لماذا أصيب العقل العربي بالجمود؟

لماذا أصيب  العقل العربي بالجمود؟

تجاوز عدد سكان العالم العربي أربعمائة مليون نسمة يعيشون على مساحة جغرافية كبيرة تخللتها فترات تاريخية قامت فيها حضارات كبرى لها بصماتها الفكرية والثقافية وإنجازاتها في مسيرة الإنسانية. لكن تعيش المنطقة حاليًا أوضاعًا لا تعكس مسيرتها ولا إنجازاتها التاريخية ولا قدرات العقول المبدعة قديمًا، فالنتاج الفكري والثقافي والعلمي العربي يساوي حاليًا إنتاج دولة أوربية واحدة، وأصبحت معظم الدول العربية في مراكز متراجعة في معظم مظاهر المجتمع.

 

وهناك عدة عناصر أدت إلى ذلك لعل أبرزها على الإطلاق مكونات العقل العربي وطريقة تفكيره ومدى انفتاحه على العالم أو الانعزال عنه ومدى قابلية المجتمعات والقائمين عليها بالسعي إلى التطوير والتحديث. والعقل العربي ليس عقلًا جامدًا في طبعه، بل لديه القابلية للتطور وهذا ما حدث بالفعل خلال فترة النهضة العربية الحديثة. فبعد قرون من الخلافة العثمانية التي تميزت بالجمود الفكري والعقائدي شهد العالم العربي نهضة في مختلف الجوانب بدأت تدريجيًا مع ما قام به محمد علي في مصر من إصلاحات خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وما لبث أن انطلق جانبها الفكري والثقافي في النصف الثاني منه واستمر حتى منتصف القرن العشرين، حيث شهد نصفه الثاني انتكاسة فكرية وثقافية أجهضت منجزات الرواد المحدثين في كافة مجالات المجتمع تقريبًا.
    
مكونات العقل العربي
 من يدقق في الفترة الزمنية التي شهدت النهضة العربية الحديثة سيجد مع الأسف أنها تمت أثناء خضوع العالم العربي للاستعمار الأوربي، في مقابل ذلك جاء التراجع الكبير بعد التحرر من الاستعمار وقيام الدول الوطنية. إذ شهدت فترة الاستعمار الأوربي تغيرات عدة في واقع المجتمعات العربية، فقد شيدت بنى تحتية مختلفة وصيغت الدساتير القائمة على التعددية السياسية وتأسست الجامعات والمعاهد العليا علاوة على محاولة الربط الفكري والثقافي بين أوربا والعالم العربي، تخللتها فترات معينة من حرية التعبير ساهمت بتشكيل أرضية خصبة للحوار والجدل والنقاش والنقد في عدد من المجتمعات. في ظل هذه البيئة تجاوز العقل العربي مرحلة جموده التي فرضتها عليه الخلافة العثمانية وسعت الرموز الثقافية والفكرية لتحديث المجتمع العربي في شتى المجالات للحاق بركب الحضارة المدنية الحديثة.
فلو نظرنا لمكونات العقل العربي قبل النهضة العربية سنجد أن المكون الثقافي والفكري مستمد من القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية، وطرق التفكير التقليدية بما تحتويه من تصورات لليقين والقطعية والمسلمات غير قابلة للنقد، وقيم وتصورات طريقة الحياة السائدة المرتبطة بالبعد الاقتصادي التقليدي المعتمد على الطبيعة في تحصيل لقمة العيش.
ومع بدايات النهضة دخل العلم والمعرفة الناتجة عنه وطرق التفكير التي جاء بها على العقل العربي فأزاحت جانبًا كبيرًا من مكونات العقلية التقليدية، ومثل التقدم الأوربي تحديًا كبيرًا حيث ظهرت المطالبات بالانفتاح على أوربا وجلب المعرفة العلمية منها وتبني البعض ما يجري فيها من تطورات في نظام الدولة والمجتمع كنماذج يمكن محاكاتها أو تطويع جوانب منها بما يتماشى مع الواقع العربي.
