المسرح الكويتي في مئة عام

 المسرح الكويتي  في مئة عام

 التفت الشيخ عبدالعزيز الرشيد المدرس في الأحمدية إلى الوسائل التعليمية الجديدة، وتجلى ذلك في اختياره للشكل المسرحي، الذي أثمر العرض الأول ميلاد التجربة المسرحية في الكويت، فقد ألف نص «محاورة إصلاحية» الذي قدمه طلبته إلى المجتمع في احتفال نهاية العام الدراسي (1924)، عرضه ثلاثة أيام، وحضره جمهور يتابع ويستمع ويتفاعل. وقد حرص على طباعته في كتاب في السنة نفسها.

 

ربط الشيخ عبدالعزيز الرشيد بين العرض المسرحي وشكل المناظرة التي تتواجه بها الأفكار، وقام بتنسيق الحوار الذي توزع بين أكثر من شخصية. وأدار الأحداث حول نقطة صدام بينه والمعارضين له على إدخال العلوم الحديثة، قدمها بلغة مناسبة نأى فيها عن النزعة البيانية لصالح بيان الفكرة بلغة مباشرة. 
في ثلاثينيات القرن العشرين اتجه مجلس المعارف إلى تطوير التعليم بالاستفادة من الخبرات العربية باستقدام أول بعثة فلسطينية (1936-1937) وكان من بينها مدرس اللغة العربية الأستاذ محمد محمود نجم المهتم بالمسرح المدرسي، والذي تلقى فن الإلقاء على يد الفنان زكي طليمات. فاختار مسرحية (عمر بن الخطاب في الجاهلية والإسلام) (1358)، وأعقبها عرض آخر هو: «فتح مصر». مثل العرضان حدثًا تربويًا واجتماعيًا تفاعل معه جمهور متفتح تقبل هذا الفن الجديد باحترام وتقدير؛ حضره سمو أمير الكويت آنذاك الشيخ أحمد الجابر وجمهور كثيف، وكانت النساء يجلسن على سطح مدرسة المباركية. 
في الأربعينيات توالت العروض المسرحية متجاوزة حدود المدرسة بعروض عامة للجمهور وبرز الدور المحوري المؤثر في تاريخ المسرح للرائد حمد الرجيب ونشاطه فيه، إخراجًا وتمثيلاً، حتى مطالع الخمسينيات ليتجه بعدها إلى التخطيط والإشراف لقفزة مسرحية في أواخر الخمسينيات. ويبرز معه الفنان محمد النشمي الذي سيتولى السير في طريق عروض المسرح العامي والارتجالي. 

توجهات العروض المسرحية في الأربعينيات وما بعدها
اتخـــذت العـــروض مســـار التوعيـــة القومية والوطنية وتنمية الوعي بأمجاد الأمة، وقد كان وراء هذا التوجه تيارات فكرية هي: القومي والإسلامي وطليعة الليبراليين الذين يرحبون بهذا الفن ويستحسنون بعث أمجاد الأمة، وقد اتجه مقدمو هذه العروض للاستفادة من المناسبات العامة لتقديم العروض فيها، مثل المناسبتين: المولد النبوي والهجرة، فتقدم عروضًا متصلة بالمناسبتين ويرافقها عروض مرتبطة بالتاريخ العربي أو بعض النصوص العالمية، وهذه أبرز النصوص التي تم تقديمها: الهجرة، غزوة بدر الكبرى، قبس من الصحراء. وكانت الشخصيات التاريخية مصدرًا لا ينضب بالنسبة للمسرح: عبدالرحمن الناصر، شهامة العربي، فتح الأندلس، صلاح الدين، أبو محجن الثقفي إضافة إلى التوجه إلى بعث الأمجاد العربية: الميت الحي، من تراث الأبوة، المروءة المقنعة، وهي مسرحية شعرية للشاعر محمود غنيم ومثلها معركة اليرموك. وكان هناك توجه للاستفادة من المسرحيات العربية المشهورة من مثل «مجنون ليلى» و«مسمار جحا» و«سر الحاكم بأمر الله» ومن المسرح العالي: «في سبيل التاج»: للكاتب الفرنسي فرانسوا كوبيه. تاجر البندقية هملت، أضرار التبغ: فبراير 1947. طبيب رغمًا عنه: موليير البخيل.
هذه العروض وغيرها تكشف الاتجاه النشط والمتحمس للمسرح شاركت فيه كل المدارس بما فيها المعاهد الدينية، كما أنه لم يقتصر على مدارس البنين، فللطالبات نشاط فيه: العباسة أخت الرشيد وفي سبيل التاج...  
وقد كان حمد الرجيب هو الذي تولى إخراج هذه المسرحيات. 

