اكتساب الحكمة صفات وعوامل محفزة وسياقات

اكتساب الحكمة  صفات وعوامل محفزة وسياقات

مع بداية القرن الحالي، اتسع مجال بحث موضوع الحكمة في إطار علم النفس. وبات التأطير المفاهيمي للحكمة خليطًا من أبعاد الشخصية، والتسامي الذاتي، أو الاستبصارت التطبيقية المكتسبة من تأملات الحياة. ولم تعد - الحكمة - سمة مستقرة، بل أمست معتمدة على المواقف والسياقات، حيث يكون معظمنا حكماء جدًا أحيانًا، وغير حكماء على الإطلاق في أحيان أخرى. ونتيجة لهذا الاهتمام، فحص عديد من الدراسات الظروف والعوامل المشجعة على اكتساب الحكمة أو المعيقة لذلك.

 

في أحد فصول كتاب «سيكولوجية الحكمة»، وفي أوراق بحثية أخرى، تناولت د. جودث غلوك، أستاذة علم نفس النمو في جامعة كلاغنفورت بالنمسا، كيفية تنمية الحكمة وقياسها، ومظاهرها في الحياة الواقعية، وسبل تحفيزها لدى الأفراد والمجتمعات؛ لمعرفة لماذا يصبح البعض حكماء، بينما لا يصل كثير سواهم إلى هذه المرتبة؟  
تؤكد د. غلوك بداية أن الحكماء لم يولدوا كذلك، لكنهم من الممكن أن يكونوا قد ولدوا بصفات سهلت عليهم اكتساب الحكمة. فإذا كان التعلم من الخبرات الحياتية يشكل الجزء الأكبر من الحكمة، فإن ثمة صفات تؤهل أصحابها للتعلم من الحياة بصورة تجعلهم أكثر حكمة، بينما يفشل آخرون في ذلك، رغم المرور بالخبرات نفسها. 
واعتمادًا على مقياس BWP – نموذج حكمة برلين - عرضت إطار عمل واسع للعوامل التي تساهم في تنمية الحكمة؛ مع الإشارة إلى تعدد طرق بلوغها، وفقًا لاختلاف خبرات الحكماء، وسبل التعلم منها. ولكن، غالبا ما تكون هناك عوامل مشتركة في تنمية كل حكيم. واقترحت - وفقًا للمقياس - ثلاثة أنواع من العوامل المسرعة لتنمية الحكمة: صفات لشخصية، وعوامل محفزة لتنمية الخبرة عمومًا، وسياقات تجريبية تسهل هذه التنمية.

