بلاد العرب أوطاني

بلاد العرب أوطاني

«بلاد العرب أوطاني - من الشام لبغدان»، ما سبق مطلع لأنشودة نظمها السياسي العربي السوري فخري البارودي (1887-1966)، وقد كانت أيقونة الأناشيد في فترة من الفترات خصوصًا في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وقد كنت من الجيل الذي عاش تلك الحقبة، حيث تأثرنا بما تحمله كلماتها من معانٍ تأثرًا كبيرًا، وأصبح اتحاد الدول العربية حلمًا يراودنا، فقد كان الجو العام أو المزاج العربي في تلك الفترة يحمل هذه الأفكار بل ومشبعًا بها، وأصبحنا نقول ونكرر «الوطن العربي»، على اعتبار أنه وطن واحد وعالم واحد، وما يجمعنا من خلاله أكثر مما يفرقنا.

 

كانت أفكار الوحدة العربية تعيش بين جوانحنا منذ الصغر، وكيف لا، ونحن ندرس مقوماتها وأهميتها في مدارسنا، ونسمع صداها في وسائل إعلامنا، ناهيك عن أحاديث الأسر والأهل والمجتمع العربي كله، كانت مشاعرنا فياضة صادقة، وقلوبنا تنبض بحب أمتنا ولغتنا وثقافتنا، كنا نشعر بالفخر والزهو بتاريخنا وأمجادنا، ودائمًا كنا نردد فكرة عودة قوتنا وسطوتنا كما قال الشاعر الكويتي عبدالله العتيبي - رحمه الله - «سيعود إلى الدنيا الزمان العربي».

تأثير سلبي
كان هذا هو الخط العام لثقافتنا وتعليمنا وحياتنا، وبذلك تميز كل من هم في سني أو أكبر مني بسنوات قليلة (عروبيين) إن جاز التعبير، حيث كنا لا نقبل ولا نتصور أن نعيش منقسمين ومتفرقين ومتصارعين، لأننا إخوة في الوحدة والتاريخ والمصير، هكذا كنا نعيش ونفكر ونحلم، وقد كنت من الذين ينظرون للعروبة باعتبارها محتوى ثقافيًا بالدرجة الأولى، هذا المحتوى يرتكز على اللغة والهوية العربية، بعيدًا عن السياسة والأيديولوجيا التي أضعفت أو أثرت بمفهوم العروبة تأثيرًا سلبيًا بالغًا.
وقد كان لوجود جامعة الدول العربية الدور الكبير في تعزيز تلك الأفكار العروبية والوحدوية بغض النظر عن من أنشأ تلك الجامعة وعن أهدافها، وعلاقة ذلك بالإنجليز؛ لذلك كنت ولا زلت أرى أن وجود الجامعة العربية بالغ الأهمية رغم كل السلبيات المتمثلة في ضعفها أو في عدم تأثيرها، وكنت أقول لنحافظ ونحرص على بقائها فهي الرابط بيننا،  وكنت أدعو لتطوير أدائها وجعلها ذات فعالية وأثر، وإذا كانت أجيالنا أو الأجيال التي سبقتنا فشلت في تحقيق بعض أهداف الجامعة، فلا يحق لنا أن نغلق الباب أمام أبنائنا وأحفادنا فقد تأتي أجيال أفضل منا في سنوات لاحقة. 
إذن، كنت منذ صغري عروبي الهوى والهوية، دون تعصب وانغلاق، وكنت دائمًا ولازلت بطبيعة الحال من الذين يرون أن الثقافة واللغة العربية تحديدًا من أهم مظاهر وحدتنا وقوتنا، لأن السياسة مهما عملنا من خلالها تبقى بابًا مواربًا للخلافات والاختلافات فيما بيننا، وهذا ما أثبته واقع الحال في العقود الأخيرة.
وعندما أفكر في الشيء الذي جعلنا نحافظ على أفكارنا ومشاعرنا العروبية الأصيلة - بالنسبة لمن هم مثلي - أجد أن ذلك يعود الفضل فيه بعد الله لمناهجنا الدراسية ووسائل الإعلام العربية بشكل عام، إضافة لاستمرارية وجود الجامعة العربية والمؤسسات المرتبطة بها، كذلك لوجود بعض الهيئات والمنظمات والاتحادات الرياضية أو الثقافية والمؤتمرات المتخصصة في جميع الجوانب التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وغيرها الكثير.
وقد يكون أيضًا من حسن حظنا، وأعني تحديدًا من يحملون هاجس العروبة، أن الخلافات السياسية بين بعض الدول العربية في فترة من الفترات، كانت لا تظهر على السطح بشكل كبير وإن كانت هناك معارك إعلامية طاحنة بين بعض الدول، ولكن في نهاية الأمر نجد أنها تنتهي أو تتوقف بزوال محركيها أو مثيرها.
لذلك كانت العروبة بالنسبة لمن هم مثلي تعيش في أمان كبير، حيث حافظنا عليها من عوادي الأيام وتقلبات الزمان والأحوال، وقد عزز ذلك أن مدخلنا كما قلت سابقًا هو اللغة العربية وإيماننا القاطع والكبير بأهميتها ودورها في حياتنا، حيث كان للقراءة والمطالعة والكتابة الدور الأكبر في ترسيخ قيم العروبة في نفوسنا.

