هل ماتت الدهشةُ؟

هل ماتت الدهشةُ؟

كثيرًا ما تبادر هذا السؤالُ إلى ذهني كلما بدأ محدثي بسرد خبرٍ قرأتُه للتو، كيف يمكن أن تثيرَ دهشةَ من بكفه خليوي يشي بأسرارِ العالم؟ نعيشُ في عالمٍ يشبه بيتًا زجاجيًا لا تحجبُ جدرانه الرؤية، عالمٌ تلاشت فيه عوائقُ المسافات الزمنية والمكانية والمعلوماتية، الخبرُ شرارةٌ في كومة قشٍّ جاف، والمعلومةُ تُتناقل مثل نسمة، وتنتشرُ همسةً في أذنِ الدنيا، والشاشةُ ساردٌ لا يَملّ ولا يُمَلّ، تواصل إفشاءَ أسرار الدّنيا من العجائبِ والغرائبِ التي لم تعد كذلك!
لم يعد مستغربًا أن يسودَ الصمتُ الجلساتِ والجمعاتِ إلا من بعض أحاديث مبتورة، فلا أخبار تُتناقل إلا ويكون ثمة مَن سبقكَ إليها، الأخبارُ والطرائفُ في متناول الجميع كبارًا وصغارًا، والوقتُ يضيقُ تستنزفه الشاشاتُ التي تتفنن في دفعك لتصفحها، فالسيلُ الإلكتروني الملون مطرٌ لا يعترف بالفصول، لا يهمه الوقتَ ولا التوقيت، فهل ماتت الدهشة؟ 
لا طرفة تشرع بروايتها إلا ويكسر لهفتك مُقاطع يعلن أنه يعرفها، فتتبدد سريعًا ضحكتك وتصمت بنظرة خيبةٍ وحرج! لهذا بات ثمة سؤالٌ لا بد وأن يسبق بدء الحديث: هل سمعت بالخبر؟ إنْ كان الرد بالإيجاب فإعادةٌ موجزةٌ وإبداءُ لرأي، وإن كان بالنفي تفننٌ في سردٍ مليء بالتفاصيل والاستعانة بالشاشة للحفاظ على لحظاتِ الدهشةِ الثمينةِ والتي باتت تسبقنا وتتسابقُ في الوصول للجميع، كأنّما حلّت الشاشة مكانَ الأحاديث، وصارت هي الراوي، لكأنّ روحَ الطفولةِ النقيةَ التي تستكشف العالمَ المليءَ بالغموض ذوتْ على شجرةِ القلب.
من عادتي أن أواصلَ الاستماعَ وألّا أقاطع محدثي أو أشذب ملامحَ الدهشة، لكن مع تعدد رواية الأخبار بتُّ أقترفُ أحيانًا هزَّ الرأسِ بِنعم قرأت، وأرفقُ ذلك بابتسامةٍ تؤكد عدم قدرتي على الدهشة!
وسط تعدد مصادر المعرفة وسرعة وصول المعلومة وصلنا لما يمكن تسميته بموت الدهشة، أو تضاؤل الفرصة في إدهاش الآخرين، حتى الأطفال ممّن تفتحت عيونهم على التكنولوجيا والشاشات ويفوقون الكبار التصاقًا بالتكنولوجيا ومعرفة بتقنياتها وأسرارها، غابت من ملامحهم تلك الدهشة النقية، ولم تعد أسئلتهم المُبشرّة ببواكير ربيع توجَّه للوالدينِ بل صارت تتجه مباشرةً إلى الشاشاتِ تستقي منها إجاباتٍ أحيانًا مغلوطة، وأسئلةً جديدةً متجددةً بعضها توسعُ مداركهم وأخرى تعكّر صفو طفولتهم، وتسرق مبكرًا عفةَ الدهشةِ من حواسهم!
وسط عصر موت الدهشة، برزت فئةٌ من هواة النشر والانتشار، ممّن يسعونَ إلى ما يشبه السبق الصحفي، فتجدهم - مثلًا- ينشرون خبرَ وفاةٍ قبل أن يقومَ ذوو المتوفى بذلك، أو يبثّون عبر «هواتفهم الذكية» - التي ينقُصها الذكاء - المناسباتِ الاجتماعيةَ بتفاصيلها الخاصةِ! لا أعرفُ من أين يستمدُّ هؤلاءِ هِمتهم العاليةً في النشرِ السريعِ المتسرّع؟ من أين يلتقطون المهارةَ الفارغةَ في بثّ اللحظةِ لا عيشها؟ وأين منهم أدبياتُ النشر وحرمةُ المجالس واحترامُ خصوصياتِ الآخرين؟! ■