وخلال النهضة العربية ظهرت عدة اتجاهات فكرية، مثل حركة الإصلاح الديني والحركة القومية العربية بمختلف اتجاهاتها وحركة التنوير العربية والتيارات اليسارية والليبرالية وغيرها، وقد ساهم رموزها، كل حسب توجهه، في السجال الفكري والثقافي الدائر بين مختلف المشارب الفكرية عبر الصحافة والمنتديات والمجلات والكتب. ففي هذه الفترة حدث تحول في العقل العربي بعد فترة طويلة من الجمود، وكان المحرك الأساسي هو خلق واقع ومجتمع جديدين يختلفان عما هو سائد عبر بناء مجتمعات مدنية جديدة تواكب تطورات العصر العلمية والحضارية وباجتهادات ومشاريع فكرية وثقافية متنوعة، بعبارة أخرى تم إعمال العقل العربي وتحريره من جموده الفكري ومحاولة ربط تفكيره ورؤيته للواقع مع العصر واستخدام المناهج والأساليب العلمية والفكرية في تحليل الواقع وصياغة المستقبل وبناء المجتمع والدولة الحديثة، وتحديث الثقافة العربية والرؤية النقدية للتراث وغيرها. ومن دون شك كان تأثير التنوير الأوربي طاغيًا خلال هذه المرحلة، ومثلت أفكاره وطرق تفكيره مصدرًا خصبًا للمفكرين والمثقفين والأكاديميين العرب، خصوصًا من درس منهم في أوربا، حيث عمل الكثير منهم وبشكل جاد على تطوير الواقع العربي وتحديثه وإعادة صياغة العقل العربي من روح التنوير الأوربي. لكن، ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين، تم الإجهاز التدريجي على قرن كامل من محاولات التحديث والتطوير الفكري والثقافي، وعاد العقل العربي للجمود مرة أخرى وبعوامل بعضها لم يكن موجودًا سابقًا مثل ظهور الحركات الأصولية والإسلام السياسي وتسييس كل شيء في المجتمعات العربية وإحياء ثقافة التشكيلات الاجتماعية التقليدية وغياب الحريات والإجهاز على القوى المدنية والتنويرية في معظم أنحاء العالم العربي.

عوامل الجمود
هنالك عوامل عدة ساهمت في جمود العقل العربي وأدت إلى التراجع الكبير الذي تعيشه معظم الدول العربية. وأول هذه العوامل هو التحول من مجتمعات منتجة إلى مستهلكة. فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين تدفق الثروة النفطية في العديد من الدول العربية وتحرر الشعوب العربية واستقلال دولها عن الاستعمار، ونتج عن ذلك أمران، الأول تصميم معظم الدول العربية على أساس العمل الإداري بالدرجة الأولى وعدم الاهتمام ببناء اقتصاد منتج، فأصبحت البيروقراطية الإدارية وما نتج عنها من مشكلات وظواهر سلبية السمة الغالبة على معظم الدول العربية. والأمر الثاني يتعلق بالتصفية التدريجية لمظاهر الإنتاج الصناعي التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في عدد من الدول العربية والانفتاح على الاستيراد من الخارج والتحول إلى الاستهلاك، مما ساهم في بروز الثقافة الاستهلاكية وانتشار قيمها السلبية وتشيوء الإنسان.
ولتوضيح المسألة حول علاقة الإنتاج بالتفكير نستشهد بتطور الإنتاج الاقتصادي الصناعي الذي اقترن بالعلم ومن ثم التكنولوجيا منذ العصر الحديث، إذ تم توظيف الابتكارات العلمية خصوصًا تلك التي تأتي لحاجات ماسة في حياة الإنسان إلى جزء لا يتجزأ من الاستثمار الاقتصادي والمصادر المدرة لرأس المال والوظائف وتطوير حياة الإنسان وواقعه. وتشكل تقريبًا تحالف بين الشركات والمؤسسات الإنتاجية التجارية مع المؤسسات التعليمية العليا ومراكز الأبحاث الفكرية والثقافية لدعم الإنتاج الاقتصادي الصناعي وتشجيع الابتكار والتعامل مع نتائجه الاجتماعية والسياسية والثقافية. وقد تراكمت عن هذه العملية معارف إنسانية عدة أحدثت في فترات زمنية متلاحقة تطورات نوعية نقلت المجتمعات الإنسانية من واقع إلى آخر أحدث منه يأتي في الأغلب نتيجة لأنماط إنتاج اقتصادية جديدة يكون لها أبعادها الاجتماعية والثقافية والفكرية، فتعمل القوى الحية في المجتمع على إيجاد وسائل التكيف مع هذه التحولات ومعالجة المشكلات الناتجة عنها بحلول علمية وصياغة قيم وأفكار وطرق تفكير تتماشى معها. وهذا لا يتم إلا من خلال العقل المتجدد والمتسائل والمتفاعل والباحث والناقد والمحلل الذي لا يعرف الانكفاء أو الجمود، فإنجازات الحضارات القديمة والحضارات المدنية الحديثة وواقعنا المعاصر جاءت نتيجة لعقل الإنسان المبدع الذي راكم المعرفة والإبداعات الفنية والعلمية والاقتصادية والسياسية والفلسفية والفكرية والثقافية وأوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن.