صفات وعوامل وسياقات
من الصفات المسهلة لاكتساب الحكمة: ارتفاع مستوى الذكاء، الذي غالبًا ما يكون ضروريًا لتنمية الحكمة، فهو يساعد على فهم تعقيد المواقف الصعبة، والتفكير في جميع جوانبها، والتأمل بعمق في الخبرات، بحيث يمكن الاستنارة برؤى واستبصارات منها. والإبداع، أو القدرة على التفكير خارج الصندوق والتوصل لحلول مفيدة وغير عادية للمشكلات. والانفتاح على الخبرات الجديدة، حيث يدفع المتمتعون بمستوى عالٍ من الانفتاح على الخبرات لتجريب أنشطة لم يألفوها من قبل، ويكون لديهم فضول لاستكشاف الثقافات والرؤى المختلفة عنهم. والقدرة على التفكير النقدي بشأن السلوك، والانتباه إلى المشاعر، وسوى ذلك مما يعين على بلوغ مدى واسع من الرؤى والمعارف الحياتية. ولكن، لا صفة مما سبق تكفي وحدها لاكتساب الحكمة. والدليل وجود أذكياء ومبدعين ومنفتحين متميزين من غير حكماء. كما لبعض هذه الصفات خلفيات معقدة من المكونات الموروثة والمكتسبة، كما في صفتي الذكاء، والإبداع، اللتين يمكن تعزيزهما في بيئة تربوية ملائمة تساهم في تحسين الجانب الجيني الموروث.
ومن العوامل المحفزة لتنمية الحكمة: عدد ونوعية خبرات الحياة التي يمر بها الإنسان؛ فإذا لم تكن لدى المرء فرصة لممارسة عمل ما أو لعبة - مثلًا - ستغيب فرصه لأن يصبح خبيرًا. وهكذا يكون اكتساب الحكمة مرهونًا بتمتعه بفرص أكثر من غيره، نتيجة لاهتمامه بخبرات الآخرين، ولكونه أكثر انفتاحًا على التجارب الجديدة المساعدة على عيش الكثير من الأحداث. ووجود معلم؛ فإذا كان هناك حكيم في العائلة، أو بين الأصدقاء، سيكون الشخص محظوظًا، لأن فرصته في اكتساب الخبرة ستعظم، فالكثير من الحكمة يمكن اكتسابه من ملاحظة أشخاص، وهم يتعاملون مع أمور الحياة. وتوفر معرفة حكيم فرصًا للتوجيه في المواقف المختلفة، وربما بمجرد تخيل هذا الحكيم وهو يناقش وضعًا أو يتعامل معه. والدافعية، حيث اختلاف الاهتمامات، فبينما يهتم أشخاص بالرياضيات، وتكنولوجيا المعلومات، يهتم آخرون بالموسيقى - كمثال - فالناس على طريق الحكمة عادة ما يقادون بفضول ما. ويرغبون في فهم أنفسهم وفهم الآخرين والعالم، لا من أجل المناورة، أو كسب المال، بل لأنهم مفتونون بقضايا كبرى.
وتتيح بعض السياقات والمواقف فرصًا لتنمية الحكمة، أو تمنح فرصًا استثنائية، كالأدوار المهنية أو الاجتماعية التي يلعبها الناس، مما يتضمن إسداء نصائح أو توجيهات ملهمة تنير الدروب، كالدور الذي يلعبه المعلم، ودور الوالدين، الذي يجده كثيرون غنيًا بالدروس القيمة. وعوامل سياقية أخرى تتصل بالمكان والزمان الذي يعيش فيه الإنسان. والسياقات الثقافية، والفترات التاريخية المؤثرة في عيش الخبرات المهمة. وأوقات الأزمات كما شهدنا ونشهد اليوم، كوباء كورونا، وتبعات تغير المناخ، والحروب، ومواقف غياب العدالة، التي يمكن أن يكون لها آثار إيجابية على تنمية حكمة الأفراد، والمجتمعات، والأمم. ولا يمكن الفصل بين العوامل السابقة في الحياة الواقعية لتشابك أدوارها في اكتساب الحكمة. 

نموذج جديد
للوقوف على «كيف يمكن أن يصبح الناس أكثر حكمة؟»، وضعت المؤلفة - د. غلوك - وزملاؤها، نموذجًا جديدًا لكيفية اكتساب الحكمة من تحديات الحياة، معتمدين على علم نفس نمو الإنسان عبر مراحل الحياة. والنقطة الأساسية في النموذج - MORE Life Experience - أن المزيد من خبرة الحياة في حد ذاتها لا تجعلنا أكثر حكمة؛ بل الطريقة التي نفكر فيها بما يحدث لنا وحولنا، وما نستخلص من دروس ورؤى. ويمثل كل حرف في كلمة MORE مصدرًا نفسيًا يساعد على التحلي بمزيد من الحكمة نتيجة للخبرات، كالتعامل مع عدم اليقين وعدم القدرة على التحكم؛ والانفتاح؛ والتفكير المتأمل؛ والحساسية العاطفية وتنظيم العاطفة. 
ويقترح النموذج تعلم الناس المستمر- قليلًا، أو كثيرًا - على طريق الحكمة. وتكوين تأملات جديدة في الحياة بتحفيز من بعض الخبرات، في الغالب. وبينما يعتقد كثيرون أن اكتساب الحكمة عادة ما يتطلب المرور بأحداث سلبية، كالإصابة بمرض خطير، أو خسارة شريك، أو فقد وظيفة - إلا أن ذلك ليس صحيحًا دائمًا، إذ يمكن اكتساب الحكمة من أحداث سعيدة تساهم في تغيير الحياة أو تغير وجهات النظر، كمولد طفل، أو حفيد، أو الفوز بجائزة، أو الانتقال إلى بلد جديد، أو تغيير العمل، أو أي خبرة تتحدى وجهة نظر الإنسان في الحياة، وتجعله ينفتح على خبرات ومنظورات جديدة ورؤية طازجة للعالم.

