مستقبل المهن في عصر الروبوت

مستقبل المهن في عصر الروبوت

يقف العالم على حافة ثورة تكنولوجية من شأنها أن تحدث تغييرًا جذريًا في الحياة والعمل الذي نؤديه والطريقة التي نتعامل بها بعضنا مع بعض، لذلك يجب إعداد أشخاص أكثر استنارة وقدرة على مواكبة التطورات، ومعرفة وظائف المستقبل التي لا تخطر على خيالنا الآن، لكنها قد تكون واقعًا وحقيقة في الغد القريب.
وفي ظل التقدم العلمي واعتماد الروبوتات والذكاء الصناعي في مجالات عدة، بدأت المخاوف تتجلى بشأن اختفاء بعض الوظائف من سوق العمل، وفي المقابل، سيكون العالم في المستقبل القريب في حاجة شديدة لعدة وظائف ستغزو سوق العمل. تُرى ما هي وظائف المستقبل بالذات في الزمن الرقمي وعصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطاقة البديلة والأوبئة والجوائح؟ وقبل ذلك ما المهن المهددة بالاندثار في المستقبل القريب؟ وهذا ما سنناقشه عبر السطور الآتية.

تغيرات سوق العمل
حسب دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي نشرت مؤخرًا، سيرتفع معدل الاعتماد على الآلات (Automation) في كافة أنواع الوظائف إلى 52 في المئة بحلول عام 2025. وتوصلت الدراسة إلى أن الروبوتات ستقضي على نحو 85 مليون وظيفة في الشركات متوسطة وكبيرة الحجم خلال السنوات الخمس القادمة.
وهناك مهن كثيرة ستنقرض تمامًا، ومهن جديدة تظهر حاليًا لم يكن لها وجود قبل عدة سنوات، وأخرى قادمة لم توجد بعد، فحسب دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي (Weforum) نشرت أخيرًا فإن 65 في المئة من طلاب المدارس الابتدائية حاليًا سيعملون في المستقبل في وظائف غير موجودة الآن.
وقد اقتحمت الروبوتات خلال سنوات قليلة عدة مهن كانت قاصرة على الإنسان لاعتمادها القدرة على التفكير وسرعة اتخاذ القرار، وهنا تصاعدت المخاوف من خطورة المهن التي أصبح الروبوت مؤهلًا لأدائها.
ومن أشهر نماذج الروبوتات على المستوى العالمي يبرز اسم الروبوت «كوكو» السيدة الآلية العاملة، والتي تتحدث العربية والإنجليزية، ولفتت الانتباه إليها عالميًا بعد انتشار مقاطع فيديو مصورة وهي تجري لقاءات تليفزيونية وقدمت نفسها على أنها أول ممثلة آلية في الشرق الأوسط، وقالت: أسعى لتغيير نظرة العالم إلى الروبوت، خصوصًا أنه أصبح يتمتع بخصائص إنسانية، بداية من المظهر الخارجي المشابه للبشر، وحتى قدرته على تقدير ورصد مشاعر الآخرين والتفاعل معهم.
وأعلنت اليابان عن تولي 10 روبوتات مسؤولية تشغيل فندق سياحي إلى جانب تشغيل خدمة «التاكسي الروبوت» ذاتي القيادة، كما أعلنت أكاديمية شنغهاي لتكنولوجيا الرحلات الفضائية عن تطوير رائد الفضاء «شياو تيان» شديد الشبه بالشخصية السينمائية الشهيرة «الرجل الحديدي» الذي يمتاز بقدرته على التعامل مع بيئة الفضاء القاسية، وإكمال المهام المعقدة، ويمكن الاعتماد عليه في مهمة البحث العلمي على سطح الكواكب.
ويبقى «كوربو» الروبوت الأول الذي نفذ مهمة في الفضاء عام 2013، وصممت الروبوت الوكالة اليابانية لاكتشاف الفضاء «جاكسا» بالتعاون مع جامعة طوكيو على هيئة طفل ليكون رفيقًا لرائد الفضاء الياباني كويتشي واكاتا، وكان أول اختبار لروبوت يمكنه التحرك والتحدث حيث تنعدم الجاذبية الأرضية.
 وأنتجت الصين عام 2020م روبوتًا باسم «يانجيانج» ارتدى معطفًا طويلًا، ونظارات طبية، ومساحيق تجميل، وكان بإمكانه التحدث وتحريك الرأس ورفع اليدين وتحية الناس بثقة، أما الروبوت «هان» فقد احتل عناوين الصحف العالمية بسبب هيكله الذي اتخذ شبه العالم ألبرت أينشتاين مع شنب ضخم وشعر أشعث، كما كان «موموكو» أول روبوت ممثل من ابتكار ميتسوبيشي.
أما «لونغ» التي لفتت الانتباه بأدائها المؤثر لشخصية فتاة تعاني مرضًا ميئوسًا من شفائه في العرض الياباني المسرحي «سايونارا إي» أي «وداعًا» فكانت روبوتًا استعان به المخرج أوريزا هيراتا ليتبادل الحوار وكأنه ممثل عادي مع الممثلة بريرلي يونغ، ضمن أحد المهرجانات في طوكيو، وعلى الرغم من أدائها الميكانيكي، فإن صوتها الهادئ وهي تتلو أبياتًا شعرية، إلى جانب المؤثرات السمعية والبصرية، حققا لها تعاطفًا كبيرًا من الجمهور.
ويتوقع العلماء والمتخصصون أن يكون هناك قريبًا جراح تجميل للروبوتات، ومطور مهارات التواصل مع وكلاء السفر لهم، والطائرات من دون طيار، ووكلاء مبيعات لهم، وموسيقيون وفنانون ومحاسبون معززون بقدرات الذكاء الصناعي، ومشرعون ومصرفيون ومديرون للثروات الخاصة بالعملات الرقمية.