المسار نحو العامية 
كانت لغة العروض العربية الفصحى، يصاحبها أو ينفرد أحيانًا فصل هزلي بالعامية: مسرحية «أم عنبر»، الكولي المفتش، مسرحية عروس الزنوج أو آكلي لحوم البشر لحمد الرجيب. 
إن هذا الاتجاه سيجد اهتمامًا عند رائد آخر هو محمد النشمي الذي تبنى السير في طريق المسرح المرتجل والمواقف الناقدة الساخرة في الأربعينيات، ثم تكثف نشاطه في الخمسينيات حين شكل (فرقة الكشاف الوطني المسرحية) 1954، التي اتخذت بعدها اسم «المسرح الشعبي». بدأ مستقلاً ثم انضوى تحت رعاية دائرة الشؤون الاجتماعية في أواخر الخمسينيات.
قدم النشمي، ما بين (1951-1966) ما يقرب من 25 مسرحية، جاءت في مرحلته الأولى ارتجالية خالصة لا يعتمد فيها على نص مكتوب، ولكنها أفكار لمواقف وأدوار يختارها للممثلين ليقدموا عرضًا ارتجالياً قابلاً للإضافة والتغيير تبعًا لاجتهاد الممثل واستجابة الجمهور بل ومساهمته. 
تتجه عروضه إلى النقد المباشر: نقد التجربة الإدارية (مدير فاشل)، (قرعة وصلبوخ) تدور حول إشاعة أُطلقت بأن النفط يتدفق في ساحة المنزل لترصد ما طرأ على الأسرة بعد النفط، حيث الثراء والبذخ.
وتبدأ مرحلة تالية يلجأ فيها إلى النص المكتوب حين انضوت الفرقة تحت رعاية إدارة الشؤون الاجتماعية (1957) فقدم: ضاع الأمل، شرباكة، حظها يكسر الصخر، بغيناها طرب صارت نشب. ولكنه حافظ في تخطيطه لها على جو وروح المسرح الارتجالي وأسلوبه المتفاعل مع الصالة والحوار المناسب لخلق المفارقات اللفظية، مشبعًا بروح اللهجة ومصطلحاتها وأمثالها. 

مؤسسات المسرح من الوعي إلى التنفيذ
كان ثمة وعي بأهمية المسرح، وهذا الوعي والاهتمام توافق مع بداية التشكيل للدولة الحديثة، ومن حسن الطالع أن يسند للرائد المسرحي حمد الرجيب عام 1954 إدارة الشؤون، وفي هذا الموقع الجديد سيكون له أثره الإيجابي والحاسم في رسم مستقبل الفن المسرحي والموسيقي في الكويت.
في عام 1958 دعي زكي طليمات لإلقاء محاضرات عن المسرح ولتقييم حركة المسرح فكتب تقريرًا ومقترحات كلف بعدها بتنفيذ مقترحاته فشكل فرقة (المسرح العربي) الرسمية وبدأت أول عروضها بمسرحية «صقر قريش»، من تأليف محمود تيمور، فبراير 1962. وقد قدم هذا العرض عدد ممن سيصبحون نجوم المرحلة مثل: خالد النفيسي وعبدالحسين عبدالرضا ومريم الغضبان ومريم الصالح وغانم الصالح وعبدالرحمن الضويحي وسعد الفرج.
واستمرت عروض هذه الفرقة سنتين، قدمت خلالها تسع مسرحيات، ثماني منها باللغة العربية ومن كلاسيكيات المسرح العربي.
كان بجانب هذا التخطيط للحركة المسرحية توجه عند جيل من الشباب يسعى لتجاوز هذا التنظيم الرسمي مستفيدًا من قوانين الدولة الجديدة والتي تسمح بإنشاء الجمعيات الأهلية المتخصصة لتمارس نشاطها. وعليه تم إنشاء أربع فرق (1963-1964) شكل نشاطها قوام الحركة المسرحية منذ مطلع الستينيات، وهي: المسرح الشعبي، المسرح العربي، مسرح الخليج العربي، فرقة المسرح الكويتي.
 وفي السبعينيات سمح بتشكيل فرق أو مكاتب خاصة تزاول المهنة تجاريًا، فأسس الفنانان عبدالحسين عبدالرضا وسعد الفرج (المسرح الوطني) وقدما مسرحيات: بني صامت، وضحية بيت العز، وعلى هامان يا فرعون. ثم انفرد عبدالحسين عبدالرضا بإنشاء (مسرح الفنون) ليقدم: عزوبي السالمية، باي باي لندن، باي باي عرب، فرسان المناخ، سيف العرب، وغيرها. 
واشترك سعد الفرج مع عبدالأمير التركي في تأسيس (فرقة المسرح الكوميدي) التي قدمت: حرم سعادة الوزير وممثل الشعب وحامي الديار ودقت الساعة ومضارب بني نفط وأعمالاً أخرى، أما محمد الرشود فقد أدار (مسرح الجزيرة) ليقدم: مسرحيات: أرض وقرض، مصارعة حرة، لولاكي، إذا طاح الجمل، انتخبوا أم علي. 
وتوالى بعد ذلك تأسيس المكاتب الخاصة التي لعبت دورًا مهمًا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين وقد استأثرت بجهود الفنانين الكبار. 