مسار التكييف ومسار النمو
تفرق د. غلوك بين فريق يتبع مسار التكييف بعد المرور بتحديات الحياة، وفريق يتخذ مسار النمو ممن يسعون للتعلم من التحديات، ويفكرون بعمق في الخبرات، ويستفيدون منها.  فإذا تعرض شخص لتحدي الطلاق، مثلًا، وسار على طريق التكييف، سيكون مهتمًا بحماية نفسه من الأفكار غير السارة المتعلقة بذاته، وما يمكن أن تجلبه الخبرة له. وقد يتحول إلى شخص آخر يحبه ليستريح، وربما يركز على التغلب على مشاعره السلبية بسرعة؛ بينما يرغب شخص آخر على مسار النمو في فهم ما حدث، ومعرفة الخطأ الذي ارتكب، وما إذا كان من الممكن تجنب الطلاق لو أدير الموقف بشكل مختلف. ورغم الألم في بعض هذه التأملات التي تخبر عن الجوانب الأقل إيجابية، إلا أنها تقدم دروسًا ملهمة، وتأملات في الذات وفي الآخرين. وهكذا يتطور من يقصد مسار النمو بصورة أكبر.
ورغم تفضيل الغالبية لمسار التكييف، يسلك البعض كلا المسارين في أوقات مختلفة من الأحداث؛ ففي منتصف الصدمة العاطفية للطلاق، قلة ستكون قادرة على استكشاف الأخطاء بعمق. ولكن بعد مرور الحدث، يسهل النظر إلى الوراء، ثم المضي قدمًا، ومحاولة النسيان. وقد حللت دراسة - شاركت فيها المؤلفة - كيف ينظر الأشخاص الأكثر والأقل حكمة إلى الوراء على الخبرات الصعبة التي مروا بها. ووجدت أن من تبنوا التركيز على التكييف، أي التأكيد على كون الخبرة سيئة، لكنها انتهت، مالوا لأن يكونوا أسعد ممن لم يركزوا على التكييف؛ بينما أصبح من تبنوا التركيز على النمو، من خلال استكشاف الخبرة بعمق، أكثر حكمة ممن لم يركزوا على النمو. 

عدم اليقين وما يخرج عن السيطرة
تضمن النموذج الجديد: كيف يتعامل الناس - على طريق الحكمة - بوعي كبير ودون خوف مع عدم اليقين وعدم القدرة على السيطرة على المستقبل؟ لأنهم اكتسبوا ثقة في قدرتهم على التعامل مع ما يمكن أن يحدث. وكيف ينفتحون على الخبرات والأفكار وطرق التفكير الجديدة، ويتوقفون عن إطلاق أحكام على المختلفين عنهم، بل يتقبلون الجميع بنظرة حب. ويستمتعون بالتعلم الدائم، ومواجهة التغيير. ويهتمون بالتفكير المتأمل، ويحاولون فهم الخبرات بعمق - سواء ما يحدث لهم، أو لأصدقائهم، أو للآخرين في التلفاز. 
يفهم الناس، على طريق الحكمة، تعقيد المشكلات، ويطرحون أسئلة، ويتأملون في المنظورات المختلفة، وتقلقهم الحلول السريعة التي لا تقود إلا إلى تحسن مؤقت وسطحي. أي أن الحكماء قادرون على التفكير في المشكلات المعقدة، وتناولها بعمق. كما يتقبلون النقد، وينخرطون في تفكير استكشافي ليعرفوا المزيد عن أنفسهم، ويقفوا على انحيازاتهم، ونقاط ضعفهم. 