تحديات المستقبل
يرى المدرب الكندي جان فيليب ميشيل أنه لا يوجد شيء يُسمى «مهنة» يريد الشخص أن يعمل بها عندما يكبر، بل يجب التركيز على المهارات التي يريد كل طالب اكتسابها مبكرًا، ويجب على الطلاب التحول من التفكير في الوظائف والمهن إلى التفكير في التحديات والمصاعب لتحديد الأهداف الحقيقية التي يسعى إليها الشخص، وتحديد أهداف بعينها يساعد المراهقين في التخطيط لما يطلق عليه الكثيرون مصطلح «محفظة الوظائف»، ويتألف هذا النوع من المهن من مشاريع أو أدوار متباينة إلى حد ما، لكنها ستكون أكثر انتشارًا خلال العقد الدائم، ويجب على أبناء هذا العقد التخطيط لمسار وظيفي أكثر تحديدًا مما كان في السابق.
ويقول باحثون في دراسات المستقبل والموارد البشرية إن حياتنا العملية ستشمل إنجاز مهام عديدة أو مشاريع طويلة الأمد في ذات الوقت، وتشير جين مايستر، أحد مؤلفي كتاب «أجواء أماكن العمل في المستقبل»، إلى أنه بدلًا من تحديد دورك أو مهامك الوظيفية، فإنك ستضيف باستمرار مهارات ستزيد من فرص توظيفك، وتوجد حاليًا بالفعل علامات مُبشرة على حدوث هذا التغيير، فقد أصبح مألوفًا جدًا أداء مهام وأدوار متنوعة حتى داخل الشركة الواحدة.
وقد أشار تقرير «إلى الأمام سريعًا 2030: مستقبل العمل وأماكنه» والذي اعتمد على إجراء مقابلات مع (200 خبير) من آسيا وأوربا وأمريكا إلى أن 50 في المئة من المهن المتعارف عليها اليوم ستختفي بحلول 2025، إذ سيتحول الأشخاص إلى امتهان أعمال أكثر إبداعًا وإنتاجية، وأن التقنية ستحدث خلخلة في الوظائف، لكنها بالمقابل ستفتح آفاقًا جديدة من فرص العمل، وسيعتمد عدد كبير من الوظائف في المستقبل على الإبداع والذكاء والمهارات الاجتماعية والقدرات الخاصة لمواكبة الذكاء الصناعي... وحددت دراسة، أجراها باحثون بجامعة أكسفورد البريطانية 20 مهنة هي الأكثر عرضة لخطر حلول الروبوتات محل العنصر البشري فيها، ومن أبرزها: المسوقون عبر الهاتف، وموظفو التفتيش، وعمل الصرف الصحي، ومعلمو الرياضيات، ووكلاء التأمين، ووكلاء شحن البضائع، وموظفو الضرائب، وموظفو الحسابات، وأمناء المكتبات، ومدخلو البيانات، وموظفو المطالبات بشركات التأمين، وموظفو شركات السمسرة، وموظفو استقبال الطلبات بمراكز البيع، وحكام المباريات الرياضية، والصرافون في البنوك.
أما أهم المهن التي لن تستطيع الروبوتات إزاحة البشر منها فكانت الأطباء، والعلماء، ومهندسو الإلكترونيات، والمديرون السينمائيون، وخبراء العلاج الطبيعي، ومصممو الأزياء، وعلماء المواد، وخبراء النبات والتربة، والمعماريون والمهندسون المدنيون، والمحامون، والسياسيون.