وبالعودة إلى واقعنا العربي فإننا نفتقر مع الأسف لاقتصادات منتجة أو متطورة إلى حد كبير تحرك العقل وتجعله حيًا ومتفاعلاً مع واقعه وتطوراته، فلا تزال الغالبية الساحقة من المجتمعات العربية استهلاكية الطابع والفواعل الاقتصادية فهي إدارية وخدمية أكثر منها منتجة وصناعية وهذا ساهم - بلا شك - في حالة الجمود العامة للعقل التي عشناها في واقعنا خلال العقود الماضية. وعلى الرغم مما سبق لم تخل الساحة العربية من الأفراد والتجمعات المحدودة التي كانت تنتقد حالة جمود العقل العربي العامة وساهمت في مجالات معينة في تطوير جوانب من الموضوعات والأفكار، لكن عددها وتأثيرها كان محدودًا جدًا على السواد الأعظم من الأفراد وكذلك الساحة الثقافية العربية. كما تجدر الإشارة إلى التطورات الإيجابية التي تجري في دول الخليج العربية المرتكزة على التحولات الاقتصادية والثقافية الجارية فيها والتي بدون شك تعطي بصيص أمل بإعادة الاعتبار للعقل العربي آملين أن يكتب لها النجاح.

الأدلجة والعصبيات
مرت على العالم العربي بعد التحرر من الاستعمار فترة تحولت فيها العديد من الأنظمة العربية إلى أنظمة مؤدلجة تنتهج الفكر القومي أو الاشتراكي أو اليساري، حيث تقوم الدولة الوطنية على أيديولوجية معينة تصمم كافة مفاصلها بناء عليها. وتنبع سياسات الدولة من الأيديولوجية المتبناة ويفصل الواقع على مضمونها لا على متطلباته الفعلية وتخضع جميع المؤسسات إداريًا وقانونيًا وفكريًا للدولة المؤدلجة، وقاد ذلك إلى غياب التعددية في الأفكار والرؤى وحصر كل ما يتعلق بالدولة في إطار فكري أيديولوجي أحادي لا يمكن الخروج عنه يمثل عصب الدولة ومرجعية الحقيقة التي يتأسس عليها المجتمع، وعليه لم يعد هناك سوى طرح فكري واحد ولا يأخذ بأية أفكار أخرى تخالفه أو تختلف عنه، وتم حصر العقل بهذا الفكر دون سواه وسبب ذلك جمودًا للعقل والفكر، بل ويتم تصنيف أي مخالف أو مجتهد على أنه من المنحرفين فكريًا ويوضع في خانة الأعداء.
ولم يقتصر الأمر على الدولة، بل وحتى القوى السياسية التي سادت في الشارع العربي حتى نهاية الثمانينيات مثل القوى القومية واليسارية والاشتراكية، وتلك التي ازدهرت منذ نهاية السبعينيات وحتى اليوم كالقوى الأصولية، تميزت بأطروحاتها الأيديولوجية هي الأخرى وحولت الصراع فيما بينها إلى أيديولوجي. وقد تميزت تلك الأيديولوجيات بأنها شمولية وترتكز كل منها على منظور معين لكيفية بناء المجتمع والدولة من خلال فكر أحادي لا يقبل الأطراف الأخرى، بل يقصيها، وهذا يعني أن الأمر لا يتعلق بطرف واحد، بل نجد الغالبية الساحقة من مكونات الدولة والمجتمع تنطلق من أفكار مؤدلجة قادت إلى جمود العقل الفكري كونها تحاصر العقل بمقولات نظرية مجردة لا أساس لأغلبيتها الساحقة في الواقع.
وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي في بدايات العقد الأخير من القرن الماضي تهاوت الأيديولوجيا على مستوى العالم وازداد التضييق على القوى المدنية في مجتمعاتنا وتراجعها الذي أدى إلى انحسار الأفكار المدنية الحديثة وازدهار العصبيات بشتى أنماطها، فبرزت مظاهر التعصب والتطرف والممارسات التي تقود إلى العنف، وتزايد الإقصاء على أسس اجتماعية وعرقية ومذهبية ودينية. وأجهزت هذه العصبيات على بقايا الإرث التنويري والتفكير العقلاني الذي بدأ من حركة الإصلاح الديني والحركة القومية العربية والمفكرون والمثقفون والتنويريون العرب، وأجهزت أيضًا على الإرث المدني وتعمل على العودة بالمجتمع والدولة إلى ما قبل الدولة المدنية الحديثة. ومن يجهز على الإرث التنويري المدني فهو لا يجمد العقل فقط، بل ويغيبه، فالعقل العربي أصبح مغيبًا بأوهام العصبيات التي لا صلة لها في الواقع الحضاري المدني وغارقًا في مسلمات غير قابلة للنقاش أو التغيير ويعيش خارج إطار الزمان والمكان.

تسييس وأدلجة التعليم
أعاد العلم الحديث، كما هو معروف، تأسيس المعرفة الإنسانية على أسسس تجريبية وموضوعية، وأعاد أيضًا صياغة عقل الإنسان وطرق تفكيره التي تحولت من الخرافة والأسطورة والغائية إلى الواقعية والعقلانية والمنهجية وتميزت بحرية البحث ودراسة كل شيء في الحياة والعالم. وتسعى المجتعات المتقدمة من خلال المؤسسات التعليمية إلى بناء الإنسان عبر تشكيل عقل علمي منهجي يستند على المنطق والتحليل والنقد ومنفتح ويُخضع في النهاية كافة قضايا الواقع الإنساني للبحث العقلي الحر، وهذا ما أعطى العقل الديناميكية للابداع والتطوير والبحث في الوسائل التي تخلق الرفاهية لحياة الإنسان من جهة وإحداث نقلات نوعية معرفية وعلمية وثقافية وفكرية من جهة أخرى. والعقل الحر المتسلح بالعلم هو القادر على التصدي لقضايا الإنسان والتحديات التي يواجهها، وبالتالي لا تستقيم عملية التعليم وتتطور إلا من خلال خلق العقل الناقد والمنقح والديناميكي.
وقد حققت المؤسسات التعليمية في النصف الأول من القرن العشرين نجاحات عدة في تأسيس وإعداد أجيال على المعرفة والأساليب العلمية الحديثة والتفكير العلمي، ومن يمعن النظر سيجد أن الغالبية الساحقة من الرموز العلمية والثقافية والفكرية العربية هي نتاج لتلك الفترة المزدهرة من التعليم والذي للأسف تم أثناء فترة الاستعمار الأوربي، لكن بدأت الأمور بالتراجع التدريجي بعد التحرر من الاستعمار إذ بدأت عملية تسييس التعليم والمؤسسات التعليمية وأدلجته أيضًا، حيث خضعت المؤسسات التعليمية ومناهجها إلى التوجهات السياسية المرسومة لها من أجل تطويع التعليم بما يتناسب مع الأيديولوجيا أو الثقافة العامة السائدة في المجتمع. وشهدت فترة الثمانينيات من القرن المنصرم والعقد الأول من الألفية الثالثة أدلجة واضحة للعملية التعليمية برمتها، علمًا ومناهج وإدارة، عندما هيمنت القوى الأصولية على المؤسسات التعليمية في معظم أنحاء العالم العربي. ولم تكتف بذلك، بل قدمت معرفة بديلة للمعرفة العلمية، تتحدى فيها ضمنيا الأدوات التي ساهمت في تراكم المعرفة العلمية الحديثة بشكل كبير منذ عصر النهضة وأفرغت الكثير من الموضوعات من محتواها العلمي وتأثيراتها الممكنة على الواقع والمجتمع.