دور محوري
كما كان لكثير من القضايا العربية دور محوري في الحماس الذي بات يسكن مشاعرنا ويتحكم بميولنا واتجاهاتنا، حيث تأتي قضية فلسطين في طليعتها، وكل قطرة دم فلسطيني نُزفت فهي جزء من دمائنا، وكنا نحلم بعودة فلسطين كما كانت عربية أبية عصية على من يحاول طمس هويتها ويلغي وجودها.
وكنا في الوقت نفسه نفخر بالثورات العربية ونضالها الكبير ضد الاستعمار، والتي تمثل الثورة الجزائرية جوهرة تلك الحركات والثورات، لذلك نجد أن اسم المناضلة جميلة بو حيرد لازال يعيش في ذاكرتنا العربية، وغيرها بالطبع من الأسماء والمناطق العربية، والتي نجدها في أسماء مناطقنا وشوارعنا ومدارسنا ومؤسساتنا، حتى المحلات التجارية تأثرت إعلاناتها ومسمياتها بهذا المزاج العام، وقد أشرت إلى ذلك في مقالة كتبتها في جريدة الوطن الكويتية في 28/5/1999، تحت عنوان «مصبغة الأمة» حيث قلت في مطلعها «لو تذكرنا أسماء المحلات التجارية قديمًا، وقد لا يزال البعض منها يسير على المنوال نفسه، نجد أنها كانت تستخدم مسميات ذات دلالات سياسية واجتماعية، مثل «مطحنة الأمة العربية»، «جزارة الوطن العربي»، «محمصة الشعب»، وغيرها من المسميات، والمشكلة أن بعض هذه المسميات كانت تمثل آمالًا كبيرة، تحقق منها الجانب الخفي، أي طحن الشعوب وجزر الأمة العربية إلى آخر هذه المفاهيم، ولم تتحقق منها الآمال التي كان المواطن العربي ينشدها».
وفي المقالة ذاتها أعلق قائلًا: «لا أعرف هل هي خاصية لدى الشعب العربي فقط أم أن الشعوب الأخرى تكتب مثل ما نكتب، وتتغنى كما نتغنى، مما يجعلنا نطلق أسماء الزعماء والقادة أو المفاهيم التي تعكس الأيديولوجيات على المحلات التجارية، والمضحك أحيانًا أن هذه المسميات لا تخلو من الطرافة، مثلًا: تجد محلًا لبيع الدواجن مكتوبًا على لوحته الإعلانية محل (أفكار)، أو محلًا لتبديل زيوت السيارات إعلانه عن العواطف أو المشاعر».
وقد كان أيضًا لمعارض الكتب العربية والأسابيع الثقافية التي تُقام في دولنا العربية دور كبير في تعزيز عروبتنا، فكنا نقرأ ونتابع إصدارات الدول والمؤسسات الحكومية والأهلية، ونشاهد تراث دولنا العربية من خلال الأسابيع الثقافية التي تقام في تلك السنوات الخوالي، وعندما كنت في تونس (2017 - 2018) كنت أقول لإخواننا التونسيين: «في صغري كنت أترنم (جاري يا حمودة) ولا أعلم من هو حمودة».
لذلك كانت معارض الكتب والأسابيع الثقافية من أهم روافد معرفتنا وثقافتنا بمحيطنا العربي وتراثه، ولا عجب أن نجد مجلة العربي الكويتية التي صدرت عام 1958 لها مكانتها الكبيرة والعظيمة في وجدان كل مثقف عربي، حيث لعبت دورًا كبيرًا ومهمًا في نشر الثقافة واللغة العربية، وساعدت في زيادة معرفتنا بواقعنا العربي والعالمي على حد سواء، ومن هنا أتصور أن معظم من هم في جيلي يعرفون الكثير عن تاريخ وجغرافيا وثقافة وفنون وطننا العربي، بل كان من أهم ما نفاخر به معرفة تلك الأمور، والتي مع الأسف ضعفت اليوم بشكل كبير.
وإن كان هناك شيء يُحسب لجيلي في يومنا الحاضر، فهو أننا لا زلنا متمسكين بأفكارنا العروبية والتي تستند إلى اللغة والهوية العربية، مؤكدين تسامينا على كل الخلافات، ومعززين مفهوم أن قوتنا في وحدتنا وعروبتنا، وأن العالم لا ينظر إلينا إلا من خلال هوية واحدة، وأن وجودنا مرتبط بما نملكه من مقومات حضارية وثقافية، وعليه يجب أن نحافظ على تلك القيم والصورة العروبية.
وعندما أعود بذاكرتي لماضٍ عشته من سني عمري، ذلك الماضي الذي كان مشبعًا بالعروبة ومملوءًا بمشاعر متحفزة بتحقيق التكامل والتواصل بين أرجاء الوطن العربي، أجد نفسي تنتابها موجة حزن وسكون وصمت روحي داخلي، وذلك لما آل إليه واقعنا العربي، وما أفرزته الخلافات والمصالح التي طغت على كل فكر وسلوك، وجعلتنا على الصورة الأليمة التي نراها اليوم بكل حزن وحسرة وندم.