العالم العربي والمستقبل 
تشير الإحصاءات إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربي 304 ملايين شخص لعام 2020، %36 منهم من جيل الشباب من 18 إلى 24 سنة، %88 من مستخدمي الإنترنت في العالم العربي يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بشكل يومي، ويشاهد العرب 280 مليون فيديو عبر منصة يوتيوب (YouTube) في اليوم، وينشرون 10 ملايين تغريدة كل يوم في تويتر (Twitter)، وهناك 164 مليون مستخدم للفيسبوك  (Facebook) يوميا في العالم العربي، حيث إن %63 من هؤلاء الشباب يتابعون الأخبار من خلال منصتي فيسبوك وتويتر، كما أن 88 في المئة من مستخدمي الإنترنت في العالم العربي يتصلون بالشبكة عبر الهواتف الذكية، ومع نهاية عام 2020 وصل عدد مستخدمي الإنترنت عبر الهواتف الذكية إلى 280 مليون شخص.
بتحليل سريع للحقائق أعلاه يتضح أننا أمام عالم جديد يختلف كل الاختلاف عن العالم الذي كان سائدًا قبل 10 أو 20 سنة، نحن أمام مجتمع رقمي افتراضي هائل الاتساع ومتعدد الرؤى، ونحن أيضًا أمام إنسان عربي جديد تمامًا، وهو إنسان افتراضي يمارس حياته بالكامل من خلال الاتصال بالشبكة، إنسان رقمي يتعلم ويتاجر ويعمل ويقرأ ويطالع ويحب من خلال الشبكة، فالإنترنت لم تعد مجرد وسيلة، بل هي طريقة عمل وأسلوب حياة.
كما يُعد العالم العربي واحدًا من أعلى مناطق العالم في نسب البطالة، وقد حدد تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «إسكوا» (ESCWA ) (2021) أن نسبة البطالة في هذه المنطقة قد بلغت %12.5في العام 2021، أعلاها في فلسطين (%31) وليبيا (%22) ثم تونس فالأردن (%21).
ومع ولادة المجتمع الرقمي وسيادة الإنسان الافتراضي والتغيرات العميقة التي فرضها على سوق العمل، فإن هناك وظائف كثيرة جديدة ولدت لم يكن لها وجود قبل سنوات قليلة فقط، وظائف مثل التسويق الإلكتروني وإدارة مواقع التواصل الاجتماعي، وتصميم المواقع الإلكترونية، وصناعة المحتوى الرقمي، وإدارة أعمال صناع المحتوى، وتحرير الفيديو، وبرمجة الحاسب الآلي وصيانته، وتصميم التطبيقات والألعاب الإلكترونية، وتحليل البيانات الرقمية، والأمن الإلكتروني وحماية البيانات، وتطوير الحوسبة السحابية، وغيرها الكثير من المهن الجديدة. 
وإذا كانت التكنولوجيا الحديثة ستغير طبيعة المهن المتاحة في المستقبل، لكنها بالمقابل ستفتح فرص عمل جديدة واعدة لم تكن معروفة من قبل، وأيضًا لا يمكن الاستغناء عن المهارات البشرية، ويمكن تطويرها وفقًا للتقنيات الحديثة، ولذلك فإن هناك دورًا مهمًا للحكومات والجامعات ومعاهد التدريب المهني، يتمثل في فتح تخصصات جديدة في الجامعات الحكومية والخاصة تتناغم مع سوق العمل المستقبلي، وإلغاء التخصصات التي لم يعد هناك حاجة لها، مع التركيز على التدريب للعمال المهددين بفقد وظائفهم، وإعداد الأطفال والناشئة للتعامل مع مهارات سوق العمل ووظائفه، بما فيها التعامل مع الروبوت، واستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتحديثها وتطويرها، كما يجب التركيز على تنمية المهارات الحياتية وغرسها في جيل المستقبل، ويبقى التحدي قائمًا ■