدور حول القمر ثم تعود إلى الأرض. وآخر مرة وطأت أقدام البشر على سطح القمر أو سافروا إلى ما وراء مدار الأرض المنخفضة كانت في عام 1972، خلال المهمة الأخيرة لبرنامج أبولو، أبولو 17.

أحزمة فان ألِن: حزامٌ داخلي وحزام خارجي
وقد تمكن فان ألِن وفريقُه من بناء خريطةٍ لتلك المناطقِ الخطرة، ووجدوا موقعين واسعَين، كلاً منهما يشبه من حيث الشكل، كعكة «دونَت»، الموقع الأول أو حِزام فان ألن الداخلي أو السفلي، يمتد في غلاف طوقي بين حوالي 600 كيلومتر و6000 كلم فوق سطح الأرض، ويحتوي هذا الحزام على بروتونات عالية الطاقة، تتراوح بين عشرة ومئة مليون إلكترون فولت، والإلكترون فولت هو وحدة طاقة على المستوى الذري، بحيث إن طاقة كالوري واحدة تقارب 25 مليار إلكترون فولت. 
مثل هذه الطاقة في جسيمات الحزام السفلي يمكّنها من التسلل عبر جسم المركبات الفضائية وثقوبها، وإصابة رواد الفضاء داخل المركبات بجرعةٍ خطيرة من الإشعاع. 
ولهذا السبب تطير محطة الفضاء الدولية بالقرب من الأرض على ارتفاع حوالي 400 كيلومتر، تحت أحزمة فان ألين، حيث يمكن الاستمرار بحماية الرواد في مداراتهم المنخفضة. 
الموقع الآخرُ للجسيمات والأشعة الخطرة، أو حزام فان ألِن الخارجي، يبدأ من ارتفاع عشرة آلاف كلم تقريبًا وينتهي على ارتفاع حوالي 65 ألف كلم فوق سطح الأرض. 
وجسيماتُ الحزامِ الخارجي هي بروتوناتٌ أقلُّ طاقةً، بالإضافة إلى الإلكترونات والأيونات المختلفة، وتتراوح طاقتُها من عشرةِ كيلو إلكترون فولت إلى عشرةِ ملايينَ إلكترون فولت. هي إذن أقلُّ خطورةً ولكنها تمتد على منطقة أكبرَ بكثير من الحزام الأول. 
يتكون الحِزام الخارجي من الجسيمات العالية الطاقة التي تصل عبر الريح الشمسية، أما الحزام الداخلي فينتج عن تفاعلات الأشعة الكونية مع نيوترونات الغلاف الجوي الخارجي للأرض.
وهناك مشكلة أخرى هي أنه في حينِ أن الحزامَ الداخليَ مستقرٌ إلى حد كبير، فإن الحزامَ الخارجيَ الآخرَ يتغير بدرجة كبيرة في الحجم والكثافة، وتتغيرُ قوتُه استجابةً لتغيرِ مغناطيسيةِ الأرض أثناءَ العواصف الشمسية. أعدادٌ هائلة من الجزيئات المشحونة تبلغُ حينَها نشاطًا أكبرَ بعشرةِ أضعاف من طاقتِها المعتادة.
هل بالإمكان تجنب المرور عبر أحزمة فان ألِن الى الفضاء؟ 
إن أحدَ أكبرِ المخاطرِ التي يتعرض لها روادُ الفضاء الذين يسافرون إلى القمر أو المريخ هو التعرّض لإشعاعاتٍ عالية الطاقة من الريح الشمسية والأشعة الكونيةِ. هذا الإشعاع أكثرُ ضررًا للإنسان من الأشعة السينية الطبية المستخدمة لرؤية العظام المكسورة أو علاج السرطان.
يجب أن يطيرَ روادُ الفضاء عبر أحزمةِ فان ألن للوصولِ إلى الفضاء الخارجي... ليس هناك خيارٌ آخرْ... لذلك من المهم عبور هذه المنطقة بأقصى سرعةٍ ممكنة للحدِّ من تعرّضِهم للإشعاع. ويجبُ أيضًا حمايةُ الأجهزةِ الإلكترونيةِ الحساسة الموجودة على المسابير والمركبات الفضائية التي تسافرُ عبر تلك الحقول الكهربائية والمغناطيسية والإشعاعية الضارة. 
المشكلة إذن جَديّةٌ حين يتعلقُ الأمرُ بالسفر إلى القمر أو الكواكب الأخرى. فسوف يترتبُ حكمًا على المركباتِ الفضائية المرورُ عبر هذه المنطقة وتعريضُ روادِ الفضاء لجرعةٍ من الإشعاعاتِ الخطرة في أحزمة فان ألن!
والجسيمات الفائقة الطاقة في أحزمة فان ألن، قد تضرب أجسام رواد الفضاء، وهي تستطيع أن تحرر الإلكترونات من الذرات والجزيئات في أجسامهم، وتسبب بالتالي تلفًا لأنسجتهم. 
وعندما فكر علماء ناسا في إرسال البشر إلى ما وراء حزام فان ألِن، كانوا يعرفون أن ذلك يعني تعريض رواد الفضاء للإشعاع، لكن السؤال كان إلى أي مدى وكيف يمكن تقليله؟ 
باختصار قررت «ناسا» إرسال رواد فضاء على متن أبولو، بدءًا من أبولو 8، وعملت على حماية رواد الفضاء أنفسهم داخل وحدة القيادة التي تحتوي على مقصورة متعددة الطبقات من المواد المعدنية الواقية. 
وحتى اليوم، عشراتُ المسابيرِ والمركباتِ الفضائية نجحت في اختراق هذه الأحزمة من فوق الصين والهند واليابان وكازاخستان وفلوريدا وغويانا الفرنسية ■