«استقبال الشعر»

«استقبال الشعر»

 تأتي هذه القراءة في كتاب الدكتور أحمد درويش «استقبال الشعر... محاورات مع الشعر التراثي والمعاصر»، بمناسبة حصوله على جائزة البابطبن هذا العام، ولأن الكتاب ينطوي على دعوة مهمة تحاول العودة بالنقد مرّة أخرى إلى جمهور القرّاء وعموم المثقفين... وهي دعوة جليلة - بلا شك - بعد عقود قضاها النقد منعزلًا داخل أروقة النخب الأكاديمية عاجزًا عن التأثير في الجمهور العام الذي يتوجه إليه الأدب بالأساس، وهذا ما نلمسه بداية من عنوان الكتاب الذي يؤكد على حفاوة الاستقبال وفعل المحاورة بكل ما تنطوي عليه المحاورة من حيوية ومحبة بين الشعر والنقد.

 

قد لا تكون هذه هي المرة الأولى التي نقرأ فيها كلمة «استقبال» مضافة إلى الشعر أو إلى نصوص الأدب بوجه عام؛ فـ«الاستقبال» أحد مفهومات نظريات القراءة التي استقرت نسبيًّا في الممارسة النقدية العربية مأخوذة من «نظريّة الاستقبال» Reception Theory لـ«هانز روبرت ياوس» Hans Robert Jauss، ويدور في فلكها أيضًا «جماليّة الاستقبال» و«جماليّة الاستجابة والتأثير»، أو ما يعرف بنظرية «استجابة القارئ»... ومن الصعب الفصل بين النظريتين؛ ففعل القراءة الذي يقوم به القارئ الفرد لا ينفك عن مقاربة استقبال جمهور القراء ودراسة تأثيرهم في التشكيل الجمالي لأفق توقع الاستجابة في حقبة ما... ويمتد الأمر داخل هذه النظرية إلى طموح أوسع يرمي إلى مقاربة «تاريخ الأدب» نفسه من خلال رصد هذه الاستجابة الحيّة والمتراكمة لجمهور القرّاء. 
وهذا بالتأكيد ما يدركه تمام الإدراك أستاذ متمرس مثل الدكتور أحمد درويش، ولكنه هنا يحاول تصفية كلمة «الاستقبال» من حمولتها النظرية التي تجد رواجًا كبيرًا داخل مقولات التأويليين والتفكيكيين... منهم من يعتدل في حد الممارسة ولا يفرط في الضوابط التي تحكم عملية القراءة، ومنهم الذي يبالغ في إطلاق يد القارئ في التأويل على نحو يقوض الوجود الموضوعي للنص. 
يعود الدكتور درويش بكلمة «استقبال» إلى حدودها اللغوية والإنسانية الأولى؛ فـ«الاستقبال» فعل لا يخلو من استعداد وانتظار، ولا يخلو أيضًا من حفاوة ومحبة وتقدير، دون أن يجور فيها طرف على الآخر، كما أنه يُفرِّق بين «الاستقبال» ومفهومي: «القراءة» و«التلقي»... وصحيح أن «الاستقبال» يتداخل معهما ولكنه - من وجهة نظر الدكتور درويش - يتسع «للسماع ولأطياف الحواس الأخرى والملكات التي تشارك في عملية الاستقبال». كما أن الاستقبال «يعني معايشة التجربة والتأهب لهذه المعايشة بمقاييس الفن وصناعة الشعر التي ينبغي ألا تبدو وكأنها مقصودة لذاتها، وإنما تبدو متجلية في حوارات حية مع جزئيات التجربة التي يعايشها لحظة الاستقبال». 
نحن إذن إزاء محاولة للتخفف من الحمولة النظرية للمصطلح، دون أي تجاهل لتأثيرها في الفضاء النقدي، وإزاء إقرار أو تأكيد على مفهوم «التجربة» بما يؤكد الوجود التاريخي والموضوعي للنص، على مستوى الإنتاج والتلقي معًا، ونحن أخيرًا إزاء رغبة في العودة بمفهوم النقد ووظيفته إلى حدوده الأولى، بوصفه عملية تأمل وحوار مع النص، لا هدف لها غير إضاءة جوانبه وإنارة ما اعتمّ منها، وتقديم هذه الإضاءة بلغة واضحة إلى القارئ. 