قضايا واتجاهات 
ركز مسرح الستينيات على التحولات الكبيرة في المجتمع وانعكست على المفاهيم والسلوك، أبرزها صراع بين فكرين وجيلين صنعته الثروة ورغبة الانطلاق لمجتمع جديد. في مسرحية «عشت وشفت» لسعد الفرج، أب أعطى نفسه حق التخطيط واتخاذ القرارات ويعمل للسيطرة على النتائج ويقف بحزم أمام أي قرار يستجيب مع الواقع الجديد، يرفض قبول تثمين بيته القديم ويعترض على بناء بيت جديد. وصادر حرية أبنائه حتى في ترديد ما تعلموه، مع أنه هو من وجههم للتعليم؛ فالأرض عنده ساكنة لا تدور، وهناك قمر واحد هو «قمر ربي». وجاءت ردة فعل الجيل الجديد الذي استطاع أن يمسك بالأمور وأعاد سيطرته ليستسلم ويوجز ما آل إليه الموقف بحوار بين هذا الجد أبو فلاح وحفيده حسين: 
حسين: الأرض تدور؟
أبو فلاح: أي نعم تدور غصبًا عن جدك.
حقًا إنها تدور رغم عناصر الفناء المتسلسلة، كان تسليمه ليس تسامحًا أو تفهمًا، ولكنه هزيمة مباشرة.
 في مسرحية «المخلب الكبير» لصقر الرشود شخصيات قلقة حادة في مواقفها، بعضها غير متأهب لقبول التغيير وآخر غير منسجم مع الواقع يريد تغييره. أب آخر يمثل فكرة الزوال يعزف عن التمتع بثروته وتتملكه رغبة اعتقال آمال التقدم، يعاضده في موقفه قوة الابن الأكبر خليفة وهو اليد المنفذة لهذا التسلط، مزيج من تسلط للماضي وبطشه وقصور نظرة الحاضر، وفي المقابل أم وأبناء مسيطر عليهم، علاقة تجسّدها لوحة رمزية معلقة على الحائط لقط أسود يفترس حمامة بيضاء. وأول مقدمات النص عبارة تقول: «إنني أكره القوي الظالم كما أكره الضعيف المظلوم». 
 في مسرحية «الطين»، مجتمع الوفرة والرفاهية وفيه نلتقي بأب آخر، مستسلم متذمر من وضع صنعه ولم يستطع التحكم به، وابنة فرضت إرادتها عليه. علاقات غير سوية تجسدها نماذج بشرية شبيهة بشخصيات المذهب الطبيعي الذي يقدم الناس وحقيقتهم الفجة. نرى: الأب فهد يشتري باسم الزواج فتاة شابة، عاجز عن أن يتحكم فيها، والابنة تخفي قبحها بشراء زوج لها، واقع جديد؛ فمع الثروة يبرز الاستغلال، يصبح حكم المادة صلبًا متحكمًا، فالطين صار اسميت، كما يقول العبد مرزوق. 
يركز عنوان مسرحيته «الحاجز-الملالة» على موضوعها المعبر عن تلك المنطقة الفاصلة بين جيلين متتابعين، فأصبحا مثل «الملالة» المعلقة بالهواء. فالانقلابة الحادة جعلت هذا الجيل معلقًا منفصلاً متأرجحًا بين السماء والأرض، كل شيء مؤجل في انتظار اللحظة التي يتم فيها اجتياز هذا الحاجز.  
جاء واضحًا أن فضاء الأسرة مجال للاختبار، فيه تتناسل القضايا الكاشفة لحراك المجتمع وتمس جذور انتماءاته وتحولاته الكبرى. في مسرحية «الجوع» لعبدالعزيز السريع عرض للواقع المتناقض بين جيلين، جيل مضى ولكنه متحكم يصنع حالة جوع معنوي: جوع القلب = جوع الروح إلى الحرية والمعرفة.