ومن جهة أخرى تم عزل دور العلم والمعرفة العلمية عن المجتمع وأصبح محصورًا في أروقة المدارس والمعاهد والجامعات، وجرد ذلك التعليم ومؤسساته من أهم وظيفة لهما، وهي ربط العلم بالمجتمع في عملية البناء والتنمية ومعالجة القضايا والمشكلات عبر تقديم الحلول العلمية لها، علاوة على تعثر نشر الثقافة العلمية في المجتمع التي تعتبر الحاضنة للعلم والمعرفة الحديثة وتعبر عن طريقة الحياة التي اختطها العلم للمجتمعات الإنسانية منذ العصر الحديث، وتتضمن التفكير الواقعي والعقلاني الناقد الذي يعتبر مفتاح فهم الواقع والتعامل مع مشكلاته ومتطلباته.
ومع انتشار العصبيات في المجتمع العربي في العقود الأخيرة انعكس ذلك على التعليم ومؤسساته العلمية والأكاديمية وأدت إلى تراجع كبير في الوظيفة النقدية للعلم للواقع الفكري والثقافي والاجتماعي وقيمه السلبية. ونجد مؤخرًا الكثير من الأكاديميين الذين ينتمون إلى العصبيات الاجتماعية المختلفة لا يمارسون نقدًا أو تحليلًا علميًا لمفاهيم وقيم وطرق تفكير وثقافة العصبيات التي ينتمون لها، على الرغم أن أغلبيتهم الساحقة درست في الغرب، إلا أن مفاهيمهم وممارساتهم لا تخرج عن العصبية التي ينتمون إليها، بل هناك من يريد أن يضع تبريرات لها ويغلفها بإطار علمي لا يعبر بالفعل عن الأطر العلمية السليمة، بل عبارة عن تمنيات ذاتية لا غير. ولا يخل الأمر من وجود أقلية محدودة لا تقبل بالعصبيات ونتائجها إلا أنها لا تقوى على نقد الفكر المتعصب الجامد للجماعة التي تنتمي إليها فذلك سيأتي بنتائج سلبية وسيتعاملون كمنبوذين من شريحتهم الاجتماعية. وترك ذلك أثرًا سلبيًا على أهم ما في العقل وهو التفكير وتم تحييده وما يحتويه من أدوات ومناهج ومعارف علمية في نقد واحدة من أسوأ الظواهر الاجتماعية والفكرية التي تسود في العالم العربي.
وفي نهاية الأمر تحولت العملية التعليمية من بناء العقل والإنسان على أسس جديدة إلى الحفظ والتلقين وتسطيح المعرفة والمفاهيم العلمية وعدم الإلمام بكيفية الوصول إلى المعلومة عبر الوسائل والمناهج العلمية التي تساهم في تكوين عقل مفكر ومتسائل وباحث ومنفتح على كافة أنماط المعارف ويتناولها برؤية نقدية فاحصة؛ عقل يقظ ومتفاعل مع ما يجري في واقعه والعالم، ومستمر في البحث والتجديد ويدرك الوجهة التحديثية التي يجب أن يسير عليها.

غياب الفلسفة العربية
يعد غياب الفلسفة العربية أحد أبرز الإشكاليات التي أدت إلى جمود العقل العربي وركونه إلى ثقافات تقليدية وأفكار مسلم بها دون نقد أو تمحيص وتتداول بين الأجيال عن طريق الوراثة. وفي هذا الصدد أود أن أشير وبشكل سريع إلى أنني أختلف مع الرأي القائل بوجود فلسفة عربية خاصة بنا يمكن أن تدرس وتبحث نقديًا من قبل الآخرين، لكن ذلك لا ينفي وجود فلاسفة عرب طور البعض منهم أفكارًا فلسفية غربية أو قاموا بتطبيقها، علمًا بأن هذا الموضوع قد يكون مشروع مقالة مستقبلًا. ونتج عن غياب الفلسفة العربية تلاشي وجود تقاليد فلسفية عربية في النقد والتحليل والتركيب وترك ذلك أثرًا بالغًا على العقل العربي الذي لا يتقبل النقد ويقوم على التسليم واليقين الذاتي الصرف بصحة الأفكار، ولا يؤمن بالاختلاف إلى حد كبير جدًا ويبني عقل الفرد منذ الصغر على قيم التميّز عن الآخرين وإقصائهم.     