مدرسة دار العلوم النقدية
ينتمي الدكتور أحمد درويش إلى الجيل الثاني من نقاد «مدرسة دار العلوم» النقدية؛ لديه - شأن النابغين من أبناء تلك المدرسة - تكوين تراثي راسخ، يصله بالبلاغة القديمة في عصور ازدهارها، ولديه وعي بالتيارات النقدية الجديدة، والشعرية الفرنسية بحكم دراسته بالسربون، ثم انخراطه في ترجمة كتاب جون كوين «النظرية الشعرية» بجزأيه: «بناء لغة الشعر» و«اللغة العليا»، ولديه قبل هذا وبعده خبرة تعليمية على امتداد عقود متصلة، وهذه الخبرة مكنته - بشكل مباشر - من ملاحظة مخاطر موجات المنهجيات اللسانية (الصارمة) في الممارسات النقدية العربية... فقد تراجع مع هذه المناهج مفهوم النقد بما هو وسيط بين القارئ والنص، وبات النقد - تحت شعار العلمية والموضوعية - ميدانًا وسعيًا لهيمنة الجداول والأرقام واللغة الجافة، فضلًا عن فوضى المصطلح وغرابة ترجمته وإثقال الممارسة به... إلخ.
والنتيجة الطبيعية لذلك، أن النقد أصبح ممارسة نخبوية، يعجز عن متابعتها جمهور القُرّاء الذين ثقل عليهم فهمه، فعزفوا عن متابعته، وهذا ما لا يمكن تجاهله أو القبول به بالنسبة لناقد يتكئ على إرث ممتد انشغل إلى أقصى حد بمفهوم «البيان والتبيين»، كما أن طبيعة عمله تقتضي منه أن يتوجه بالكلام إلى طلابه، وما يتطلبه ذلك من حرص على الوضوح والإفهام.  
يحاول الدكتور درويش في كل ما أنجز تقريبًا، معالجة هذا الخلل، دون أن يتخلى عن المنهاجية أو منجز النقد الحديث، ولكنه لا يقدم المنهج بين يدي الممارسة، ويحرص على تقديم مقاربة ميسورة إلى القارئ، اعتمادًا على لغة تتسم تراكيبها بالوضوح، وتتجنب قدر ما تستطيع فتنة المصطلح الغربي الذي يحول في كثير من المقاربات بين النقد والقراء. 
إنه يقول بوضوح: «إنني أميل إلى فكرة أن أضواء النقد ينبغي ألا تُسلط على عين القارئ، وإنما على صفحات النص، لكي تعطي للمتأمل فرصة الوصول إلى مفتاح النص بمساعدة الناقد».
وانطلاقًا من هذه القناعة قدم الدكتور درويش عبر مسيرته النقدية الطويلة مقاربات لعشرات النصوص، منها ما ينتمي لجنس الشعر قديمه وحديثه، ومنها ما ينتمي لجنس المسرح، ومنها ما ينشغل بفن الإبيجراما... وهو في كل ذلك ينبهنا باستمرار إلى أن النقد خبرة بالنصوص وقدرة على تذوقها، وأن مهمة النقد التاريخية هي «تقريب» النصوص لجمهور القراء، ولا يجب أن يحيد النقد عن هذه الغاية، وتبقى المناهج دائمًا في حدود وظيفتها، مجرد أدوات تمكننا من سبر أغوار النصوص، أو «رؤية» ما بها من زوايا جديدة. 

الاستقبال حوار
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، يدور الأول حول الشعر القديم، ويعالج القسم الثاني استقبال الشعر المترجم في الثقافة العربية، أما القسم الثالث فهو محاورات مع الشعر المعاصر. لا يقدم لنا الكتاب منهاجية محددة تسم هذه المقاربات، لا يفعل ذلك في مقدمات الأقسام كما أنه لا يفعل ذلك داخل المباحث المختلفة، ولكنه يؤثر أن يدخل إلى عالم النص مباشرة، ويتركنا نتساءل حول المنهج وأدوات المعالجة.
وما من شك أن الكشف عن منهج المقاربة عمل ضروري، ليس لأنني أنحاز إلى المنهج فحسب، وإنما لأن الحوار «أي حوار» لا يستقيم دون الكشف عنه، خاصة وأن الكتاب ينطوي على دعوة ظاهرة تحاول معالجة خلل المسار النقدي، وما يتبع ذلك من إعادة النظر في الممارسات النقدية التي تقدم المنهج على النص، وتبالغ في توظيف أداوته ومراجعه بما يجعل النص ميدانًا لاختبار آليات المنهج من ناحية، واستعراضًا - غير مبرر- لثقافة الناقد من ناحية أخرى... ولا يمكن لمثل هذه الدعوة إلا أن تقدم أدواتها للقراء والنقاد معًا، فنحن في النهاية لا يمكننا الحديث عن البديل دون تحديد له... فما هي المبادئ النظرية التي تستند إليها هذه الدعوة؟