نقد الحاضر
في موازاة لعرض حالات الصراع مع الجيل السابق تبلور اتجاه ناقد للحاضر القائم ناظرًا في التغيير وما رافقه من سلبيات تُفْقِده إيجابيته ومبرراته. وظف عبدالرحمن الضويحي حسه الشعبي لفحص المجتمع القائم ونقده وإبراز سلوكياته المستحدثة ويواجهه بعيوبه الطارئة، فمن ملامح مجتمع الرفاه تراجع مكانة بعض الرجال أو تراخي قبضتهم لصالح المرأة، (سكانة مرته). أو يقدمه في صورة غير سوية؛ في مسرحية (اصبر وتشوف) تستبد الزوجة فيلجأ الزوج إلى حلم يكشف رغبة لا واعية، فيه يتحول جنس الزوجين، فيصبح الزوج زوجة والعكس، وينتج عن هذا التحول محاولة كل واحد منهما الانتقام من صاحبه، بل إننا نلمس، حين تبدلت المواقع، أن أفعال الزوج، الذي كان في الواقع امرأة، تأتي وكأنها تثأر من عهد الأنوثة والعبودية. 
وتأتي مصارحة هذا المجتمع المتحول بحقيقته في مسرحية «شياطين ليلة الجمعة» لصقر الرشود وعبدالعزيز السريع من خلال عين فاحصة للمجتمع القائم، ينظر إلى ذاته لمواجهة السؤال: لماذا هو هكذا؟ يقظة الوعي الداخلية، العين التي تعي ما حولها وتنتبه إلى ما آلت إليه ليلة الجمعة التي كانت مباركة تصفد فيها الشياطين، لوحات تتوالى، كل لوحة تكشف جانبًا من أمراض: الإدارة والقانون والفكر والثقافة.
ومن أمراض الحاضر القائم حالة الاغتراب، في مسرحية (عنده شهادة) لعبدالعزيز السريع اغتراب معرفي، يوسف تلقى تعليمًا رفيعًا وتشكلت لديه ثقافة مغايرة فتجسد اغترابه في جانبين، لم يحسم أمره عاطفيًا = الزواج، اجتماعيًا = العمل. وتتم مواجهة هذا الاغتراب بموقف كل من أخيه العامل المتفاعل مع مجتمعه، وأخته التي تقوض تصوره السلبي عن الفتاة الكويتية. 
إن هذا العالم أو الاختيارات المنحرفة ما نتائجها؟ وما المستقبل الذي سيترتب عليه؟ 
من هذا السؤال تمتد نظرة سعد الفرج في مسرحيته «الكويت سنة 2000»، التي تجري أحداثها في مستقبل مفترض سيأتي نتيجة لحاضر قائم تم فحصه ونقده ومن ثم أدينت سلبيته وسلوكه وتعامله مع وفرة الثروة تعاملاً ستكون له نتائج وخيمة وختام مأساوي.
تبدأ الأحداث من واقع حياة مرفهة لاهية لمجتمع أغلق أذنيه وناصب العداء لصوت (علاوي) الذي يقف منفردًا يحذر من نتائج هذا السلوك:
-أيها النفطيون... يا من أعماكم النفط عن مصير محتوم...
وتزول ثروة النفط بنضوبه كما كان متوقعًا، وانقلب حال أفراد المجتمع إلى الفقر عاجزين عن مواجهة هذا الواقع الجديد، لا يتقنون أية حرفة، بل ليس من بينهم من يعرف أركان الإسلام.
ليس لهم إلا «الموت الذي حكمتم به على أنفسكم: لم يبق لكم خيار... إما السفر أو الموت». 
في حقبة السبعينيات تراجع الاهتمام بفكرة التحول والصراع بين قيم الماضي وعاداته والحاضر ومتغيراته إلى مواجهة بروز نزعة، بل شهية اقتناص الثروة والإثراء، فكان اقتناص المال هو الهدف، وبخاصة عندما قذفت مرحلة (سوق المناخ) بشعارها وفرصها، برزت سطوة المال وتفرده، المال وليس غيره، الذي تنكشف محوريته في دلالة عنوان مسرحيته (بكم أقول) لخالد عبداللطيف رمضان، فهذه العبارة حاضرة عادة في الحراج (المزاد)، أي المعروض خاضع لسطوة المال لا غيره يستعار للدلالة على العلاقات المادية المستشرية في المجتمع.

