كيف حاربت أوربا ابن رشد وفلسفته؟

كيف حاربت أوربا  ابن رشد وفلسفته؟

تكثر التقييمات الإيجابية عند كوكبة من المثقفين العرب الحداثويين حول دور الفيلسوف والفقيه العربي ابن رشد (1126-1198م) مقارنة بغيره من الفلاسفة والفقهاء على أساس أنه كان أكثر تركيزًا على العقل، ويعتقدون أن نقد الفقهاء العرب الآخرين له في أثناء حياته وتبني الغرب الأوربي له هو أحد العوامل التي أسهمت في التفوق الفكري الأوربي منذ نهاية القرون الوسطى. وذهب مثقف عربي معروف إلى أن «ابن رشد ميت في الشرق حي في الغرب»، على أساس أن أفكاره لم تلق قبولًا في الشرق العربي «اللاعقلاني» بينما شاعت هذه الأفكار «العقلانية» في عصر النهضة الأوربي. لكن هذا التوصيف، وإن كان بمجمله صحيحًا، يحمل قدرًا من التبسيط؛ لأنه لم يتعرض للمعارك الفكرية والانتقادات التي جابهها فكر ابن رشد في المجال أو السياق الأوربي. والأهم، أن فكر ذاك الفيلسوف العربي لم يستطع أن ينتصر بسهولة في أوربا إلا بعد جدال واسع مع الإكليركيين والإنسانويين من جهة ومع مؤيديه من جهة أخرى، ثم جرى تجاوزه في عصر التنوير. 

 

ففي كاتدرائية بيزا الإيطالية جرى رسم ابن رشد بصفته هرطوقيًا وهو تحت أقدام المفكر اللاهوتي توما الأكويني. وبينما يمدحه آخرون على أساس أنه مفكر أرسطي، فإن ثلة من المثقفين الآخرين تهاجمه بأقسى العبارات على أساس أنه لم يكن يعرف اللغة اليونانية.
وينتقده البعض الآخر؛ لأنه كان يعارض بعض الأفكار الدينية. وقد قام رئيس أساقفة مدينة بادوا الإيطالية الكاثوليكي بالتهجم عليه بمنع تدريس نظرية «وحدة العقل والخلود الفردي» (والتحذير من أن الذي يقوم بذلك يعرض نفسه للحرم الكنسي). وكانت تلك النظرية الرشدية تعني أن الناس جميعهم يمتلكون القدرة على الوصول إلى المعرفة نفسها.

