متلازمة «الإيموجي» أو كتابة الما بَعد

متلازمة «الإيموجي» أو كتابة الما بَعد

  لا يتعلق الأمر بمفترض مردود صاغه مهووس بـ«لعبة الدومينو» يروق له مشاهدة الأحجار تتهاوى تباعًا، في مشهد مثير للدهشة، وإنما هي حقيقة باتت تتعزز كل يوم. ذلك أن فلسفة النهايات التي بدأت مجازيًا بموت الإله، فالإنسان، فالتاريخ، ثم تقوّت بموت السرديات الكبرى ضمن الحقل الفكري والإبداعي، سرعان ما ستكتسح المشهد، فجعلت تودوروف، مثلًا، يحذر من التهديدات التي باتت محيقة بالأدب والحال أنها ستصبح حقيقة.

 

صحيح أن تودوروف وقف في منتصف الطريق لكونه، ومن منظور ورقي، لم يدرك أن النقد بدوره بات قاب قوسين أو أدنى من الموت، خاصة مع تسيد الفضاء الرقمي في حياة الكائنات الافتراضية التي بسطت هيمنتها على الكائن الواقعي الذي حكمت عليه البنيوية منذ منتصف القرن الماضي بالموت. لأن «النقد» فقد روحه، بل وجدواه أيضًا. حين تحول إلى «كبْساتٍ» جاهزة يتم التعبير من خلال أيقوناتها على ارتسامات باردة، ومعدودة، تراوح بين الإعجاب والاستهجان وما بينهما من فرح وقلق وحيرة. والأدهى أن هذا الاختزال «الإيموجي» حلَّ محل الكتابة، ما لم نقل وأدَها وأدًا. والإيموجي Emogie، و كما لا يخفى، ابتداع اصطلاحي ياباني اكتسى صبغة عالمية، ويعني الصورة في تعالقها بالحروف والعواطف (إيموشيون)، رغم أن الصورة (الأيقونة) فيها غلبت، عمليًا، على الحروف والعواطف. فالمتأمل، اليوم، للمحادثات والمعايدات، في مواقع التواصل الاجتماعي، سوف يُفاجأ بسيل الصويرات و«الإيموجيات» الباردة، التي أضحت عملة بديلة للكتابة في اقتصاديات التواصل بين الأفراد الضوئيين. فإذا سلمنا مع ميخائيل باختين بكون المتكلم لا يملك من اللغة، وفي أحسن الأحوال، إلا نصفها والنصف الآخر هو مشاع بين الجماعة اللغوية. أي أن عليه كي يجترح كلامه الخاص أن يُسقط «محور الاختيار» على «محور التوزيع» وفق تصور المدرسة التوزيعية في اللسانيات. وهذا عمل لا يخلو من مشقة. أما وأن يفقد المتكلم النصفين معا، أي اللغة كلها، فهذا خطير فعلًا على فعل الكتابة بمعناه التقليدي الضيق. من دون أن يعني ذلك انحيازنا للورقي بدل الرقمي ولا انتصارنا لإبدال دون آخر. وإن كنا في المقابل نؤمن بالتطور الإيجابي لسيرورة التاريخ، باعتباره حتمية ليس بالوسع تفاديها حتى ولو كان من الممكن إبطاء وتيرتها وعرقلة حركيتها. والواقع أن كل أيقونة من أيقونات الفضاء الرقمي صارت تنوب عن فيض من الكلمات. نقول الكلمات تجاوزًا نظرًا لغلبة تمثيلات الصور والرسوم والأشكال والألوان فيها. والاعتراض هنا لا يجد سنده في استبدال مفردات صورولوجية بمفردات لفظية وحسب، بمعنى نوْب الأيقوني عن التلفظي، وإنما في كون التفاعل والتداول بين الأجيال الجديدة، والحال هذه، جعلتهم يفقدون تدريجيا مَلَكة اللغة، ما لم نقل مِلكية العملة التي يتداولونها في بورصة هذا التفاعل. فهم لا يتحوزون من القاموس الإيموجي الجديد إلا ما يجود به بعضهم على بعض من أرصدة فاقدة لقيمة إبرائية حقيقية. مادام ليس بوسعهم ابتداع أي جديد ضمن هذا المحفل الجديد. إنهم يقتلون الكتابة بمعناها الغرافي (الرسم الخطي) للحروف من غير أن يؤسسوا لكتابة بديلة بوسائل أخرى، في غياب مفردات قابلة لإنتاج متواليات تواصلية دالة. فإذا كانت الكتابة التقليدية، بما هي بناء نصوص متماسكة لها وحداتها الصغرى والمتوسطة والكبرى، من المونيمات والفونيمات والألفاظ والجمل، كما لها أنحاؤها (جمع نحو) الخاصة. فإن «الإيموجية» (الأيقونية) تفتقر إلى مثل هذه المقومات التي من شأنها أن تجعل منها بديلًا تجاوزيًا بأفق واضح يشجع على الرهان عليه. 

المأزق الرقمي «الإيموجي»
ولا شك في أن القاموس الإيموجي، في تنويعاته الظاهرة، فقير للغاية، بل ومحكوم عليه بالنمطية، لكونه يجتر الموتيفات ذاتها تقريبًا، كشأن الكليبات الغنائية المصورة التي كلما تعددت غدتْ مكرورة ومملة. وسبل الاجتهاد تضيق أكثر حتى لَتغدو بلا منافذ، لاعتبارات عديدة منها أن التواصل عبرها يسير بالوتيرة التقنية ذاتها، نظرًا لكون الفئات المنذورة للارتقاء بجملها ومفرداتها غارقة في أهواء الحشود الاجتماعية التي تعيد إنتاج القيم الإيموجية ذاتها دون وعي نقدي. والأنكى من ذلك أن الطبقة المثقفة، من جهتها، بدل أن يكون لها حضورها المائز، في هذا الخضم، فإنها بدورها سرعان ما ذابت في الضحالة والابتذال، تحت سطوة الانفعال بدل الفعل، والافتقار إلى المبادرة والخبرة اللتين قد تساعدان على إيجاد ممكنات تعبيرية أخرى داخل خضم هذا التعبير السائد، علمًا بأن النخب الإبداعية والفنية تظل متخلفة عن ركوب موجة الرقمي بفعالية، مما يحول دونها وتقديم مقترحات اختراقية جادة. ذلك أنها لم تنجح في تطوير الفضاء الرقمي والتواصلي منذ كان ما يزال «لغويًا»، فأحرى أن تنقذه من المأزق الرقمي «الإيموجي». 
لقد صارت هذه النخب جزءًا من مشكلة تدهوره، ما لم نقل قتْله، لأنها سايرت الأغلبية في التنكيل باللغة والنزول بأساليب التعبير إلى الحضيض. فهل بعد هذا يمكن الحفاظ على بصيص أمل في كون الآتي الإيموجي مشجعًا وأفضل؟! وهل خلف سراب الكتابة الوجيزة، باللغة وبالأشكال والصور، ما قد ينقذ من هذا الخطر الداهم على كتابة جديدة قد نطلق عليها «كتابة الما بعد»؟!■