المسرح السياسي
كان عقد السبعينيات وما بعده يموج بأحداث ساخنة، عربيًا، ومحليًا بعد إخفاقات الستينيات السياسية قوميًا ومحليًا، فانفتح الباب واسعًا للمسرح السياسي الذي أكثر من حالة التستر خلف استعادة أحداث التاريخ موضوعًا، حيث الاغتراب المكاني واللغة العربية حوارًا. اختار حسن يعقوب العلي حكاية النائم واليقظان التي بدأتها شهرزاد، في ألف ليلة وليلة، ثم جاء مارون النقاش ومسرحيته «أبو الحسن المغفل»، ومن ثم سعد الله ونوس «الملك هو الملك».
فرد من عامة الشعب تعرض للظلم فراح يتمنى تولي مقاليد الأمور لإصلاحها وتمضي الحكاية من حالة التمني والأحلام إلى الممارسة العملية وتلتقي هذه الرغبة عند السلطان الذي توقع أن مَن عانى الظلم أدرك الحاجة للعدل، فلا يعرف العدل إلا مَن ذاق مرارة الظلم. ولكن تغيير المواقع يغير المواقف، فعندما تولى هذا المظلوم الأمر جاءت أحكامه استبدادية؛ وأفعاله متخبطة؛ يطلق المساجين دون تمييز، ويُدخل في السجن من لم يدخله، أما سلوكه الشخصي فمشوب بالفساد تفرحه الهدايا... فمَن عانى الفقر والحرمان لن تشبعه كنوز سليمان. 
  في نصوص هذا المسرح السياسي يتجلى الاتكاء الواضح على معطيات الإطار التراثي فبرزت أنماط الشخصيات المتناسبة مع هذا الجو: رئيس ووزراء ورجال أمن ومخبرون، فمنها تتشكل أركان السلطة في كل الأزمان، ومن ثم يُسهِّل هذا الاستدعاء التاريخي عملية ربط حلقات التواصل بين فضاء الماضي والواقع الراهن. 
وعلى مستوى النقد السياسي محليًا سنجد بروز أزمات سياسية وصعود تيارات متنافسة، فتأتي تجربة سعد الفرج وعبدالأمير تركي بمسرحية (دقت الساعة) التي تنطلق من الأجواء نفسها التي كانت في مسرحية «الكويت سنة 2000». مجتمع عابث، مشغول بالرقص، وكانت المقاربة الجديدة مختلفة من حيث أن السابقة كان همّها الخوف على المستقبل، أما هذه فمحورها الاستيلاء على الحاضر، فثمة صراع للسيطرة بين ثلاث فئات: الفئة المسيطرة تاريخيًا، طبقيًا وعائليًا، وتيار ديني يلوح بأحقية وقدرة مبادئه على إنقاذ المجتمع وتيار ليبرالي يدعو لأفكار التحرر على مقياس المفاهيم الحديثة. وتبرز دعوة إلى ضرورة نبذ الطائفية التي استشرت وتُذكِّر بوحدة كانت قائمة في المجتمع التقليدي، ويتواتر التركيز على هذه المواقف وطرائق المعالجة مسرحيات تالية: حامي الديار وهذا سيفوه.
تعرض هذا المسار للمسرح السياسي لهزة أوقفت انطلاقه بعد تقديم مسرحية «هذا سيفوه» التي أثير حولها ضجة أسفر عنها محاكمة العاملين فيها وصدور أحكام ضد بعضهم بالخروج عن النص المجاز.
 