وعقل الإنسان العربي بشكل عام يتشكل بناء على المفاهيم والقيم الاجتماعية للشريحة التي ينتمي إليها الفرد، أي أن تكوينه العقلي نتاج لقيم بيئته الاجتماعية والأفكار السائدة بها. وهناك ملاحظات عامة تبين كيف أن العقل العربي تابعًا وليس مستقلًا، فهو يتميز بالخضوع للسلطة الاجتماعية والفكرية. والتسلط الاجتماعي يبدأ منذ الصغر من العائلة التي يخضع الجميع فيها لسلطة الأب وقراراته ورغباته وفي الوقت نفسه يخضع الأب لمن هو أعلى سنًا ومكانة اجتماعية في أسرته وهكذا. كما يخضع الجميع لسلطة الجماعة التي ينتمون إليها إذ لا استقلالية للفرد بالرأي وبقراراته أو تفكيره ولا يستطيع الفكاك من سلطة الجماعة وشخصيتها الجماعية. وينسحب الأمر على الجانب الفكري، فهناك أفكار تتداول في مجتمعاتنا منذ القدم وتمارس سلطتها على الأجيال المتعاقبة وكلما توغلت في القدم، كما يقول د. فؤاد زكريا زاد الاهتمام بها، والعقل الخاضع لما هو قديم عبارة عن عقل جامد وتابع لا يعرف شيئًا عن الاستقلالية أو الحرية أو التفاعل مع واقعه المعيش.
ولا تقتصر المسألة على الجانب الاجتماعي والفكري، بل تتجاوزه إلى الجانب المعرفي والثقافي. فنحن لا ننتج معرفة أو فكرًا يذكر، بل نستورد كل المعارف الحديثة والمعاصرة من الخارج، والقليل جدًا منا من ينظر لما يأتينا من الخارج بعقلية نقدية فاحصة، بينما يتبناها الأغلبية الساحقة بشكل تلقائي ويعملون على نشرها وتطبيقها. وينطبق الأمر بشكل واضح على الفلسفة والثقافة، فالغالبية الساحقة من العاملين في المجالين يستمدون مادتهم من الخارج، وما على المثقف أو المشتغل في الفلسفة إلا الأخذ بها ومتابعة تطوراتها الخارجية أيا كان مصدرها. خصوصًا من الغرب، ويعمل على تبنيها ونشرها اللهم إلا من نفر قليل جدًا يكون له موقفه النقدي الفكري أو الفلسفي منها، والذي يقوم على التحليل النقدي والفلسفي لا الإقصائي، لكن مع الأسف العقل النقلي لا يفكر أو ينتج أفكارًا جديدة وهذا ما يصيبه بالجمود.
وقد قام نفر قليل من أساتذة الفلسفة بمحاولة نقل الفلسفة من الأروقة الأكاديمية إلى واقع الحياة اليومية ومعالجة الجوانب الفكرية والثقافية المغلوطة المنتشرة في المجتمع العربي وحققوا بذلك انتشارًا للفلسفة وغيروا الصورة النمطية التقليدية لها التي ترتكز على التجريد والموضوعات غير الملموسة واللغة الفلسفية الصعبة أو الغامضة، ومن أبرز هؤلاء د. زكي نجيب محمود ود. فؤاد زكريا ومحمود أمين العالم وعلي حرب ونفر لا بأس به من مفكري اليسار العربي. وتجدر الإشارة إلى أنه خلال الحقبة الأصولية قامت تلك القوى بخوض حرب شعواء ضد الفلسفة ونجحت في غلق بعض أقسامها ومنعت تدريسها في المدارس في عدد من الدول العربية، وساهمت في مقابل ذلك بنشر التفكير المتعصب والمتطرف الذي يلغي العقل تمامًا ولا يعرف أي معنى للاختلاف مع الآخر وجاء ذلك بنتائج سلبية جدًا على مسيرة الثقافة والفكر العربي.
وعلى الرغم مما سبق لم تخل الفترة التي جمد فيها العقل العربي من الأفراد الذين قاوموا تيار الجمود الجارف وواجهوا بشجاعة مظاهر التعصب والتطرف، فكانوا نبراسًا لعديد من أبناء الجيل الجديد الذي بدأ يعيش واقعًا جديدًا تصنعه التكنولوجيا، وهو أمر قد يدعو للتفاؤل ولربما تنزاح موجة الضياع الفكري الحالية وتخط أفكارًا جديدة تعيد للعقل العربي حيويته وإبداعه ويصنع شباب الأمة العربية واقعها وفكرها ومستقبلها ■