«أرسطو العربي» بين الانفتاح والتوتر
ويكشف كتاب «النجاح والاستبداد: العلوم والفلسفة العربية خلال النهضة الأوربية» الصادر مؤخرًا لمؤلفه الهولندي داغ نيكولاس هس أن أوربا المتعلمة كانت منقسمة إزاء أفكار ابن رشد. لقد كان رمز انفتاح أوربا الكاثوليكية على الفكر الفلسفي، كما أنه مثل التوترات التي أنتجها هذا الانفتاح في المجتمع الأوربي، وتجاوز الانغلاق الديني الذي كان قائمًا بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي. وإذا حاولنا اختصار تجربة أفكار ابن رشد الأوربية نجد أنه كان فيلسوفًا بارزًا ذا مكانة معترف بها وكذلك أفضل معلق على أفكار أرسطو. وقد أطلق عليه لقب «أرسطو العربي» وكذلك، «راهب أرسطو»، إلا أن صورة ابن رشد كانت تتحدد أيضًا من خلال ما كان يقوله ناقدوه الإنسانويون واللاهوتيون وأنصار الكنيسة وحتى بعض دارسي أرسطو. وكانت الهجمات من قبل هؤلاء متلونة بألوان دينية؛ لأن اسم ابن رشد كان مرتبطًا بنظرية الخلود الفردي التي كانت تعني في الحقيقة الخلود الجماعي أو الكلي، وليس خلود الفرد الواحد، وكذلك النظرية الأرسطية حول أزلية العالم. 
ويعود رفض اللاهوتيين للرشدية إلى فرانسيسكو بتراركا الذي هاجم ابن رشد تكرارًا؛ لأن أفكاره لم تتفق مع التعاليم الكاثوليكية. وقد ذكر بتراركا في إحدى رسائله إلى تلميذ له: كن عدوًا لابن رشد الذي هو عدو السيد المسيح» ولم يكن بعض المسلمين أقل عداء لابن رشد، حين وضع هذا الفيلسوف العقل طرفًا أصيلًا وأوليًا للحكم بين الظن واليقين، وأوجب النظر بالعقل في الموجودات كلها، رافضًا كل رأي دون دليل أو برهان، كما كان يميل إلى مذهب المعتزلة، الذي يرد الأمور كلها إلى العقل، أما ما يتعارض مع النقل، فيستوجب إعادة تأويله وتفسيره، حتى لو كان نصًا مُنزَّلًا. وربما يكون المصلح الإسلامي المجدد الشيخ محمد عبده (1849-1905) قد تأثر بابن رشد؛ إذ إنه اعتبر أن الفلسفة والدين لا يناقضان بعضهما البعض. وأشار إلى أنه إذا كان النص الديني لا يتفق ظاهريًا مع العقل، فإن علينا تأويله لاكتشاف تماشيه مع العقل.
تراجعت نظرية الخلود الفردي بصورة حادة في النصف الثاني من القرن السادس عشر. وحيث إنها كانت النظرية المركزية عند المؤيدين لابن رشد، فإن هذا التراجع أثر سلبًا على الرشدية بأكملها. ولم يكن موقف الكنيسة هو السبب المباشر وراء التراجع، بل لعل السبب الرئيس لنهاية الرشدية في أوربا كان نجاح النظريات الثقافية للمعلقين اليونان.

اليونانية عوضًا عن اللاتينية
قد تكون الرشدية تلقت الضربة الأولى في الغرب في 1497م، عندما أُنْشِئ كرسي لتدريس الفكر اليوناني الأرسطي، إلا أن هذا السبب غير كافٍ، وهو يفترض كسوف الرشدية في القرن السابع عشر، لكن الأصح أنها تهمشت منذ منتصف القرن السادس عشر. وهنا نستطيع التركيز على سببين: الأول، الاستخدام المدرسي للمعلقين اليونانيين لأفكار ابن رشد، إذ كان لا يمكن فهم «الخلود الفردي» إلا بتفسيرها بصورة تقنية مطولة حيث كانت تجري عقب التفسيرات الأرسطية الطويلة، والتي كان يشرحها تلامذة ابن رشد. هكذا اختفى ابن رشد الفيلسوف عندما لم يعد ابن رشد المعلق مهمًا للتدريس اليومي في الجامعات الإيطالية. وساهم في ذلك اعتماد الكتب المدرسية الأرسطية في التعليم. ولا شك أنه كان لهذا التغيير أثر سلبي على الفلسفة الرشدية.
أما السبب الثاني فهو اندماج الجدال الانسانوي مع ذاك الديني في بعض الأحيان. وكان الهدف الرئيس في ذلك الجدال هو الهجوم على ابن رشد من زاويتين: الأولى، لأنه كان مفسرًا يجهل اليونانية - وهذه ملاحظة موضوعية ولها وجاهتها - والثانية، لأنه كان أيضًا يعتبر فيلسوفًا بعيدًا عن الدين، والسبب الأخير يتفق مع نظرة الفقهاء المسلمين أيضًا. لذلك، كان على المعجبين بالفيلسوف العربي الأندلسي أن يجابهوا الإنسانويين والمتحدثين باسم الكنيسة في الوقت نفسه. وكان نقاد ابن رشد الإنسانويون يتهمونه بأنه كان مفسرًا ضعيفًا لأرسطو وكذلك عدوًا للدين، وكانوا يدعون إلى العودة إلى الأصول اليونانية ونبذ كتابات ابن رشد وتفسيراته. وقد ذهب الفيلسوف أغوستينو نيفو بعيدًا حين قال: «أفضل أن أرتكب الخطأ مع اليونانيين... على أن أكون صحيح الرأي مع البرابرة الذين لا يعرفون اللغات إلا في أحلامهم».