المسرح في الربع الأخير من القرن العشرين
سيطرت أعمال الفرق الخاصة والمكاتب الفنية على ساحة عروض الربع الأخير من القرن العشرين وتركز نشاط الفرق الرسمية على تقديم عروض متفرقة، ولكنها من جهة أخرى انصرف نشاطها إلى المشاركة في المهرجانات المحلية والعربية مثل مهرجان دمشق وقرطاج والقاهرة التجريبي، وقدمت أعمالاً متميزة حصل عديد منها على جوائز وإشادات. 
نشير ابتداء إلى الأثر المتميز الذي تركه العرض الكويتي الذي قدمته الفرقة الأهلية للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مسرحية «على جناح التبريزي وتابعه قفة»، وهي من تأليف الفريد فرج وإخراج صقر الرشود في مهرجان دمشق (1975) وقد حظيت بتقدير خاص. وتوالت المشاركات ومن أبرزها: 
«حفلة على الخازوق» والحامي والحرامي واحذرو لمحفوظ عبدالرحمن و«رحلة حنظلة» من إعداد سعدالله ونوس و«القضية خارج الملف» للمؤلف مصطفى الحلاج، «اللعبة» لخالد عبداللطيف رمضان، ومسرحية «الثمن» لآرثر ميلر التي أعاد صياغتها وأعدها عبدالعزيز السريع وأخرجها فؤاد الشطي. 
إن هذه المشاركات جعلت المسرح حاضرًا في الساحة الثقافية مع الاعتراف بأن وضعًا صعباً يحيط بالمسرح الذي شهد انحسار الاهتمام بالعروض المسرحية، وهي حالة عربية وعالمية. 
ولكننا نشير إلى جهود جديرة بالنظر فقد برزت رؤى جديدة قدمها عدد من المبدعين الذين خطوا خطوات في تطوير الأداء وتنويع التجارب في مجال تقنيات العرض وإدخال التجارب الجديدة وبخاصة في مجال الإخراج: فؤاد الشطي ومنصور المنصور وبخاصة في مسرح الطفل. وعبدالعزيز الحداد الذي اتجه إلى التجريب في «مشاجرة رباعية» و«الرحلة» من تأليف خالد عبداللطيف، ثم انتبه إلى غلبة الإخراج المستند على بلورة الكلمة التي تأتي في المقدمة، فاتجه فن البانتومايم الإيمائي والمونودراما، فكانت تجربة «غربة مهرج» ثم خيال مهرج وتعامل مع مسرحة نص تراثي «مناظرة بين الليل والنهار» (2003) فكان مبشرًا بهذا الاتجاه ومواصلا العطاء فيه. 
ينطلق حسين المسلم من الدراسة الأكاديمية (رجل وامرأة) تشكيل مستمد من المسرح الشكسبيري وسارت أعماله في الخط نفسه وخاصة مع النصوص الشكسبيرية، أما سليمان البسام فقد بدأت تجربته المسرحية في بريطانيا، فقدم عرضه الأول «مؤتمر هاملت» باللغة الإنجليزية من خلال فرقة زاوم، ثم أعاد عرضها معربة مربوطة شكلًا ومضمونًا مع الواقع العربي بأسلوب تجريبي يخرج النص من سياقه ليدمجها في العصر والبيئة التي يخاطبها؛ ولقد قدم التسلط والدكتاتورية والإرهاب، وكلها معطيات عصرية حاضرة، خرج فيها العرض من التوجه الجدلي الفكري إلى المسرح السياسي. وقد حصل هذا العرض على جائزة أفضل عرض في مهرجان القاهرة التجريبي (2002). 
 وعاد إلى التراث العربي «كليلة ودمنة» وفيها تناول لهامش متمثل في حكاية ابن المقفع ووقوعه في شباك الصراع السياسي مما أدى إلى مقتله. أما مسرحية «ريتشارد الثالث: مأساة عربية» فينطلق بها من عصرنا المليء بالصراع والعنف مستخدمًا تقنيات المسرح الحديث التي أتقنها، وكان الجو المرسوم يجمع بين العودة إلى عصر النص ثم يعود عربيًا حدثًا وجوًا فقدم من خلالها مسرحًا عربيًا متشبعًا بالتراث العالمي. 
ويبقى بعد ذلك فضاء المسرح مفتوحًا ■