قيم العروبة
وإذا كنت أنا من الفئة التي لازالت متمسكة بمفاهيم وقيم العروبة، فإن هناك فئة هدمت أو تحاول القضاء على كل القيم التي كنا ندعو إليها ونعززها، وأقولها بحسرة بالغة إن هذه الفئة كان لها الصدى والوجود الأكبر في ساحتنا العربية، وبذلك كان سلوكهم وأفكارهم بمنزلة الإرهاصات الأولى لما نراه اليوم من تشرذم وخلاف واختلاف على جميع الأصعدة، لدرجة أن الأمر وصل للصراعات الحادة بين الدول العربية، وبعضها وصل لمرحلة التقاتل فيما بينهم أو الغزو كما فعل العراق عندما اجتاح الكويت في الثاني من أغسطس عام 1990.
ومن يتأمل واقعنا اليوم يجد أن لتلك الصراعات آثارًا ليست سياسية وحسب، ولكن كانت آثارها الوجدانية والفكرية كبيرة، خصوصًا الغزو العراقي للكويت، والذي أفرز مظاهر سلبية عديدة مزقت أمتنا العربية شر ممزق.
وإذا كنا نفهم المنطق السياسي لبعض القادة، نجد أن مصيبتنا الكبرى في أهل الثقافة والأدب حيث برزت ظاهرتان، الأولى تتجلى في أعداء العروبة الذين يظهرون العداء لها بشكل صريح، فمن هؤلاء من نادى بالفرعونية أو الفينيقية وغيرهما، ومنهم من تطرف في دعوته ونادى بالكتابة باللهجات المحلية أو إلغاء الحروف العربية واستخدام اللاتينية، مدفوعين بحقد كبير على العروبة، وفي المقابل كان هناك من يدعو للعروبة بشكل مستفز وعنصري بغيض، يقوم على نفي الآخر حتى وإن كان من أبناء وطنه، ولا شك أن كلا الاتجاهين من أشد أعداء العروبة.
أما الظاهرة الثانية فبرزت من خلال الأدب الانهزامي والمحبط والمثبط للهمم، خصوصًا بعد نكسة عام 1967، والتي لم تكن هزيمة عسكرية وحسب ولكنها كانت هزيمة حضارية ثقافية وجودية، لأنها أفرزت شعراء وأدباء نقدوا وقدحوا في أمتنا العربية، ومارسوا جلد الذات وإظهارنا بشكل هزلي بغيض، وأخذوا ينعتوننا بأبشع الأوصاف والألقاب، ولم نجنِ  أية فائدة من أفكارهم سوى تعزيز الانهزامية وترسيخ أسلوب التهكم على الذات.