الحساسية العاطفية وتنظيم العاطفة 
تشير د. غلوك إلى مكونة الحساسية العاطفية في النموذج، والتي تصف المدى الذي ينتبه فيه الناس إلى مشاعرهم، بأخذها على محمل الجد؛ لا سيما أن البعض قد تعلم في وقت مبكر ضرورة تجاهل المشاعر، أو تجنب الإعلان عنها؛ بينما يعترف الناس على طريق الحكمة بمشاعرهم ويحاولون فهمها، حتى لو كانت سلبية وغير مرغوبة، أو متناقضة، ولا يرغبون في الإعلان عنها كلها، لأنهم يعرفون أنها يمكن أن تخبرهم الكثير عن المواقف وعن أنفسهم. وتؤكد أن من هم على طريق الحكمة ليسوا مستعدين ولا قادرين على فهم ومشاركة مشاعر الآخرين فحسب، بل يهتمون أيضًا بسلامتهم ويسعون إلى رفع معاناتهم العاطفية، لأنهم يهتمون بحاجات الآخرين وبالصالح العام، أي بدائرة أوسع من المقربين، لكن، كما سبقت الإشارة، الانتباه لمشاعر الآخرين وحده لا يجعل من المرء حكيمًا. 
أما تنظيم العواطف، فهو مكونة أخرى يمكن اكتسابها، فنحن نتعلم تحديد المشاعر والتعامل معها. ويعتقد باحثو الحكمة، أن الاتزان، وراحة البال، من مميزات الحكماء. ورغم إظهارهم للاهتمام وميلهم للتعاطف نحو من يعيشون ضائقة، يبقون هادئين ويتبنون نظرة واسعة ومتزنة نحو الموقف. أي أن الحكماء قادرون على التراجع، أو التقدم حتى في المواقف المثيرة للتحدي. ولا يعني تنظيم العواطف بحكمة تجاهلها، أو كبت غير المرغوب منها، فالحكماء يعترفون بمشاعرهم ويتقبلونها، ويستطيعون التعامل مع المشكلات بصورة بناءة، وربما بفكاهة.

الحكمة والعمر
تميل معظم مقاييس الحكمة إلى إعلان علاقة إيجابية بين العمر والحكمة، كما هو الرأي السائد، غير أن هذا لا يكون صحيحًا بالضرورة. فًإذا كانت الحكمة نوع خاص من المعرفة الخبيرة التي تتطلب طرق تفكير معينة، فمن الواضح أن هذه المعرفة لا يكتسبها الجميع، ويعرف معظمنا كبارًا غير حكماء. وترى بعض الدراسات انخفاضًا في بعض مكونات الحكمة مع تقدم العمر لدى عموم الناس، كأن يكون معظم الكبار أقل انفتاحًا على الخبرات الجديدة، وأقل قدرة على التفكير بطرق معقدة، نتيجة لأسباب كتراجع قوة الذاكرة، الشائع بين الكبار. وتبرر المؤلفة مصدر خطأ الرأي الشائع ببعض مقاييس الحكمة القديمة التي وضعت في فترة لم تكن الأعمار فيها ممتدة، لا سيما بين أجيال الحروب؛ وبالتالي، لم يظهر ضعف الذكرة، أو التراجعات الأخرى في مكونات الحكمة. 
ومن أسباب تسجيل الكبار درجات أقل في بعض مقاييس الحكمة، ميل الغالبية للتركيز على الجوانب الإيجابية للحياة، وتجاهل، أو تجنب الوجوه السلبية أو مواقف التحديات العاطفية. وذلك لأنهم يشعرون بأن ما تبقى من حياتهم محدود، والأجدى، بالنسبة لهم، التركيز على الأمور الإيجابية والتمتع بكل يوم. ولهذا النهج معنى، لكنه قد لا يؤدي إلى الحكمة، التي تتضمن مشاركة الجوانب الحزينة والمخيفة والصعبة من الحياة. وترى د. غلوك أنه رغم الدراسات التي تؤكد أن ذروة الحكمة في عمر الستين، وأن الأشخاص الذين يتقدمون في العمر قد يفقدون الحكمة، لا تزال العلاقة بين الحكمة والعمر بحاجة إلى مزيد من البحث، إلى جانب بحث كيفية تنمية الحكمة، وسبل تدريسها في المدارس وفي المجتمعات ■