مرتكزات مقاربة النصوص
ينطلق الدكتور درويش من ثلاثة مرتكزات أساسية في مقاربة النصوص، وهي: 
أولاً: النص الشعري بنية لغوية تكتفي بذاتها، صحيح أنها وُجدت داخل سياق تاريخي واجتماعي عام، إلا أنها تملك وجودًا مستقلاً، فالقصيدة ليست تأريخًا، وليست وثيقة اجتماعية، ولكنها حضور جمالي داخل هذه الثقافة أو داخل هذا السياق، وهي جزء من تقاليد تشبهها، بمعنى أنها تتصل بغيرها من النصوص والتقاليد، وتنفصل عنها في الوقت نفسه... فالحديث - مثلًا - عن وحدة الطلل في سينية البحتري، قد يستدعي مراجعة للوحدة ذاتها عند الشعراء الجاهليين لمعرفة تطور هذه الوحدة جماليًّا في النص موضع المقاربة.
يُذكِّرنا هذا الكلام بالتأكيد بأهم مبادئ «النقد الجديد»، وقد وجد هذا التيار قبولًا واضحًا لدى كثير من نقاد الجيل الثاني والثالث من النقاد العرب، فقد كان مخرجًا جماليًّا واعدًا بعد أن وصلت منظومة المناهج السياقية: التاريخية والاجتماعية والنفسية إلى أفق مسدود على يد نقاد جيل النهضة أمثال: أحمد ضيف وطه حسين والعقاد... وغيرهم. 
لقد وجدت مدرسة النقد الجديد اهتمامًا ملحوظًا من أساتذة دار العلوم، والدكتور درويش أحد أعلامها البارزين، ومن المعروف أن هذا المعهد العريق قام على مقولة نظرية تحاول الجمع بين التراث والحداثة، ولا يخفى عليك التشابه القويّ بين هذا المرتكز اللغوي للنقد الجديد والبلاغة العربية التي لم تنشغل بالسياق التاريخي والاجتماعي، ومن هنا تحديدًا يمكننا فهم هذه المكانة المهمة التي احتلها النقد الجديد في كتابات البارزين من نقادها أمثال: علي عشري زايد ومحمود الربيعي وأحمد درويش. 
ثانيًّا: أن النص بنية شكلية ذات ترتيب خاص، تعمل على تنظيم عالمه ومنحه دلالته، وهذه البنية فعل فردي يقوم به الشاعر الذي يلتقط لحظة زمانية محددة، قد لا يكون لها علاقة بالزمن الخارجي، ومن داخل هذه اللحظة المتفردة على مستوى الشعور واللغة الممتازة، والتي هي بالضرورة جزء من لغة الجماعة وتقاليد الفن تتشكل البنية بالمفهوم اللغوي الذي لا ينشغل بتقاطع البنية مع العالم خارج النص إلا في أضيق الحدود بالعودة لمقالته: «الصراع المحكم في مرثية لاعب سيرك»، وبهذين الرافدين الخاص والعام، تتشكل بنية القصيدة ذات النسق الدال... وتقع على الناقد مهمة كشف انتظام تلك البنية وإظهار دلالتها.  
ثالثًا: تنطلق المقاربات من قناعة راسخة بدور الوزن (بحور الشعر) في تحديد جوهر الشعر الراسخ، سواء في شكلها الخليلي الموروث أم في شكلها المعاصر (التفعيلة)، فالوزن بالنسبة له ركن أساسي في تمييز الشعر من غيره، بل إنه محكّ أساسي في تمييز الشعراء الموهوبين من غيرهم، واتهام الوزن بالرتابة من قبل شعراء «قصيدة النثر» قول مردود عليه؛ فالعروض «نظام شديد الدقة، ويسمح - لو تم استيعابه جيدًا - بعشرات الصور من التجديدات الإيقاعية المحتملة، بل المبتكرة مع المحافظة على جوهر نظام الإيقاع، الذي يحمي المبدعين الحقيقيين الموهوبين من غيرهم ممن يقتحمون المجال بحسن نية، دون توافر موهبة الإيقاع لديهم. وهي مدخل ضروري؛ لتبسيط وضبط عناصر البناء الشعري من تخييل وتصوير وابتكار لعوالم جديدة، وربط خاص بين مفردات اللغة وعوالمها الداخلية والخارجية، وإعادة تشكيل العالم تشكيلاً مموسقًا».
واللافت أن مقولة الوزن تلحّ عليه في كل ممارسة تقريبًا، وهذا الإلحاح لا يمكن فهمه بعيدًا عن السِّجال الذي لم يتوقف منذ ظهور «قصيدة النثر» على ساحة الإبداع العربي قبل أربعة عقود، بما يعني أننا إزاء موقف واضح من هذه القصيدة في هذا الكتاب، فهو يتجاهلها تمامًا رغم حضورها المهيمن على الجمالية العربية الآن. ولعله ليس من قبيل المصادفة أن يفتتح هذا الكتاب بمبحث يشبه المقدمة جعل له عنوانا دالا هو «الموسيقى والشعر».