وإذا كانت أوربا بشكل عام تدين لأدبائها ومثقفيها بأنهم مهدوا الأرض الأوربية لظهور الدول وتطورها وتعزيز الكثير من القيم السياسية والاجتماعية والتطور الثقافي - رغم انتقادنا لبعضها - فنجد في المقابل أن آفتنا  في دولنا العربية كانت في بعض المثقفين الذين ساعدوا بصورة مباشرة أو غير مباشرة وبشكل متعمد أو غير متعمد على ما نراه اليوم في واقعنا المؤلم، وجاءت تحليلاتهم وكتاباتهم معاول هدم لا أداة بناء، حيث نجدهم إما أنهم يعززون قيم التعصب أو يسوغون للنظم السلطوية أو يعلمون جهدهم لتجريف العقول وتزييف الوعي العربي حتى وصلوا إلى تغييب ذلك الوعي تمامًا.
وقد ساعدت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في تعميق جراحنا وخلافاتنا بشكل واضح لا يغيب عن ذهن الحصيف، حيث أظهرت وبصورة جلية أسوأ ما لدى بعض العرب، سواء منهم من يعيش على أرض  وطننا العربي أو من يعيش بعيدًا، حيث باتت تلك الوسائل منابر سوء بكل ما تعنيه الكلمة، بل أبرزت أفظع ما يملكه البعض من أفكار وسلوك مشين، حيث كانت المحصلة النهائية ظهور العداء السافر لبعضنا البعض، وبروز النرجسية وجنون العظمة لدى فئات كثيرة لا يمكن تجاهلها، مما أضعف كل ما كنا ننادي به من عروبة ووحدة وتضامن، وكأننا لا نتعلم من دروس التاريخ وتقلبات الدهور.
وقد كتبت العديد من المقالات حول وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها علينا، حيث ذكرت في مقالة عنوانها (المغردون) نشرتها يوم الأربعاء 16/11/2011 «ولكن كأي وسيلة أو عمل إنساني نبيل الغاية، نقوم نحن بالانحراف بها عن جادة الصواب، وتظهر كل أفكارنا ومحتواها في الوسائل، فما نعانيه الآن من هبوط في الحوار، وتتبع المعلومات الخطأ ونشرها، ما هو إلا انعكاس لما نحمله من ثقافة التشهير... إننا نعيش أزمة قيم وأخلاق لا أكثر، وثقافة عززناها بكل سلبيات العالم خلال الفترة الماضية بشكل كبير ومتسارع».

تقهقر واضح
وبسبب تلك الأجواء والأهواء التي سممت واقعنا الفكري والثقافي، أصبح هناك تقهقر واضح في الاهتمام بالثقافة واللغة على مستوى الوطن العربي، وضعف التركيز على الإطار الكبير لمركباتنا الثقافية أمام النزعات العنصرية المتقوقعة على الذات، لذلك خرجت أجيالنا الحديثة دون هموم ثقافية عربية لها صفة العموم، بل إن بعضهم لا يأبه بها نهائيًا ويعدها من التراث الماضي، وساعدهم على ذلك ضعف الاهتمام بالتعليم وتركيز وسائل الإعلام على الثقافة القومية بشكل أكبر ■