ثلاث تهم أوربية ضد المفكرين العرب
الواقع أنه تسود ثلاث تهم ضد التقاليد والمساهمات العلمية العربية في جدالات عصر النهضة الأوربي: الفساد اللغوي، وعدم الدقة، والزندقة. بالنسبة للتهمة الأولى، كان الاعتقاد الأساسي لكثير من علماء عصر النهضة أن العديد من العيوب الفكرية تنجم عن اللغة غير المثقفة، أو تلك التي تتعارض مع الممارسة الكلاسيكية. كانت اللغة اللاتينية السكولاسكية-أي التعليمية- المستخدمة في العديد من الجامعات متهمة من قبل الإنسانويين بعدم الدقة. وكان العلماء العرب والمسلمون قد استخدموا هذه اللغة للترجمة من العربية، خاصة فيما يتعلق بالمواد الطبية. وقد حوّت هذه الترجمات الكثير من المصطلحات الخاطئة حسب رأي الإنسانويين الأوربيين.
ولم تكن المجادلات المناهضة للعربية مجرد امتداد أو جزء من التيار الإنسانوي الواسع من الانتقادات ضد السكولاستية. بالطبع، كانت الخطابات المعادية للسكولاستية وللغة العربية مرتبطة ببعضها البعض. على سبيل المثال، الانزعاج من التدريس الجامعي التقليدي. لكن الجدال حول اللغة العربية - التي رُكِّز على محاربتها - قد سلط الضوء على ظاهرة مستقلة أخرى في حد ذاتها وهي أفضلية اليونانية على العربية في النطاق الفلسفي. وهناك سببان رئيسيان لذلك: أولًا، الترجمات اللاتينية للنصوص العربية كانت، كما ذكرنا، «مرفوضة» في القرون الوسطى، وكذلك كان تعريب النصوص والمفاهيم اللاتينية. ثانيًا، مارس الكتاب العرب تأثيرًا على مجموعة واسعة من الموضوعات في المناهج الجامعية في عصر النهضة أكثر من المؤلفين اللاتينيين في تلك العصور الأوربية ذاتها. وقد تمت قراءة هذه الأخيرة بشكل لافت في المنطق، والقواعد، وعلم اللاهوت في الجامعات في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة، لكن نادرًا في التخصصات الأخرى. وقد هيمنت اليونانية والعربية على مناهج الطب والرياضيات وبقية الفلسفة، لذلك كان لا مفر من أن يهاجم المصلحون الإنسانويون في العلوم والفلسفة المصادر العربية باعتبارها تمثل العنصر غير اليوناني الأكثر تميزًا في التعليم الجامعي في أوربا.
أما تهمة عدم الدقة، فقد قال بها بعض علماء الفيزياء والفلاسفة والفلكيين متهمين العرب - بالخطأ - أنهم أخذوا كل شيء عن اليونان. والمفارقة أن هذا الرأي يشدد على أن التجديد الفكري الأوربي لن يتحقق إلا بالعودة إلى المصادر الأصلية للثقافة المعاصرة أي اليونانية. وكانت هذه الفكرة متوافقة في بعض الأحيان مع الزعم أن المعرفة الرفيعة متصلة بالمصادر الأصلية، وليس بالثقافات اللاحقة عليها. وبالتالي، فإنه كان على المعارف العربية أنّ تعتمد الترجمات اليونانية، وليس الترجمات اللاتينية. هذا على الرغم من أنَّ بعض العلوم العربية اعتمدت فعلًا على الترجمات من اليونانية.
يعود السبب الأخير المتمثل بالاتهام بالزندقة، إلى رجال الدين المسيحي، لكن أيضًا من قبل العديد من المفكرين الإنسانويين وأولهم الشاعر الإيطالي بتراركا (1304-1374م) في بداية عصر النهضة الأوربي، خاصة وأن هؤلاء كانوا من أنصار تجديد الكاثوليكية. تم توجيه هذه التهمة بشكل حصري تقريبًا إلى ابن رشد؛ لأنه جرى اتهام فلسفته بالحتمية وبأنها تنكر معرفة الخالق بالعالم الدنيوي ■