الطبيعة الإشكالية
فالعروض هنا بمنزلة نقطة الارتكاز الجوهرية في الشعر، فحوله أو منه تنطلق المكونات الأخرى التي تسم الشعر من حيث هو، وربما لهذا يرادف الدكتور درويش بين ثلاثة مفهومات أساسية، وهي: الوزن العروضي، والموسيقى والإيقاع... ولا يجب تجاهل الطبيعة الإشكالية التي تنشأ عما بين هذه المفهومات من تداخل؛ إذ يصعب علينا التفكير في إحداها بمعزل عن غيرها، فإذا كان الوزن بناء رياضيًّا مجردًا فإن الموسيقى تتبدى في الظواهر اللغوية المتماثلة والمختلفة التي تنشأ على مستوى الصوت والدال والتركيب، ويتجلى الإيقاع في التجسيد الحيّ لفرادة النص: تحولات البنية، وخصوصية الدلالة ومستويات تأويلها. 
وإذا كانت الدراسات المقدمة هنا قد أغفلت التمييز بين هذه المفهومات على المستوى النظري، فإن الخبرة الكبيرة التي يتمتع بها الدكتور درويش مكنته من ملاحظة ما بينها من فروق على مستوى الممارسة، ففي وقفته المشوقة إزاء مرثية «أبي ذوئيب الهذلي» التي يطلق عليها «رباعية الفناء ص41» نعثر على مثل هذا الوعي الدقيق لمفهوم الإيقاع، حيث يقول تعقيبًا على المشهد الثاني من هذه القصيدة: «عبّرت البنية الإيقاعية لهذا الجزء من اللوحة عن انتقال الحركة من السرعة الرتيبة التي تم التعبير عنها من خلال «كأنما» إلى الهدوء والترقب الذي أعقبه الفزع والنفور من المعركة القصيرة الفاصلة، ولقد تم اختيار حروف العطف لرصد نبض الحركة في هذا الجزء من المقطع ...». 
وبناء على هذا التمييز بين المفهومات الثلاثة، يمكننا أن نقول: إنه لا يخلو نص من الإيقاع والموسيقا، وإن خلا من الوزن، وقد نتوسع أكثر في مفهوم الإيقاع نفسه، بما يمكننا من تقديم مقاربات «إيقاعية» للنصوص الشعرية والعمارة والرسم والنحت... إلخ. وهو ما يفتح الباب واسعًا لاختبار إيقاعات قصيدة النثر التي باتت تهيمن على المشهد الشعري العربي اليوم. 
بالتأكيد تحتاج هذه الدعوة الجليلة التي قدمها هذا الكتاب إلى مساحة أوسع من الانشغال، فاستعادة القارئ العام إلى المقاربات النقدية هدف سامٍ، كما تحتاج المنطلقات النقدية التي ينطلق منها الدكتور درويش إلى نقاش حولها، وكل نقاش يعد بمزيد من النمو والإثراء ■